منذ أن وصل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إلى سدة الحكم في قصر الإليزيه، عام 2017، بات واضحاً أن فكرة تحقيق الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي إحدى الأفكار الرئيسية التي تراوده، والتي يعمل على دفع الحلفاء الأوروبيين نحوها عبر زيادة الإنفاق الدفاعي، وتطوير قطاع الصناعات الدفاعية، فضلاً عن طموحات تأسيس قوة عسكرية أوروبية، مع الحد من الاعتماد الأوروبي على حلف الناتو والولايات المتحدة في ضمان أمن القارة. كما جاءت أزمة الغواصات الأسترالية، والالتفات الأمريكي بدرجة أكبر إلى التهديد الصيني في “الإندو-باسيفك”، لتؤكد بدرجة أكبر للرئيس الفرنسي على أهمية امتلاك أوروبا القدرة على الدفاع عن نفسها دون الاعتماد على الولايات المتحدة فقط. وفي هذا الإطار، فإن فكرة “الاستقلال الاستراتيجي” أو “السيادة الأوروبية” يمكن اعتبارها فكرة حاكمة للرؤية الفرنسية للحرب الأوكرانية، وترتيبات الأمن الأوروبي بعد الحرب الأوكرانية.
بعد مرور عام على اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية يمكن القول إن تأثيراتها ذات طبيعة انتشارية، حيث إن انعكاساتها لم تنحصر في طرفي الحرب، بل حملت تأثيرات على أمن المنظومة الأوروبية، وبلورة رؤى من قبل القوى الرئيسية فيها لتعزيز الترتيبات الأمنية المستقلة عن الرؤى الأمريكية ولا سيما في ظل عدم تقارب المنظورات تجاه القضايا الدولية.
رؤية باريس
يمكن بلورة ملامح الرؤية الفرنسية للحرب الروسية الأوكرانية والترتيبات الأمنية بعدها على النحو التالي:
1- اعتبار الحرب فرصة للتقدم نحو تحقيق السيادة الأوروبية: تدور السياسة الخارجية الأوروبية للرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، منذ توليه مهام الرئاسة في فرنسا، ومع بداية ولايته الرئاسية الثانية، ومنذ ما قبل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، حول مفهوم “السيادة الأوروبية” أو ما يعرف أيضاً بـ”الحكم الذاتي الاستراتيجي”، والدعوة إلى أن يصبح الاتحاد الأوروبي كياناً فاعلاً بشكل أكبر على الساحة الدولية، وتعزيز سيادته الحقيقة، من خلال تقليص الاعتماد الأوروبي الأمني والعسكري على الولايات المتحدة واعتماد نهج أكثر استقلالية عن واشنطن في تلك القطاعات باعتبارها مجالات سيادية على الدول الأوروبية أن تمتلك مقومات ضمانها، مع عدم إغفال أهمية التعاون مع الولايات المتحدة وحلفاء الناتو، بحيث تصبح الدول الأوروبية قادرة على التصرف باستقلالية فيما يخص مجال الدفاع دون الاضطرار إلى الاعتماد الكبير على الحلفاء.
ويستدعي التقدم الأوروبي نحو تحقيق ذلك الأمر زيادة الإنفاق الدفاعي الأوروبي، وتعزيز التعاون والتنسيق العسكري بين دول الاتحاد، وتطوير وزيادة القدرات الصناعية الدفاعية للدول الأوروبية، وزيادة الاهتمام بالاستثمار في القطاع العسكري بشكل عام. وهي الأمور التي جعلتها الحرب الأوكرانية ضرورية، وحفّزت الدول الأوروبية على الإقدام عليها، حيث زادت معظم الدول الأوروبية بالفعل من إنفاقها الدفاعي. ولذلك، ترى باريس أن الحرب قد تساعدها على المضيّ قدماً في رؤيتها ودفع الاتحاد الأوروبي نحو تعزيز السيادة الأوروبية والحكم الذاتي الاستراتيجي، والحد من الاعتماد على الولايات المتحدة، في ظل ما تسببت فيه من تحفيز الاهتمام بالأبعاد والقطاعات الدفاعية، وإدراك الاحتياج إلى تعزيز القدرات الدفاعية الأوروبي، وفي ظل كذلك تصاعد الاهتمام الأمريكي بمنطقة “الإندو-باسيفك” بشكل يُنظر إليه على أنه قد يخصم من درجة الانخراط الأمريكي في القارة، وحدود الالتزام بأمنها.
2- تقديم ضمانات أمنية إلى الدول الأوروبية غير الأعضاء بالاتحاد: في مقابل تحفّظ فرنسا على انضمام دول جديدة للاتحاد الأوروبي، فضلاً عن تعقُّد وطول إجراءات ومفاوضات ضم الدول الراغبة في عضوية الاتحاد، فإن التحديات الجيواستراتيجية التي كشفتها الحرب الأوكرانية، عززت من إدراك الحاجة إلى مظلة أمنية قادرة على تقديم ضمانات أمنية للدول الأوروبية غير الأعضاء في الاتحاد، باعتبار أن أمن تلك الدول لا ينفصل عن الأمن الأوروبي، وهو ما برز بشكل خاص في الحالة الأوكرانية. حيث لا تعتبر كييف عضواً بالاتحاد الأوروبي، بل أعلنت أواخر فبراير 2022، عقب بدء التدخل العسكري الروسي في أراضيها، عن طلب الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
ولذلك، وبدلاً من توسيع الاتحاد الأوروبي، دفعت فرنسا باتجاه إنشاء “مجموعة سياسية أوروبية” لضم أوكرانيا بشكل خاص، فضلاً عن إيجاد مساحة جديدة للتعاون السياسي والأمني بين دول الاتحاد الأوروبي، والدول الأوروبية الديمقراطية غير الأعضاء في الاتحاد. على أن يقدم الاتحاد الأوروبي ضمانات أمنية للدول التي ستنضم إلى تلك المنظمة، وبناء تعاون عملياتي في القدرات الدفاعية، بحيث تقوم تلك المنظمة بتقديم الدعم السريع للدول التي تنتظر بحث طلباتها للعضوية في الاتحاد الأوروبي. وقد انعقدت بالفعل القمة الأولى للمجموعة السياسية الأوروبية بالعاصمة التشيكية (براغ) في أكتوبر 2022، بمشاركة 44 دولة أوروبية. وسعت إلى بناء تفاهمات استراتيجية لقراءة أوروبية موحدة للتحديات المشتركة.
3- توجيه نداءات لإعادة الاستثمار في قطاع الدفاع: من المنظور الفرنسي فإن الحرب الأوكرانية أثبتت الحاجة إلى إعادة الاستثمار في الأمن والدفاع بشكل كبير، وهو الأمر الذي بدأت باريس تطبيقه على المستوى الداخلي، عبر طرح مشروع قانون البرمجة العسكرية الجديد الذي يزيد الميزانية العسكرية لفرنسا للفترة (2024 – 2030) إلى أكثر من 400 مليار يورو، ارتفاعاً من 295 مليار يورو في الميزانية الحالية، وزيادة الإنفاق الدفاعي السنوي بحيث يصل إلى 59 مليار يورو سنوياً حتى نهاية عام 2030، مقابل 42 مليار يورو في الخطة الحالية، مع دعوة قادة الجيش والشركات الدفاعية الفرنسية للمضي قُدماً في “اقتصاد الحرب” من أجل تعزيز القدرات والصناعات الدفاعية الفرنسية.
وقد وجّه الرئيس الفرنسي، خلال كلمته في مؤتمر ميونيخ للأمن، في 17 فبراير الجاري، نداءً إلى الدول الأوروبية لمعاودة الاستثمار بشكل كبير في مجال الدفاع لمواجهة التحديات التي تخوضها القارة، رابطاً ذلك بالقدرة على تحقيق السلام في أوروبا، باعتبار أن الاستثمار الدفاعي يوفر أدوات الأمن وصيانة السلام وحمايته. ودعا ماكرون إلى زيادة الاستثمارات في صناعات الدفاع الأوروبية، معرباً عن أمله في أن تتم بلورة خطط بشأن ذلك خلال الأشهر المقبلة، واعتماد برنامج استثماري مشترك طموح قبل الصيف المقبل، يأخذ في الاعتبار التوحيد القياسي، وهو ما يرتبط أيضاً بالرؤية الفرنسية الداعية إلى امتلاك القارة الأوروبية القدرات التسليحية والتصنيعية العسكرية التي تمكّنها من الدفاع عن نفسها دون الاعتماد على الولايات المتحدة وحلف الناتو بشكل كامل.
4- إقامة شراكات دفاعية مع الدول الأوروبية: في إطار العمل على تنسيق العمل الدفاعي الأوروبي بشكل مؤسسي، فإن فرنسا ستعمل أيضاً على تعزيز الشراكات الدفاعية مع الدول الأوروبية، وهو ما تؤكده الاستراتيجية الدفاعية الفرنسية الجديدة التي أعلنها الرئيس الفرنسي، في نوفمبر 2022، والتي استهدفت ضمن أهداف عدة أن تصبح فرنسا “شريكاً موثوقاً به ومزود أمان موثوقاً به”؛ حيث أشارت الاستراتيجية إلى تعزيز العلاقات الدفاعية وإقامة شراكات على مستويات مختلفة مع الدول الأوروبية، ومنها ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا واليونان وكرواتيا وبلجيكا والمملكة المتحدة.
5- التقاط مقترحات برلين حول الدفاع الجوي الجماعي: أعلن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في خطابه خلال افتتاح مؤتمر ميونيخ للأمن، عن دعمه مقترح المستشار الألماني، أولاف شولتس، حول إنشاء نظام دفاع جوي مشترك في أوروبا. حيث سبق وأعلن شولتس، في أغسطس 2022، أن بلاده تعتزم زيادة الاستثمار في تعزيز نظام الدفاع الجوي الخاص بها وتنظيمه بطريقة تمكّن جيرانها الأوروبيين من المشاركة فيه، وخص بالذكر هولندا وبولندا ودول البلطيق وسلوفاكيا وجمهورية التشيك والدول الإسكندنافية.
فيما دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى عقد مؤتمر في باريس حول الدفاع الجوي لأوروبا مع ألمانيا وإيطاليا وبريطانيا وجميع الذين يرغبون في الانضمام، وربط ماكرون ذلك النظام بشكل رئيسي بتهديدات روسيا التي تتمتع بحرية تصنيع صواريخ نووية متوسطة المدى منذ عام 2019، بعد إنهاء معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى. وحرصت فرنسا على التقاط المقترحات الألمانية وتوظيفها ضمن إطار العمل على تعزيز السيادة الأمنية الأوروبية، وضمان مظلة أمنية أوروبية. فضلاً عن أن التنافس الألماني-الفرنسي على قيادة الاتحاد الأوروبي يفسر جانباً من دعوة فرنسا إلى انعقاد المؤتمر على أراضيها. كما تطرح بعض التقديرات فكرة الاستقلالية الاستراتيجية كعامل تفسيري باعتبار أن المبادرة الألمانية قد تعتمد على أنظمة غير أوروبية كأنظمة الدفاع الجوي الأمريكية والإسرائيلية، بجانب الألمانية، فيما تأمل باريس في أن يعتمد نظام الدفاع الجوي الأوروبي المشترك بشكل كامل على الأنظمة الأوروبية وبخاصة الفرنسية، أو تمديد مظلة أنظمة الدفاع الجوي الفرنسي.
6- إعطاء بُعد أوروبي للردع النووي الفرنسي: ثمة قناعة فرنسية بأن الردع النووي هو ما يجعل فرنسا مختلفة عن العديد من الدول الأوروبية الأخرى، وأن الحرب الأوكرانية تعيد التأكيد على أهمية هذا العامل. ولذلك يستهدف مشروع قانون البرمجة العسكرية الفرنسية الجديد تعزيز وتحديث قدرات الردع النووي الذي ستنفق عليه باريس خلال العام الجاري نحو 5.6 مليارات يورو. ويعتبر الرئيس الفرنسي أن الحرب الروسية على أوكرانيا تمثل تنبيهاً لطبيعة الدور المهم الذي تؤديه الأسلحة النووية في الاتحاد الأوروبي، والذي يجب أن تستمر في تأديته.
ولذلك، دعا ماكرون خلال مؤتمر ميونيخ للأمن الدول الأوروبية إلى تحديد الدور الذي تلعبه القوة النووية في نظام الردع الأوروبي، وعرض إجراء مباحثات بشأن الردع النووي في الاتحاد الأوروبي تتناول البُعد الأوروبي للردع النووي الخاص بفرنسا. وبينما تعتبر فرنسا القوة الوحيدة في الاتحاد الأوروبي التي تمتلك أسلحة نووية، فإنها وفي إطار طموحاتها لقيادة الاتحاد الأوروبي تعمل على توظيف تلك الميزة النسبية، في ظل زيادة الحرب الأوكرانية من أهميتها، خاصة مع التلويح الروسي باحتمالية اللجوء إلى الأسلحة النووية، وتعليق موسكو مشاركتها في معاهدة “نيو ستارت”؛ حيث يعمل الخطاب السياسي والدفاعي الفرنسي على التأكيد على أن تواجد القوة النووية الفرنسية يعمل كعامل ردع مهم في القارة، ويسهم في الحفاظ على أمن فرنسا وأوروبا، مع التأكيد كذلك على أن الردع النووي الموثوق والحديث هو المفتاح لضمان الأمن الأوروبي في مواجهة التهديدات الروسية، بحيث تضمن فرنسا بقدراتها النووية للقارة الأوروبية مظلة أمنية خاصة.
7- رفض الدعوات الغربية لإلحاق هزيمة مذلّة بروسيا: مقابل بعض الدعوات التي تدعو إلى معاقبة روسيا على عدوانها على أوكرانيا، واستغلال الحرب الأوكرانية لإلحاق هزيمة مذلة بروسيا واكتساحها؛ فإن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، يرفض تلك الأطروحات، وينطلق من اعتبار أن روسيا ستظل دائماً جزءاً من الأراضي الأوروبية، كحقيقة جغرافية غير قابلة للتغيير. ولذلك، أكد ماكرون أنه يريد أن “تُهزم” روسيا في حربها على أوكرانيا، لكن من دون “سحقها”، بل وحدد الهزيمة التي تدعمها بلاده بأنها ترتبط بهزيمة القوات الروسية في أوكرانيا، ودفاع كييف عن أراضيها بالشكل الذي يمكّن من الوصول إلى طاولة المفاوضات. معارضاً أطروحات هزيمة روسيا هزيمة كاملة ومهاجمتها على أراضيها، ومؤكداً على أن سحق روسيا لم يكن ولن يكون موقف فرنسا، وذلك في ضوء قناعة باريس أيضاً بأن الحرب الروسية الأوكرانية لن تنتهي بشكل عسكري في ساحات القتال، وأن كلا الطرفين لن يحققا انتصاراً كاملاً، وأن الحرب الدائرة ينبغي أن تدفع باتجاه مفاوضات تالية.
8- تفهُّم المطالبات الروسية بالحصول على ضمانات أمنية: يُبدي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، تعاطفاً وتفهماً للمخاوف الروسية من توسّع حلف الناتو، ولذلك دعا الدول الغربية إلى النظر في كيفية تلبية مطالب روسيا بالحصول على ضمانات أمنية، في ظل قلق موسكو من توسّع حلف الناتو حتى الحدود الروسية، أو نشر أسلحة قادرة على الوصول إلى الأراضي الروسية وتهديدها، معتبراً ذلك إحدى خطوات إعادة رسم الهندسة الأمنية الأوروبية المستقبلية في مرحلة ما بعد الحرب.
وبينما عبّر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن مطالبه تلك، قبل اندلاع الحرب، خلال مؤتمر صحفي مشترك مع ماكرون، في 8 فبراير 2022، حينما قال إن روسيا ستواصل محاولة الحصول على إجابات من الغرب على مطالبها الأمنية الثلاثة الرئيسية، وهي: لا مزيد من التوسيع لحلف شمال الأطلسي، ولا انتشار للصواريخ بالقرب من حدودها، وتقليص البنية التحتية العسكرية لحلف الأطلسي في أوروبا إلى مستويات عام 1997؛ فإن الرؤية الفرنسية ترى أن تلك المطالب من الطبيعي أن تكون موجودة على طاولة المفاوضات بعد الحرب كجزء من عملية بناء السلام والأمن في أوروبا، بحيث لا تتعارض عملية حماية الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، والحلفاء الأوروبيين، مع الضمانات التي تطلبها موسكو. ويمكن فهم هذا الموقف الفرنسي باعتباره لا يتعارض مع توجه باريس نحو تعزيز الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي مقابل الاعتماد على حلف الناتو.
انتقادات أوروبية
على الجانب الآخر، ثمة بعض الانتقادات لفرنسا أو لمنظورها تجاه الحرب الأوكرانية والأمن الأوروبي بعدها، ومنها:
1- اعتبار الحرب الأوكرانية تأكيداً للحاجة الأوروبية لواشنطن: فيما تعتبر باريس الحرب الأوكرانية فرصة استراتيجية للتوجه نحو تحقيق “السيادة الأوروبية” وتحقيق مزيد من “الاستقلال الاستراتيجي والدفاعي” عن الولايات المتحدة، والحد من الاعتماد على حلف الناتو مقابل صياغة حلول ومظلة أمنية أوروبية؛ فإن ثمة اتجاهات أخرى ترى أن الحرب الروسية على أوكرانيا أكدت من جديد على استمرار حاجة الدول الأوروبية للاعتماد على الولايات المتحدة في ضمان الأمن الأوروبي، وأن التخوّف من صراع مباشر مع الولايات المتحدة يعتبر من عوامل ردع موسكو عن التفكير في مزيد من التوغل داخل أوروبا، بالإضافة إلى ضعف القدرات التسلحية الأوروبية وقلة مخزونها، واستمرار الحاجة الأوروبية إلى الدعم الدفاعي الأمريكي، فضلاً عن تدمير الحرب الأوكرانية لأطروحات الحوار الاستراتيجي والتعاون الأوروبي-الأوروبي مع روسيا.
2- تقديم الضمانات الأوكرانية على الروسية: أثار التفهُّم الفرنسي للمطالب الروسية بالحصول على ضمانات أمنية تجاه حلف الناتو انتقادات أوروبية من أوكرانيا وبعض الدول الأخرى، واتهام الرئيس الفرنسي بأنه يتسامح جداً مع موسكو وينفتح بشكل كبير على مخاوفها ومطالبها دون الأخذ في الاعتبار أولوية المخاوف والمطالب الأوكرانية. فقد شدّد مسؤول السياسة الخارجية في الاتّحاد الأوروبي جوزيب بوريل، في ديسمبر 2022، على أن حل النزاع الدائر في الأراضي الأوكرانية يتطلّب حتماً تقديم ضمانات أمنية لأوكرانيا، أما بالنسبة لتقديم ضمانات مماثلة لروسيا فإنه اعتبرها مسألة يمكن أن تُبحث لاحقاً.
كما أكد الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، ينس ستولتنبرج، في 21 فبراير 2023، على ضرورة تقديم الحلف ضمانات أمنية طويلة الأمد لأوكرانيا، بعد انتهاء الصراع فيها، وأنه من الضروري وضع ترتيبات طويلة الأمد لأمن أوكرانيا عقب انتهاء الحرب. فيما رفض أوليكسي دانيلوف، سكرتير مجلس الأمن القومي والدفاع الأوكراني، المقترح الفرنسي حول تقديم ضمانات أمنية لروسيا، منتقداً “المنطق الغريب للدبلوماسية” الذي يريد توفير ضمانات أمنية لـ”دولة إرهابية وقاتلة” على حد وصفه.
3- رفض الإصرار الفرنسي على التفاوض بأي شكل: منذ ما قبل اندلاع الحرب، عمل الرئيس الفرنسي على أن يكون محاوراً وطرفاً رئيسياً في المباحثات الروسية-الغربية حول التوترات في أوكرانيا. وفيما أدى اندلاع الحرب الأوكرانية إلى اتهام الرئيس الفرنسي بالفشل في الاستفادة من المباحثات مع بوتين في الحيلولة دون صدور قرار الكرملين ببدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، خاصة تلك المباحثات الأخيرة التي انعقدت في شهر فبراير 2022، قبل بدء الحرب بأيام. كما يجري انتقاد ماكرون بسبب تصميمه على مواصلة الحديث مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في ظل اتهامه بفتور دعمه العسكري لأوكرانيا من جهة أخرى.
وقد هاجم رئيس الوزراء البولندي ماتيوز مورافيكي، الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في أبريل 2022، بسبب مفاوضاته مع بوتين، حيث وجه مورافيكي تساؤلاً للرئيس الفرنسي قائلاً: “كم مرة تفاوضت مع بوتين وماذا أنجزت؟ نحن لا نتناقش ولا نتفاوض مع المجرمين.. يجب محاربتهم”، حيث شبّه بوتين بهتلر وموسوليني وستالين للتأكيد على رفض مبدأ التفاوض معه. كما يرتبط جانب من تلك الانتقادات باتهام الرئيس الفرنسي برغبته في التفاوض لإنهاء الحرب الروسية على أوكرانيا بأي شكل وبالاعتماد على موافقة الطرف الروسي. وربما لتهدئة الانتقادات الموجهة له، أكد ماكرون في مؤتمر ميونيخ على أن الوقت ليس مناسباً للحوار مع روسيا.
4- التخوف من اعتبار “المجموعة السياسية الأوروبية” بديلاً لتوسيع الاتحاد: في ظل المعارضة الفرنسية لتوسيع الاتحاد الأوروبي، فإن مقترح إنشاء “المجموعة السياسية الأوروبية” على أهميته، والدور الذي يمكن أن يلعبه بالنسبة للدول الأوروبية غير الأعضاء في الاتحاد؛ أثار أيضاً مخاوف من أن يكون محاولة من فرنسا والدول المتحفظة على توسيع الاتحاد الأوروبي لإبقاء طلبات انضمام الدول غير الأعضاء للاتحاد معلقة إلى ما لا نهاية، بحيث تصبح المجموعة وكأنها بديل عن سياسة توسيع الاتحاد الأوروبي، وهو ما عمل عدد من المسؤولين الأوروبيين على نفيه، ومن بينهم رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال.
5- استياء ألماني وفرنسي متبادل من المبادرات الفردية: رغم تأكيد المستشار الألماني أولاف شولتس، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في يناير الماضي، على رغبتهما في العمل معاً لإعادة تأسيس أوروبا، فإن العام الأول من الحرب الأوكرانية يشير إلى خلافات بين الطرفين، منها ما يتعلق بالتنافس القيادي بين البلدين داخل الاتحاد الأوروبي، ومنها ما يرتبط برؤيتهما للدفاع الأوروبي. وبخلاف قلق برلين وبعض الدول الأوروبية من النظرة الديجولية الفرنسية للعالم وللقارة الأوروبية، التي تدفع فرنسا نحو العمل كفاعل محوري داخل الاتحاد، مع طموحات قيادية للسيطرة عليه؛ فإن جانباً كبيراً من الخلافات بين الطرفين خلال العام الماضي ارتبط بالاستياء من المبادرات الأوروبية التي يطرحها طرف دون استشارة الآخر، رغم اعتبارهما أقوى وأقرب حليفين بالاتحاد.
6- التشكيك في نوايا فرنسا وقدراتها التصنيعية: تطرح بعض التفسيرات الأوروبية للمبادرات والتحركات الدفاعية الفرنسية بُعداً اقتصادياً يرتبط برغبة باريس في الضغط على حلفائها الأوروبيين لتنفيذ سياسة شراء أوروبية تستفيد منها شركاتها الدفاعية، والحد من الاعتماد على الشركات غير الأوروبية وعلى رأسها الشركات الأمريكية، الأمر الذي يُعزز من القدرات الاقتصادية الفرنسية عبر بوابة “تجارة القطاعات الدفاعية والعسكرية”، حيث تأمل باريس -وفق هذا المنظور- في الاستفادة بأقصى قدر ممكن من الإنفاق الدفاعي الأوروبي المتزايد الذي حفزته الحرب الأوكرانية من جهة، وتدفعه المبادرات الفرنسية من جهة أخرى. ومن جانب آخر، وبخلاف التشكيك في نوايا المبادرات الفرنسية وربطها بعوامل مصلحية فرنسية اقتصادية ودفاعية، فإن ثمة شكوكاً في قدرة قطاع الصناعات الدفاعية الفرنسية على تلبية الاحتياجات الدفاعية الأوروبية بشكل كبير وسريع، مقارنة بغيرها مثل بالولايات المتحدة.
مبادرات أوروبية
ختاماً، تتوافق الرؤية الفرنسية نحو تحقيق استقلال استراتيجي دفاعي في أوروبا، وتعزيز السيادة الأوروبية، مع بعض الخطوات التي اتخذها بالفعل الاتحاد الأوروبي عقب اندلاع الحرب الأوكرانية، ومنها إعلان فرساي الصادر في 11 مارس 2022، والذي أكد أهمية تحقيق نتائج ملموسة بحلول عام 2030 فيما يتعلق بتعزيز القدرات الدفاعية الأوروبية، وزيادة الإنفاق الدفاعي، وتطوير الصناعات الدفاعية الأوروبية، وكذلك تبني وزراء الخارجية والدفاع بالاتحاد الأوروبي في الشهر ذاته سياسة دفاعية مشتركة جديدة تسمح للاتحاد بتأسيس قوات للرد السريع تبدأ العمل بحلول عام 2025 تحت اسم “البوصلة الاستراتيجية”.
ولكن هذا لا يعني توافق التوجه الأوروبي بشكل عام مع الرؤية الفرنسية على مختلف المستويات، حيث ترى دول البلطيق وبولندا -على سبيل المثال- أنه ينبغي للولايات المتحدة والناتو أن يلعبا دوراً أقوى في أوروبا. كما حذّر الأمين العام لحلف الناتو، ينس ستولتنبرج، في مؤتمر برلين للأمن، في ديسمبر الماضي، من استقلال أوروبا الكامل في مجال السياسة الدفاعية، وقال: “أنا لا أؤمن بأوروبا وحدها، ولا بالولايات المتحدة وحدها، فقط حلف الناتو يمكن أن يضمن الأمن”. وذكّر بأن دول الاتحاد الأوروبي تساهم بـ 20% من نفقات دفاع الناتو، مقابل 80% من دول الحلف الأخرى. فضلاً عن الصعوبات التي تكتنف التفكير في التخلي عن السيادة الأوروبية الفردية أو جانب منها في مجال الدفاع لصالح سيادة أوروبية دفاعية عامة للاتحاد.