التدخل الحذِر:
كيف تنعكس الخلافات مع واشنطن على السياسة الصينية في الشرق الأوسط؟

التدخل الحذِر:

كيف تنعكس الخلافات مع واشنطن على السياسة الصينية في الشرق الأوسط؟



رغم انعقاد القمة الافتراضية بين الرئيسين الأمريكي جو بايدن والصيني شي جينبينغ، في 16 نوفمبر الفائت، بهدف تقليص حدة التوتر بين الدولتين، فقد ظلت هناك العديد من القضايا الخلافية التي ترجح استمرار صراع النفوذ القائم بين بكين وواشنطن، وهو الأمر الذي يطرح تساؤلات عديدة حول انعكاسات هذه الخلافات على السياسة الصينية في منطقة الشرق الأوسط. فخلال السنوات الماضية، تبنت بكين استراتيجية التدخل الحذِر في شئون المنطقة، وهى الاستراتيجية التي كانت مدفوعة، في جانب منها، بمحاولة التأكيد على دور الصين في النظام العالمي، وكذلك مواجهة التدخلات الأمريكية في مناطق النفوذ الحيوي للصين في آسيا والتي استهدفت تطويق التأثير الصيني في الجوار الآسيوي.

توتر مستمر

تصاعدت حدة الخلافات بين واشنطن وبكين في الآونة الأخيرة، في ظل الاعتقاد المسيطر على دوائر صنع القرار الأمريكي وكذلك مراكز الفكر، بأن التهديد الأهم في الوقت الراهن هو التهديد الصيني، على نحو يفرض على الولايات المتحدة استخدام قدراتها ومواردها المختلفة لمواجهة هذا التهديد حتى لو كان على حساب تقليل الانخراط في بعض المناطق التقليدية للنفوذ الأمريكي على غرار منطقة الشرق الأوسط.

وعليه، ارتبط تصاعد التوتر مؤخراً بين واشنطن وبكين بعدد من الملفات في مقدمتها الصراع التجاري والاقتصادي بينهما، وكذلك الانتقادات الأمريكية للسياسة الصينية تجاه هونغ كونغ، وتايوان، فضلاً عن انتقادات واشنطن المتكررة لأوضاع حقوق الإنسان في الصين، وخاصة مع تفاقم أزمة أقلية الإيغور في منطقة شينجيانغ، حتى أن واشنطن فرضت عقوبات على عدد من الشخصيات والكيانات الصينية على خلفية قضايا حقوق الإنسان، وهو ما دفع بكين أيضاً إلى الإعلان عن فرض عقوبات على مسئولين أمريكيين، فعلى سبيل المثال، أعلنت بكين، في 21 ديسمبر الجاري، عن فرض عقوبات على أربعة مسئولين أمريكيين بعد تعليقاتهم على وضع حقوق الإنسان والحرية الدينية في شينجيانغ، وذكر تشاو ليجيان، الناطق باسم وزارة الخارجية الصينية، أنه تم “اتخاذ إجراءات في حق أربعة أشخاص من لجنة الولايات المتحدة للحرية الدينية الدولية. رئيستها نادين ماينزا، ونائبها نوري توركل، والعضوان فيها أنوريما بهارغافا وجيمس دبليو كار”.

ويستحضر هذا التوتر منطقة الشرق الأوسط مجدداً كساحة لصراع النفوذ بين بكين وواشنطن. صحيح أن الصين لم تبد في السنوات الماضية رغبة فعلية في الانخراط المكثف بقضايا المنطقة وملفاتها المتشابكة، ولكن مع ذلك، اكتسبت المنطقة بعداً وظيفياً هاماً في السياسة الخارجية الصينية وذلك لاعتبارين رئيسيين: أولهما، أن السعى نحو المنافسة على قيادة النظام العالمي يستلزم من بكين التواجد في المناطق الرئيسية بالعالم، ومن ضمنها منطقة الشرق الأوسط التي ترتبط بقضايا مؤثرة سياسياً واقتصادياً في الأمن العالمي. وثانيهما، أن الاهتمام بقضايا المنطقة يوفر فرصة للرد على سياسة الولايات المتحدة في مناطق النفوذ الصيني التقليدي (الإندو-باسيفيك).

حدود الانخراط

ربما يكون من الصعب القول إن بكين ستُلقي بثقلها السياسي والاقتصادي في منطقة الشرق الأوسط في الفترة القادمة، على أقل تقدير في المستقبل القريب. وأقصى ما يمكن أن تفعله هو تبني استراتيجية الانخراط المحدود أو التدخل الحذِر الذي يقوم على تجنب الاشتباك المكثف في أزمات المنطقة نظراً لتكلفته العالية. ومن ثم، يحتمل أن يؤدي التوتر الراهن بين الصين والولايات المتحدة إلى إضفاء نوع من الأهمية والزخم على بعض الأدوات السياسية الصينية في الشرق الأوسط، على نحو يمكن تناوله في التالي:

1- التنافس على النفوذ في المنطقة: ليس من المرجح أن يتراجع اهتمام بكين بتدعيم حضورها، وخاصة في جانبه الاقتصادي، في الشرق الأوسط، وخاصة مع الإشارات التي أرسلتها واشنطن في السنوات الأخيرة حول رغبتها في الانسحاب من المنطقة. فضلاً عن تطوير صانع القرار الصيني رؤيته للمنطقة في السنوات الماضية، لاسيما بعد نشر ورقتين حكوميتين رئيسيتين بعنوانى “رؤية التعاون البحري في إطار مبادرة الحزام والطريق” في عام 2015، و”وثيقة الصين تجاه الدول العربية” في عام 2016. وركزت الوثيقتان على ضرورة توظيف الصين للتعاون الاقتصادي والامتناع عن التركيز الشديد على القضايا المتعلقة بالتعاون الأمني أو القضايا الخاصة بالسياسة الداخلية للدول، وهو ما سمح لبكين بتطوير علاقاتها مع العديد من دول المنطقة.

2- أولوية التعاون الاقتصادي الثنائي: يشكل البعد الاقتصادي محدداً هاماً في السياسة الصينية تجاه منطقة الشرق الأوسط. فالمنطقة، من جهة أولى، تعد مصدراً رئيسياً لإمدادات الطاقة اللازمة للاقتصاد الصيني. ومن جهة ثانية، تعتبر المنطقة محوراً هاماً ضمن مبادرة “الحزام والطريق” الصينية التي تراهن عليها بكين لتوطيد مكانتها العالمية. ومن جهة ثالثة، تتضمن المنطقة فرصاً اقتصادية هامة بالنسبة للصين، فالشركات الصينية متداخلة في مشروعات عديدة بدول المنطقة، كما شهدت العلاقات التجارية بين الصين ودول المنطقة طفرة كبيرة، فعلى سبيل المثال، قال مبعوث الحكومة الصينية الخاص للشرق الأوسط تشاي جيون، في 20 أغسطس الماضي على هامش معرض الصين والدول العربية الذي عقد في الصين، أن التبادل التجاري بين الصين والدول العربية بلغ في النصف الأول من عام 2021 نحو 144,27 مليار دولار، كما استوردت الصين في الفترة ذاتها 130 مليون طن من النفط الخام من الدول العربية.

3- استمرار العلاقات مع إيران: من المرجح أن تستمر العلاقات بين الصين وإيران، حيث تنظر بكين إلى إيران كشريك هام بالنسبة لها في المنطقة، وهو أمر ربما تستخدمه الأولى كورقة للضغط على الولايات المتحدة. فخلال السنوات الماضية، اتخذت الدولتان خطوات جادة لتطوير العلاقات فيما بينهما، ولعل هذا ما اتضح مع الاتفاقية التي وقعت بينهما، في 27 مارس الماضي، لتعزيز التعاون الشامل بينهما لمدة 25 سنة مقبلة. ووفقاً للعديد من التقارير التي تناولت الاتفاقية، فقد ظهر أنها تشمل التعاون في قطاعات اقتصادية مختلفة، علاوة على تعاون ائتماني وأمني وعسكري، وكذلك التشاور وتنسيق المواقف في القضايا الدولية.

كما دعمت الصين انضمام إيران إلى منظمة شنغهاى للتعاون حتى تم الإعلان، في 17 سبتمبر الماضي، عن قبول عضوية إيران في المنظمة. بالإضافة إلى ذلك، تنظر بكين إلى طهران كطرف هام في مبادرة “الحزام والطريق”، ولذلك أشارت الاتفاقية الموقعة بين الدولتين، في 27 مارس الماضي، إلى ضرورة “الارتقاء بمكانة الجمهورية الإيرانية في مبادرة الطريق والحزام من خلال تطوير النقل المتعدد الأوجه بما في ذلك شبكات السكك الحديدية والطريق السريع والطرقات البرية والبحرية والجوية”.

4- مواقف مُناوِئة لواشنطن في قضايا المنطقة: ربما يدفع التوتر القائم بين الصين والولايات المتحدة إلى استمرار الأولى في تبني مواقف مُناوِئة للثانية في قضايا المنطقة المختلفة، ويظهر ذلك في الملف النووي الإيراني، إذ عارضت بكين انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، كما عارضت في أكثر من مناسبة فرض عقوبات أمريكية على إيران. ويظهر هذا التوجه الصيني أيضاً في الانفتاح الصيني على النظام السوري، بالرغم من الضغوط الأمريكية على دمشق، ولعل هذا ما اتضح من زيارة وزير الخارجية الصيني وانغ يي لسوريا، في 17 يوليو الماضي، وهى الزيارة التي جاءت بالتزامن مع أداء الرئيس السوري بشار الأسد اليمين الدستورية لولاية رئاسية رابعة، ومن ثم، أعادت التأكيد على محددات السياسة الصينية تجاه الصراع، والتي تستند بصورة جوهرية إلى رفض التدخل الغربي في شئون الدول الأخرى، حيث صرح وزير الخارجية الصيني، خلال اجتماعه مع الرئيس السوري بشار الأسد، بأن بلاده تعارض أى محاولة للسعى لتغيير النظام في سوريا وستعزز التعاون معها.

وفي السياق ذاته، فقد قدم الوزير الصيني أثناء الزيارة مبادرة لحل الأزمة السورية تقوم على عدد من البنود المتمثلة في احترام السيادة السورية ووحدة أراضيها وحق الشعب السوري في تقرير مستقبله، والإسراع في إعادة الإعمار، ورفع العقوبات عن دمشق بشكل فوري، بالتوازي مع مكافحة التنظيمات الإرهابية المدرجة على قائمة مجلس الأمن، والتأكيد على أهمية الحل السياسي الشامل للقضية السورية والحوار مع المعارضة السورية من أجل تضييق الخلافات.

5- تجنب تعزيز العلاقات العسكرية: ربماتتجنب الصين تطوير علاقات عسكرية وأمنية جادة مع دول المنطقة تجنباً لرفع مستوى التصعيد مع الولايات المتحدة، خاصة أن الأخيرة لا تزال الحليف الأهم لبعض دول المنطقة، كما أن لجوء بكين إلى التصعيد المطلق مع واشنطن، قد يدفع الأخيرة إلى العودة مجدداً للانخراط المكثف في المنطقة، أو حتى قد يؤدي إلى مضاعفة الضغوط الأمريكية على بكين في مجالها الحيوي الآسيوي.

حسابات بكين

خلاصة القول، رغم التوتر القائم بين الولايات المتحدة والصين، فإن التدخل الحذِر، والانخراط المُقيَّد يحتمل أن يكون النمط الرئيسي لسياسة بكين تجاه منطقة الشرق الأوسط في السنوات القادمة وذلك في خضم إعادة ترتيب الحضور الأمريكي في المنطقة وتقليل الاشتباك المباشر مع قضاياها. وعليه، قد تكتفي الصين بالتركيز على التعاون الاقتصادي كإطار جامع مع دول المنطقة، مع إمكانية طرح مبادرات سياسية لعدد من أزمات الشرق الأوسط، فيما ستتراجع الجوانب العسكرية والأمنية، بشكل أو بآخر، في سياسة الصين الشرق أوسطية.