ربما تجد تركيا الفرصة مناسبة لمحاولة توظيف الهجوم الإرهابي في اسطنبول، بعد اتهام الأكراد بالوقوف خلفه، لتنفيذ مخططاتها في شمال شرق سوريا، عبر توسيع المنطقة الآمنة، خاصة في ظل ما واجهته في السابق من رفض أمريكي وتحفظ روسي وإيراني وسوري بشأن هذه المخططات. كما أنها قد تستغل الانفجار لتسريع وتيرة ترحيل اللاجئين السوريين، وتقليص الضغوط التي يتعرض لها الرئيس أردوغان قبل الانتخابات الرئاسية عام 2023.
أعلنت السلطات التركية، في 14 نوفمبر الجاري، القبض على المشتبه بها في تنفيذ الانفجار الذي وقع قبل يوم واحد في شارع الاستقلال بميدان تقسيم في اسطنبول، ليؤكد وزير الداخلية التركي سليمان صويلو أن المعلومات المتوافرة لدى الأجهزة الأمنية تشير إلى مسئولية حزب العمال الكردستاني، وأن “أوامر الهجوم الإرهابي جاءت من عين العرب/كوباني بشمال سوريا، عقب تسلل منفذ الهجوم عبر مدينة عفرين بمحافظة حلب”.
ورغم التهديدات التركية على مدار ما يزيد عن 6 أشهر، بتنفيذ عملية عسكرية موسعة ضد عناصر مليشيا “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، في مناطق شمال شرقي سوريا، وعدم تنفيذ القوات التركية تلك العملية حتى الآن، إلا أن اتهام السلطات التركية للمكونات الكردية في شمال شرقي سوريا بالضلوع في الهجوم الإرهابي، قد يفتح المجال لشن عملية عسكرية ضد “قسد” خلال الفترة المقبلة، في إطار محاولة توظيف الهجوم لتنفيذ المخططات التركية في تلك المنطقة.
مأزق أنقرة
واجهت تركيا خلال الأشهر الماضية، مأزقاً في تنفيذ العملية العسكرية المُخطط لها ضد المليشيا الكردية في شمال شرقي سوريا، في ضوء بعض العقبات التي عرقلت الشروع في بدء تلك العملية، وأبرزها:
1- الرفض الأمريكي للعملية العسكرية: رغم التلويح التركي، عبر مسئولين عسكريين وسياسيين، منذ مطلع عام 2022، بتنفيذ عملية عسكرية ضد “قسد” شمال شرقي سوريا، إلا أن إعلان الرئيس رجب طيب أردوغان، في 23 مايو الماضي، اعتزام بلاده الشروع في العملية العسكرية، قوبل برفض واشنطن، حيث أكد المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس أن بلاده “تعرب عن قلقها إزاء الإعلان التركي”، معتبراً أن “أي تصعيد من شأنه تعريض العسكريين الأمريكيين المنتشرين في تلك المنطقة للخطر”. وقد قطع الرد الأمريكي الطريق على الضغوط التركية على الولايات المتحدة لتنفيذ تلك العملية العسكرية، على نحو دفع أنقرة إلى تحميل واشنطن المسئولية حيال نشاط الوحدات الكردية، مع التأكيد المستمر بأن مخطط العملية العسكرية قائم، وهو ما بدا جلياً في تصريحات وزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو، في 21 يوليو الماضي، بأن “الولايات المتحدة لم تفِ بالتزاماتها بتطهير المنطقة شرقي الفرات من العناصر الإرهابية”.
2- التباين مع القوى المنخرطة في الأزمة: لم يتمكن الرئيس أردوغان من حلحلة المواقف مع ثلاثة أطراف رئيسية في الساحة السورية هي النظام السوري وروسيا وإيران،وبدا أن جميعهم يتحفظ على أي عملية عسكرية تركية في شمال شرقي سوريا. ففي 25 مايو الماضي، أعلنت وزارة الخارجية السورية أن أي توغل تركي محتمل داخل أراضيها ستعتبره من جرائم الحرب، مع التوجه إلى إرسال رسالة للأمين العام للأمم المتحدة ومجلس الأمن، لرفض التدخل العسكري التركي في أراضيها. كما أن تركيا لم تتمكن من التوافق مع إيران وروسيا باعتبارهما أكبر داعمي النظام السوري، حيال الشروع في العملية العسكرية، رغم تعدد اللقاءات بين الرئيس التركي ونظيريه الروسي فيلاديمير بوتين والإيراني إبراهيم رئيسي، على غرار اللقاء الذي عقد في طهران في 19 يوليو الماضي.
3- تصاعد حدة الضغوط الدولية: لم يقتصر رفض العملية العسكرية التركية في الشمال السوري على الأطراف الرئيسية على الساحة، ولكن واجهت مخططات تركيا ضغوطاً دولية موسعة لرفض العمل العسكري لتوسيع المنطقة الآمنة.ففي 25 أكتوبر الفائت، دافع المندوب التركي الدائم لدى الأمم المتحدة ونجو كيجلي عن مخططات بلاده، خلال جلسة لمجلس الأمن لمناقشة العملية العسكرية التركية المحتملة في شمال شرقي سوريا، مؤكداً أن “وحدات حماية الشعب الكردية تُهدد الأمن القومي التركي، وأن بلاده عازمة على مكافحة الإرهاب، في ظل استمرار تهديد الأمن التركي”، قبل أن يوجه انتقادات لـ”الرافضين لدفاع تركيا عن أمنها القومي”.
4- اتساع نطاق التوتر بين المليشيات الموالية: بخلاف ضغوط الأطراف الفاعلة على الساحة السورية، والرفض الدولي للعملية العسكرية التركية المحتملة، فإن أنقرة واجهت مأزقاً يتعلق بضعف التماسك الداخلي بين المليشيات الموالية لها في سوريا، والتي شاركت في العمليات العسكرية السابقة في الشمال السوري ضد “قسد”، خاصة وأن الأمر تحول إلى خلافات شديدة أدت إلى مواجهات عسكرية في محافظة حلب، على خلفية الصراع على المكاسب الاقتصادية والرغبة في السيطرة على المعابر الحدودية مع مناطق التماس، لزيادة المكاسب الاقصادية، وهو ما دفع “هيئة تحرير الشام”- التي تهيمن على إدلب- إلى السيطرة على مدينة عفرين، في 15 أكتوبر الفائت، قبل أن تنسحب منها بعد تفاهمات مع تركيا.
تحركات متعددة
في ظل تأكيدات وزارة الدفاع التركية في أعقاب الهجوم الإرهابي، الذي أسفر عن سقوط 6 قتلى وإصابة 81 آخرين، على أن “الإرهابيين المتورطين في استهداف الأبرياء سيدفعون الثمن، وسيتم محوهم من هذا البلد والمنطقة”، بما يشير إلى احتمال شن عملية عسكرية، بدا أن هناك محاولة من جانب أنقرة لتوظيف الانفجار لصالح مخططاتها، إضافة إلى مواجهة أي تأثيرات محتملة على الداخل التركي، وهو ما يمكن تناوله في التالي:
1- ضغوط مستمرة على واشنطن: ترى تركيا أن الولايات المتحدة هى الداعم الأكبر للمكونات الكردية في منطقة شمال شرقي سوريا، وبالتالي فإن بعض تصريحات مسئوليها تُحمِّل واشنطن المسئولية عن الهجوم الإرهابي، إذ رفض وزير الداخلية التركي سليمان صويلو تعزية السفارة الأمريكية في الهجوم الإرهابي، قائلاً: “نعرف من يدعم الإرهاب في شمال سوريا، ونعرف الرسالة التي أرادوا إيصالها..، من يدعم المنظمات الإرهابية شمال سوريا هو من نفذ الهجوم ضدنا”. ويمكن تفسير حدة التصريحات التركية تجاه الولايات المتحدة، في إطار محاولة ممارسة ضغوط عليها، بما يسمح بالوصول إلى تفاهمات جديدة حول مناطق شمال شرقي سوريا، ويعزز من إمكانية تنفيذ عملية عسكرية ضد “قسد”، انطلاقاً مع تداعيات الهجوم الإرهابي، واتهام الأكراد بالتورط فيه.
2- تعزيز التفاهمات مع روسيا وإيران: ربما تحاول تركيا خلال الفترة المقبلة الوصول إلى تفاهمات مع روسيا وإيران بشأنالمضي قدماً في تنفيذ مخططاتها بتوسيع المنطقة الآمنة التي تُحددها بـ 30 كيلو متر من خط الحدود التركية باتجاه عمق سوريا،في ظل محدودية تأثير التفاهمات السابقة لوقف العمليات العسكرية ضد “قسد” عام 2019 ونشر قوات سورية وروسية، في منع تسلل عناصر من الأكراد إلى تركيا، بطريقة غير شرعية، اعتماداً على أن المشتبه بها في الهجوم تمكنت من التسلل عبر مدينة عفرين بطريقة غير شرعية، وهو ما قد يؤدي إلى زيادة محاولات التقارب التركي مع النظام السوري خلال الفترة المقبلة، خاصة على المستوى الاستخباراتي. وهنا تشير بعض التقارير إلى محاولة تركيا التفاهم مع النظام السوري إضافة لروسيا، على السماح لها بمواجهة “قسد” مقابل إمكانية تنفيذ تفاهمات التسوية في الشمال السوري مثلما حدث في المناطق الجنوبية بداية من عام 2018.
3- تسريع وتيرة ترحيل اللاجئين: يمكن أن تستغل تركيا الهجوم الإرهابي في تسريع وتيرة ترحيل اللاجئين السوريين من المقيمن بشكل غير شرعي بشكل أساسي، إلى مناطق الشمال السوري، وتحديداً في مناطق عملياتها السابقة مثل “غضن الزيتون” و”درع الفرات” و”نبع السلام”، خاصة في ظل ضغوط داخلية من قبل المعارضين لأردوغان بشأن استقبال اللاجئين، إذ تشير تقارير عديدة إلى اتجاه أنقرة إلى ترحيل اللاجئين منذ نهاية عام 2021، مع محاولة تهيئة المناطق التي تستقبلهم في الشمال السوري، من خدمات وتوفير مناطق آمنة بحماية المليشيات الموالية لها، خاصة أن الرئيس أردوغان يسعى إلى تقليص حدة الضغوط الداخلية قبل الانتخابات الرئاسية التي سوف تجرى في عام 2023.
4- إعادة هيكلة المليشيات الموالية: عقب الاشتباكات التي اندلعت بين المليشيات الموالية لتركيا، التي سعت لدمجها في إطار كيان عسكري واحد يُطلق عليه “الجيش الوطني السوري”،وما أسفر عنها من اضطرابات أمنية موسعة خلال شهر أكتوبر الفائت، اتجهت تركيا إلى تهدئة الأوضاع، ودراسة إعادة هيكلة لـ”الجيش الوطني السوري”، تحت قيادة عسكرية وأمنية وإدارة موحدة، وفقاً لتقارير محلية سورية، وبالتالي فإن من شأن الهجوم الإرهابي الأخير أن يدفع تركيا إلى الإسراع في هيكلة المليشيات الموالية لها، للسيطرة الأمنية ومواجهة أي اضطرابات في المناطق التي تُشكل المنطقة الآمنة.
تدخل محتمل
وأخيراً، رغم رفض الولايات المتحدة وروسيا وإيران والنظام السوري لتنفيذ تركيا مخططاتها في سوريا، بزيادة المنطقة الآمنة لتصل إلى 30 كيلو متر من خط الحدود التركية إلى العمق السوري، عبر عملية عسكرية ضد “قسد”، وإجبار المكونات الكردية على مغادرة نطاق المنطقة الآمنة، إلا أن خيار العمل العسكري التركي ضد “قسد” يظل قائماً، كرد فعل على الهجوم الإرهابي، واتهام الأكراد في سوريا بالوقوف خلفه. وهنا يمكن أن يكون الخيار العسكري إما موسعاً بعملية كبيرة، وهذا يتوقف على تحقيق التفاهمات مع الأطراف الرئيسية بسوريا، بعد الهجوم الإرهابي، أو محدوداً في إطار الرد الانتقامي على انفجار تقسيم.