يحذر تقرير حديث لخبراء الأمم المتحدة، من قدرة فرع تنظيم “داعش” بمنطقة الساحل على مضاعفة مساحات السيطرة خلال أقل من عام في دولة مالي، ويمكن النظر إلى هذا التوسع الكبير في إطار التركيز على توسيع السيطرة على الأطراف، وتوظيف عددٍ من السياقات منها الخلل الأمني المرتبط بتوالي الانقلابات العسكرية في منطقة الساحل، والتوترات والمواجهات بين الجيش المالي والحركات الأزوادية، فضلاً عن عدم بلورة استجابة للسلطة الانتقالية لمواجهة التنظيم، مع تشكيل ضغوط مزدوجة على فرع “القاعدة”، واختلال في توازن القوى في عمليات مكافحة الإرهاب.
مر النشاط العملياتي لفرع تنظيم “داعش” في منطقة الساحل، المعروف بـ”ولاية الساحل”، بعدد من التحولات خلال العامين الفائتين، على وجه الخصوص، خاصة بعد استعادة القدرة العملياتية منذ الربع الثاني من عام 2022، بما أسفر عن مضاعفة فرع التنظيم للمساحات التي يُسيطر عليها تقريباً في دولة مالي، خلال فترة أقل من عام، وفقاً لخبراء الأمم المتحدة.
ووفقاً لتقرير خبراء الأمم المتحدة، نقلته وكالة “Associated Press” الأمريكية (27 أغسطس 2023)، فإن فرع التنظيم ضاعف مساحات السيطرة في شرق ميناكا، وشمال غاو، من خلال سلسلة من العمليات الإرهابية، ومحاولة توسيع النفوذ إلى المجتمعات المحلية.
منطلقات رئيسية
من خلال المشهد الراهن في منطقة الساحل، وبالأخص في دولة مالي، يمكن التطرق إلى بعض المنطلقات الرئيسية لأبعاد النشاط العملياتي لتنظيم “داعش”، وأبرزها:
1- إعادة هيكلة فرع “داعش” في منطقة الساحل: أقدم تنظيم “داعش” منذ النصف الثاني لعام 2021، على إعادة هيكلة فرعه في منطقة الساحل، وفصله عن فرعه الإقليمي المسمى “ولاية غرب أفريقيا”، وذلك بعد مقتل زعيم مجموعة الساحل “أبو الوليد الصحراوي” عام 2021، قبل أن يبدأ في استخدام تسمية “ولاية الساحل”، في إشارة إلى عمل مجموعاته في نطاق دول (مالي، وبوركينافاسو، والنيجر) بشكل منفصل.
وساهمت إعادة الهيكلة الجديدة لأفرع تنظيم في أفريقيا، والتي شملت أيضاً فرع موزمبيق، في استعادة التنظيم نشاطه العملياتي في نطاق الدول الثلاث، بعد تراجع ملحوظ خلال النصف الثاني من عام 2022.
2- التركيز على استهداف “القاعدة” و”حركات أزواد”: عقب استعادة فرع “داعش” في الساحل لنشاطه العملياتي خلال عام 2022، كان يميل إلى موازنة العمليات الإرهابية، لاستهداف قوات الجيش المالي، جنباً إلى جنب مع فرع تنظيم “القاعدة” المعروف بـ”جماعة نصرة الإسلام والمسلمين”، إضافة إلى الحركات الأزوادية في شمال البلاد، ولكن خلال عام 2023 كانت ثمة تحولات على مستوى الأهداف.
ويبرز من خلال مراجعة بيانات التنظيم عبر منصات التواصل الاجتماعي، أن التنظيم اتجه إلى التركيز على استهداف مجموعات تنظيم “القاعدة”، والحركات الأزوادية في مالي، كما أن عمليات استهداف عناصر “القاعدة” امتدت إلى خارج مالي باتجاه بوركينافاسو خلال الأشهر القليلة الفائتة. وخلال شهر يونيو الفائت، أشار التنظيم إلى الهجوم على تمركزات تنظيم “القاعدة” في بلدة “هيغا” بمنطقة “سيبا” شمالي بوركينافاسو.
3- تحولات في أنماط الهجمات تدريجياً: اتصالاً بالتركيز على استهداف عناصر تنظيم “القاعدة”، فإن ثمة تحولاً برز خلال الأشهر القليلة الفائتة يتعلق بتنفيذ هجمات منسقة، أي إنها ليست عشوائية أو خاطفة، وإنما تستهدف قرى ونطاقات جغرافية تخضع لسيطرة ونفوذ فرع “القاعدة”.
ويتضح هذا من خلال إشارة بيانات “ولاية الساحل” إلى تنفيذ هجمات على ما وصفته بـ”معاقل مليشيا القاعدة”، في بلدة تدرمين شمالي مالي، خلال شهر مايو الفائت، وهو ما يعكس التحول التدريجي لفرع “داعش” بمحاولة توسيع السيطرة الميدانية تدريجياً، وهي علاقة طردية، مع زيادة القدرات العملياتية للتنظيم منذ عام 2022، إضافة لعوامل أخرى داخلية تتعلق بالاضطرابات الداخلية في مالي، في أعقاب الانقلاب، والتوترات مع فرنسا، والبعثة الأممية لحفظ السلام، بما زاد من مظاهر الخلل الأمني في البلاد.
4- التركيز على النشاط العابر للحدود “الرخوة”: يتركز نشاط “ولاية الساحل” في نطاق جغرافي محدد، ويميل الثبات في الدول الثلاث (مالي، وبوركينافاسو، والنيجر) مع اتجاه محدود لتنفيذ عمليات خارج هذا النطاق الجغرافي، باتجاه دول منطقة خليج غينيا خلال العامين الفائتين، ولكن يظلّ التركيز الرئيسي في النشاط العملياتي جغرافياً على المثلث الحدودي بين الدول الثلاث، أي إنه نشاط عابر للحدود.
ويستغل “ولاية الساحل” حالة الهشاشة الأمنية، وأزمة تأمين الحدود بين الدول الثلاث للتوسع ميدانياً، مستغلاً حالة الفراغ وغياب دور الدولة في المناطق الحدودية النائية، بما يؤمن للتنظيم قدراً من حرية الحركة، والتي تنعكس على القدرات العملياتية، من خلال التنقل بحرية على الحدود.
توظيف متعدد
في ضوء المنطلقات الرئيسية المحددة لأبعاد واتجاهات النشاط العملياتي لـ”ولاية الساحل”، وعوامل محفزة أخرى في مالي، ودول الجوار الجغرافي، يمكن الإشارة إلى أبرز أسباب قدرة فرع “داعش” على توسيع السيطرة الميدانية كالتالي:
1- اتجاه للتمدد الصامت بالتركيز على الأطراف الحدودية: خلال ما يقرب من عام ونصف، تركز “ولاية الساحل” على استراتيجية للتمدد الصامت بالتركيز على محاولة السيطرة على الأطراف، وتحديداً المناطق الحدودية التي تشهد تراجعاً لدور الدولة، دون الاتجاه إلى توسيع النشاط العملياتي جغرافياً خارجه خلال المرحلة الحالية.
وهذا في ضوء عاملين، الأول: عدم إثارة الحكومة المركزية، باتجاه التنظيم للتوسع السريع ميدانياً، بغض النظر عن القدرة، أو تشكيل تهديد مباشر بتنفيذ عمليات على مناطق ومنشآت حيوية. والثاني: يرتبط بتأمين المناطق الحدودية، وبناء روابط مع المجتمعات المحلية، وتلبية قدر من الاحتياجات الأساسية في تلك المناطقة، بما يزيد من إمكانية توسيع التجنيد.
2- عدم بلورة استجابة واضحة للسلطة الانتقالية: لا تبرز استجابة للسلطة الانتقالية في مالي، أو الجيش المالي، باتجاه تهديدات تنظيم “داعش”، ولكن التركيز الأكبر على مواجهة جماعة “نصرة الإسلام”، ومناوشات مع الحركات الأزوادية.
وقد يرتبط بالاستجابة المحدودة للسلطة الانتقالية والجيش في مالي، تجاه “داعش”، الانطلاق من إمكانية أن تؤدي المواجهات بين مجموعات “داعش” و”القاعدة” إلى إضعاف الطرفين، ولكن يحذر تقرير خبراء الأمم المتحدة من استراتيجية السلطة الانتقالية من هذه السياسة، خاصة مع إمكانية توطيد تلك التنظيمات علاقاتها بالمجتمعات المحلية.
وهنا، يمكن الإشارة إلى أن الصراع بين تنظيمين إرهابيين ليس بالضرورة أن يؤدي إلى القضاء على التنظيمين، وإن كان قد يؤدي إلى الإنهاك، ولكن ربما بتكلفة كبيرة على حساب السيادة على كامل إقليم الدولة، وزعزعة الثقة في الحكومة المركزية، إضافة إلى سقوط ضحايا من المدنيين، وإخضاع المجتمعات المحلية، بما يؤدي إلى تجنيد إجباري لعناصر جديدة.
3- تداعيات الانقلابات العسكرية بالساحل: يعتمد تنظيم “ولاية الساحل” على حرية الحركة في المثلث الحدودي بين (مالي، وبوركينافاسو، والنيجر)، وبالتالي فإن التنظيم اتجه إلى محاولة توظيف الاضطرابات الناتجة عن تصاعد موجة الانقلابات العسكرية في منطقة الساحل، خاصة عقب الانقلاب في النيجر أخيراً، بعد سلسلة انقلابات في المنطقة، منها ما حدث في بوركينافاسو، وسبقتها مالي.
ومن شأن الانقلابات العسكرية في منطقة الساحل أن تنعكس سلباً على الحالة الأمنية، في ضوء الانشغال بالأزمات الداخلية، مقارنة بعمليات مكافحة الإرهاب التي تواجه صعوبات كبيرة في تلك المنطقة، وبالتالي فإن الاضطرابات تؤسس لوضع جديد يزيد من انكماش الدول على المركز، بما يتيح حرية للتنظيم في الأطراف، في ضوء ترتيب أولويات مرحلي.
4- اختلال في توازن القوة بمالي: منذ عام 2022، يتضح أن ثمة اختلالاً بارزاً في موازين القوى داخل مالي، بعد انسحاب القوات الفرنسية، ومهمة الاتحاد الأوروبي بعد الانقلاب، ثم انسحاب قوة حفظ السلام الأممية. وبغض النظر عن تقييم فاعلية تلك الأطراف في حفظ الأمن وأدوارها في مكافحة الإرهاب، إلا أن انسحابها تسبب في خلل بموازين القوى.
وحاولت السلطة الانتقالية في مالي تعويض هذا الخلل في التوازن، من خلال اتفاق مع مجموعة “فاغنر”، ولكن من غير الواضح طبيعة مشاركة عناصر تلك المجموعة في العمليات العسكرية للجيش لمواجهة الإرهاب، وحدود فاعليتها، أو الاستراتيجية الجديدة لمكافحة الإرهاب.
ورغم أن قوة حفظ السلام الأممية لا تلعب دوراً في عمليات مكافحة الإرهاب، ولكنها كانت تضطلع بمهام حماية المدنيين، وبانسحابها على دفعات من مالي، يؤدي إلى حرية نفاذ للتنظيم إلى المجتمعات المحلية.
5- استغلال اضطرابات الشمال المالي: ربما تمكن تنظيم “داعش” من استغلال وتوظيف التوترات بين السلطة الانتقالية والحركات الأزوادية،التي تفاقمت بصورة ملحوظة خلال الأشهر القليلة الفائتة، وأدت لانسحاب ممثلي “تنسيقية الحركات الأزوداية”، واتهام السلطة الانتقالية بعد تنفيذ اتفاق السلام في الجزائر، وهو تبلور في مواجهات مسلحة بين الجيش والحركات الأزوادية في منطقة بير شمالي البلاد، في إطار صراع للسيطرة على قاعدة عسكرية كانت تستخدمها قوات حفظ السلام الأممية.
وفي ظل التوترات بين الطرفين، فإن التنظيم سعى إلى توسيع النفوذ والسيطرة في مناطق شرق وشمال شرق البلاد، خارج نطاق المواجهات بين الطرفين.
6- تشكيل ضغط مزدوج على “نصرة الإسلام”: تنخرط جماعة “نصرة الإسلام” في المواجهات مع الجيش المالي، وتواجه محاولة الوصول إلى مناطق نفوذها خلال الأشهر القليلة الفائتة، إضافة إلى اتساع نطاق النشاط العملياتي في أكثر من اتجاه جغرافي من شمال إلى وسط وجنوب مالي، إضافة إلى تقديم نفسها للدفاع عن المجتمعات المحلية في شمال مالي.
وهنا، فإنفرع “داعش” ركز في العمليات ضد “نصرة الإسلام”، على مناطق خارج نطاق المواجهات بين الأخيرة والجيش المالي، لتشكيل ضغط مزدوج على الجماعة، بما يمكن لفرع “داعش” النفاذ إلى مناطق نفوذ “نصرة الإسلام” والسيطرة عليها.
تهديد متزايد
وبغض النظر عن توسيع فرع “داعش” في مالي مساحة السيطرة الميدانية خلال أقل من عام، إلا أنه توسع في أغلبه على حساب فرع “القاعدة”، ولكنه يظل تهديداً متزايداً للدولة، لما يمثله من خطورة على المدنيين، خاصة مع توقعات استمرار المواجهات وتنازع السيطرة بين التنظيمين خلال الفترة المقبلة، كما أنه ينعكس على منطقة الساحل بأكملها، المضطربة بالأساس.