رئة اقتصادية:
كيف تنعكس تحويلات العاملين العرب بالخارج على أوطانهم؟

رئة اقتصادية:

كيف تنعكس تحويلات العاملين العرب بالخارج على أوطانهم؟



صارت لتحويلات العاملين العرب بالخارج– مع الأخذ في الاعتبار تباين أعدادهم ونسب انتشارهم في مناطق جغرافية- تأثيرات مختلفة على أوطانهم، على نحو ما كشفته تفاعلات عام 2021، والتي تتمثل في دعم تماسك الاقتصاديات الوطنية، وتحقيق التنمية المستدامة، واستقرار أسعار الصرف، وتجاوز المراحل الانتقالية المتعثرة، والالتفاف على ضغوط العقوبات الدولية المفروضة على الحكومات المنخرطة في صراعات داخلية مسلحة، وتعزيز التضامن المجتمعي لمواجهة تداعيات كورونا.

وتشير الإحصاءات الصادرة عن المؤسسات الدولية، مثل البنك الدولي، إلى أن هناك مجموعة من الدول العربية التي تتصدر استقبال تحويلات مالية من مواطنيها العاملين في الخارج، على مستوى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهى مصر والمغرب ولبنان والأردن والضفة الغربية وقطاع غزة (فلسطين) وتونس والجزائر والعراق والسودان، بل إن مصر تشغل المرتبة الخامسة عالمياً في تحويلات العاملين بالخارج، وفقاً لما صرحت به السفيرة نبيلة مكرم وزيرة الدولة للهجرة وشئون المصريين بالخارج، في 10 أكتوبر 2021. ويمكن القول إن تحويلات العاملين العرب في الخارج تفرض تأثيرات متصاعدة على الأوضاع داخل الدول العربية، وذلك على النحو التالي:

صلابة الاقتصاد

1- ازدياد تماسك الاقتصاديات الوطنية: أشار وكيل محافظ مساعد قطاع البحوث الاقتصادية بالبنك المركزي المصري د.عادل عبد العظيم، في 18 نوفمبر الجاري، إلى أن تحويلات المصريين العاملين بالخارج سجلت خلال الفترة من يناير إلى أغسطس 2021 نحو 21.4 مليار دولار بزيادة قدرها نحو مليارى دولار بمعدل 10.4% مقارنة بالفترة من يناير إلى أغسطس 2020، وهو ما يعكس تراكماً إيجابياً، إذ أن التحويلات حققت أعلى مستوى تاريخي لها مسجلة نحو 31.4 مليار دولار خلال العام المالي 2020/2021، مقابل نحو 27.8 مليار دولار خلال العام المالي 2019/2020، رغم التأثر بتداعيات جائحة كورونا، وهو ما يعزز من صلابة واستقرار الاقتصاد الوطني لأن هذه التحويلات تعد أحد المصادر الرئيسية للعملة الأجنبية، بجانب عوائد قناة السويس والسياحة والتصدير، لدرجة أن عالم الجغرافيا المصري د.جمال حمدان كان يعتبر هذه التحويلات المالية في فترات مختلفة بأنها أقرب إلى عملية “نقل دم” في شرايين الاقتصاد المصري.

وتجدر الإشارة إلى أن أحد التفسيرات لارتفاع تحويلات العاملين المصريين بالخارج خلال العامين الماضيين هو اهتمام القيادة السياسية بملف المصريين في الخارج وتعزيز سبل التواصل معهم والاستفادة من خبراتهم في جميع المجالات. فعلى سبيل المثال، تم توقيع بروتوكول بين وزارة الهجرة وشئون المصريين بالخارج والبورصة المصرية لتشجيع المصريين في الخارج على الاستثمار بالبورصة، فضلاً عن تأسيس وحدة خاصة في الهيئة العامة للاستثمار للمصريين بالخارج، تقوم بتوجيه المستثمرين المصريين بالخارج لإقامة المشروع الذي يرغبون في الاستثمار به. كما تبلورت ملامح استراتيجية جديدة للتواصل مع المصريين بالخارج، والتي عرضها د.مارتن راسل في 21 نوفمبر الجاري، وذلك في إطار مشروع “مبادرات من أجل التنمية المحلية في مصر بدعم من المصريين في الخارج”، الذي يتم تنفيذه بالتعاون بين وزارة الهجرة وكل من منظمة الهجرة الدولية والوكالة الإيطالية للتعاون الإنمائي.

وكذلك هناك تفسير آخر يتعلق بالسياسات التي تبناها البنك المركزي المصري خلال السنوات الخمس الماضية فيما يخص وقف تجارة العملة على نحو أدى إلى تغيير مسار التحويلات الدولارية إلى السوق الرسمية، ما دفعها إلى تسجيل مستويات قياسية. فضلاً عن ثقة المصريين بالخارج في الاقتصاد المصري على نحو أسهم في زيادة معدلات التحويلات، لاسيما في ظل الاستقرار الأمني وانتظام القطاع المصرفي، ونجاح برنامج الإصلاح الاقتصادي، مما يحفز على زيادة ضخ الاستثمارات وتنفيذ المشروعات في الداخل المصري، وهو ما تؤكده شهادة العديد من المؤسسات الدولية.

وفي هذا السياق، قالت السفيرة نبيلة مكرم خلال مؤتمر “دور التحويلات النقدية في زيادة الاستثمار وتحقيق التنمية المستدامة”، في 10 أكتوبر الماضي، أن وزارة الهجرة تعمل على تعزيز ثقة المصريين في اقتصاد بلادهم، لافتة إلى التعاون مع وزارة التخطيط في النسخة الخامسة من مؤتمرات “مصر تستطيع”، وأضافت: “شارك معنا أكثر من 50 مستثمراً مصرياً بالخارج وعملنا على طرح الفرص الاستثمارية في مصر، كما قمنا بزيارة المشروعات القومية، وهو ما أثمر عن العديد من النتائج وإقامة المصريين بالخارج العديد من المشروعات في وطنهم”.

دعم الانتقال

2- تجاوز المراحل الانتقالية المتعثرة: وهو ما ينطبق على الحالة التونسية، إذ يشير البنك المركزي التونسي في أحدث بياناته في 24 نوفمبر الجاري، إلى ارتفاع التحويلات المالية من التونسيين العاملين بالخارج بنسبة 33% في الفترة من يناير إلى نوفمبر الجاري، ووفقاً لهذه النسبة من الارتفاع، وصلت قيمة التحويلات إلى 6.8 مليار دينار أى حوالي 2.35 مليار دولار مقارنة بالفترة نفسها في عام 2020. بعبارة أخرى، بلغت قيمة التحويلات 5.1 مليار دينار في عام 2020.

وهنا تشير غالبية الكتابات إلى أن تونس تحتاج تمويلاً خارجياً يصل إلى 6.7 مليار دولار لموازنة عام 2022، لمواجهة تزايد أسعار النفط، ونتيجة تراجع الاحتياطي النقدي الأجنبي في البنك المركزي إلى 7.7 مليار دولار، وهو ما أدى إلى تراجع قيمة الدينار التونسي بنسبة 43%، مما ساهم في زيادة أسعار السلع الأساسية، الأمر الذي قد يؤثر على شعبية الحكومة الجديدة من ناحية ويدعم مقاومة القرارات الاستثنائية التي اتخذها الرئيس قيس سعيّد في 25 يوليو الماضي من ناحية أخرى. ومن ثم، فإن ازدياد التحويلات الخارجية وانتعاش السياحة يسهم في دعم الاقتصاد التونسي.

وكذلك الحال بالنسبة لتحويلات السودانيين العاملين في الخارج، حيث أعلن رئيس جهاز تنظيم شئون السودانيين العاملين بالخارج، مكين حامد تيراب، في 3 مارس الماضي، عن إلغاء كل المساهمات والرسوم المفروضة على المغتربين والمهاجرين، وإيجاد تسوية للمتأخرات المالية، وذلك ضمن حزمة من الحوافز التشجيعية لتحويل أموالهم عبر النظام المصرفي الرسمي بالبلاد، وفي هذه الأثناء تعهدت وزارة المالية بإزالة جميع العوائق التي تواجه المواطنين في المنافذ الرسمية، وهو ما أكد عليه وزير المالية السوداني جبريل إبراهيم في اليوم نفسه.

مواجهة العقوبات

3- الالتفاف على ضغوط العقوبات الدولية: وتبدو التحويلات المالية المرسلة من المواطنين السوريين إلى أسرهم في الداخل عبر السوق السوداء، خلال العقد الماضي، مثالاً على ذلك، حيث تهدف إلى تفادي العقوبات الدولية والقيود المحلية المفروضة من قبل النظام السوري على القائمين بتلك العملية. وفي هذا السياق، استطاع قطاع لا بأس به من السوريين في الخارج الانخراط في عملية تحويلات مالية لذويهم بطرق غير رسمية عبر “مكاتب الصرافة” وغيرها، لاسيما في ظل تراجع قيمة العملة الوطنية “الليرة” أمام العملات الأجنبية وخاصة الدولار وارتفاع معدل التضخم.

ووفقاً لما يشير إليه المكتب المركزي للإحصاء في سوريا، فإن نسبة التضخم ارتفعت 20% في عام 2020 مقارنة بعام 2019، الأمر الذي يزيد الأعباء المفروضة على المجتمع السوري الذي يتقاضى راتبه بالليرة في حين يشتري السلع بالأسعار تبعاً للدولار. ولعل الفجوة بين السعرين هى التي تدفع السوريين إلى التحويل بالطرق غير الرسمية، الأمر الذي يفسر ما تعلنه وسائل الإعلامية السورية في الأسابيع القليلة الماضية بشأن إغلاق بعض مكاتب الصرافة والتضييق على السوق السوداء. كما أن العقوبات الغربية، الأمريكية والأوروبية، تقف حائلاً أمام التحويلات المالية عبر البنك المركزي السوري، بما يجعل الحوالات هى السبيل الوحيد لإعاشة العديد من الأسر السورية التي تعاني تأزماً معيشياً.

تلاحم المجتمع

4- تعزيز التضامن المجتمعي لمواجهة تداعيات كورونا: كشف مكتب الصرف المغربي، في نشرته في يوليو الماضي، أن التحويلات المالية للمغاربة المقيمين بالخارج سجلت ارتفاعاً بنسبة 45.3%، في الأشهر الأربعة الأولى من العام الجاري مقارنة بالفترة نفسها من عام 2020. إذ أن هذه التحويلات تجاوزت 28,8 مليار درهم، مقابل 19,84 مليار درهم خلال الفترة نفسها من عام 2020. وعلى الرغم من تراجع التحويلات في بداية عام 2020، على خلفية تفشي كورونا، إلا أنه سرعان ما تغير الوضع تدريجياً فيما بعد. ويشير هذا المنحى التصاعدي إلى الارتباط بين مغاربة المهجر والوطن الأم، لاسيما أن مغاربة المهجر يعيشون وضعاً مالياً مستقراً وخاصة في الدول الأوروبية مما يدفعهم لمساعدة الأهل، وهو ما تكشف عنه العديد من الأدبيات المغاربية. كما أن بعض المغاربة في الخارج لازالوا يمولون مشاريعهم في الداخل، وخاصة في قطاع العقارات.

دورة اقتصادية

خلاصة القول، إن التدفقات المالية القادمة للدول العربية من مواطنيها العاملين بالخارج تسهم في رفع الاحتياطي من النقد الأجنبي واستمرار حركة الاستثمار داخل تلك الدول، ودعم إعاشة الأسر في إطار التضامن المجتمعي خاصة في عصر كورونا، على نحو يجعل لها دورة اقتصادية في مسارات مختلفة، بل إن البنك الدولي يرى أن زيادة تحويلات العاملين بالخارج تنعكس على مؤشرات المنطقة.