تسببت ردود فعل ومواقف الحكومات اليسارية في بعض دول أمريكا اللاتينية بشأن الحرب الدائرة في غزة بين إسرائيل وحركة حماس في إثارة التوترات بين تل أبيب وهذه الحكومات، خاصة بوليفيا، وكولومبيا، وتشيلي، وهندوراس التي نددت بالاعتداءات الإسرائيلية بحق المواطنين الفلسطينيين، وقامت إما بقطع العلاقات الدبلوماسية أو استدعاء سفرائها لدى إسرائيل للتشاور. مع ذلك، هناك دول أخرى في المنطقة تبنت موقفاً مغايراً، حيث أدانت عنف حماس، وأعلنت تضامنها مع إسرائيل. في الوقت نفسه، مالت بعض بلدان أمريكا اللاتينية إلى اتخاذ مسار مستقل عن الولايات المتحدة بشأن الحرب في غزة. وفي ظلّ تعقد الحرب واشتداد وتيرتها، فمن غير المرجح أن تكون دول أمريكا اللاتينية قادرة على التأثير في مجريات الصراع الدائر في الشرق الأوسط، ما لم تنجح في صياغة رؤية مشتركة حول كيفية التوصل لتسوية سلمية لهذه الحرب.
تغيرت توجهات ومواقف بعض بلدان أمريكا اللاتينية من الحرب الدائرة بين حركة حماس وإسرائيل في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023 وحتى الآن؛ إذ أصبحت تميل إلى تبني لهجة أكثر تشدداً وصرامة تجاه الممارسات الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني، بعدما قام أغلبها في البداية بإدانة هجمات حماس ضد الإسرائيليين. لم تقتصر هذه المواقف على بيانات الشجب والإدانة، بل تبنت أيضاً إجراءات دبلوماسية محددة. قامت بوليفيا بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، في الوقت الذي استدعت فيه هندوراس وكولومبيا وتشيلي سفراءها من تل أبيب للتشاور، تعبيراً عن احتجاجها على الجرائم الإسرائيلية التي تُرتكب بحق المدنيين الفلسطينيين في القطاع.
مع ذلك، فإن الإجراءات التي اتخذتها هذه الحكومات لم تكن متسقة مع البيانات الصادرة عن حكومات أخرى في المنطقة، والتي كانت أقرب للموقف الإسرائيلي، وأدانت عنف حركة حماس، وهو الأمر الذي يُثير الشكوك حول قدرة بلدان أمريكا اللاتينية على التأثير على مجريات الصراع الدائر حالياً في منطقة الشرق الأوسط.
سمات عاكسة
تتشكل مواقف بلدان أمريكا اللاتينية من الحرب الدائرة بين إسرائيل وحماس، وفقاً لعوامل ومحددات داخلية وخارجية متنوعة. ومع ذلك هناك عدة سمات تميز هذه المواقف، من بينها:
1- انقسام بلدان أمريكا اللاتينية بشأن الموقف من الحرب: تندرج حكومات الدول التي اتخذت موقفاً مؤيداً لإسرائيل -في الغالب- ضمن تيار اليمين أو يمين الوسط، ومن بينها: باراجواي، السلفادور، جواتيمالا، أوروجواي، بنما. فعلى سبيل المثال، وصف “نجيب بوكيلي” من السلفادور، وهو من أصل فلسطيني، حماس بأنها “وحوش”، وقال إن الحركة الإسلامية لا تمثل فلسطين. وكرر الرئيس الجواتيمالي “أليخاندرو جياماتي” تعازيه ودعمه لتل أبيب “في مواجهة الهجمات التي ارتكبت دون مبرر”.
في المقابل، فإن حكومات البلدان التي اتخذت مواقف ناقدة لحرب إسرائيل في غزة، ينتمي أغلبها إلى تيار اليسار ويسار الوسط، مثل: تشيلي، بوليفيا، كولومبيا، البرازيل، المكسيك. ومع ذلك، فإن الحكومتين اليساريتين في الدومينيكان وكوستاريكا، أعربتا عن الإدانة الشديدة لهجمات حماس “الإرهابية” ضد شعب إسرائيل، معلنة تضامنها معها. وينطبق الأمر نفسه على الأرجنتين، التي شددت على لسان رئيسها اليساري “ألبرتو فرنانديز” على إدانة “الهجمات الإرهابية الوحشية” ضد إسرائيل، بل إن مرشح الحزب الحاكم في الانتخابات الرئاسية “سيرجيو ماسا”، تعهد في حالة فوزه بتصنيف حركة حماس كمنظمة إرهابية، وهو الأمر الذي يمكن تفسيره بالوجود الكبير للجالية اليهودية في الأرجنتين.
2- الميل إلى اتخاذ موقف مستقلّ عن الولايات المتحدة: كانت الحكومات التي تتبنى لهجة أكثر تشدداً تجاه إسرائيل، هي من الحكومات اليسارية الراديكالية، مثل فنزويلا، كوبا، ونيكاراجوا. على سبيل المثال، قالت الحكومة الكوبية إن هجمات حماس هي “نتيجة 75 عاماً من الانتهاك الدائم لحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف، وسياسة إسرائيل العدوانية والتوسعية”. أما رئيس فنزويلا “نيكولاس مادورو”، فندد بـ”الإبادة الجماعية” للشعب الفلسطيني في غزة على يد إسرائيل، مع “القصف العشوائي” من قبل جيشها. ويمكن تفسير ذلك بأن الدول الثلاث تتبنى مواقف مناهضة للهيمنة الأمريكية في أمريكا اللاتينية، وهي تخضع لعقوبات أمريكية يعود بعضها لحقبة ستينيات القرن الماضي، كما هو الحال في كوبا. لهذا، فإن الحكومات الثلاث وجدت في انتقاداتها اللاذعة لإسرائيل، المدعومة من قبل واشنطن، ذريعة قوية مهمة لمهاجمة الدعم الأمريكي لتل أبيب. يذكر أن إسرائيل لا تعترف بشرعية الرئيس الفنزويلي “نيكولاس مادورو”، كما أنها دائماً ما تصوت بجانب الولايات المتحدة ضد القرار السنوي الذي يصدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، والداعي إلى رفع الحظر الأمريكي المفروض على كوبا.
مع ذلك، قامت بعض الدول الحليفة -تقليدياً- للولايات المتحدة، باتخاذ مواقف مغايرة للموقف الأمريكي الداعم لإسرائيل. من بين هذه الدول كل من كولومبيا، وتشيلي، والبرازيل، وكذلك المكسيك، على نحو يعكس المزيد من تراجع الهيمنة الأمريكية في المنطقة. أدانت هذه البلدان جميعاً استهداف الجيش الإسرائيلي للمدنيين في غزة، وانتهاكه قواعد القانون الدولي الإنساني، ووصل الأمر إلى إعلان الرئيس الكولومبي رفضه “الإبادة الجماعية”. ويمكن أن يُفسَّر ذلك باستناد السياسة الخارجية لعدد من بلدان أمريكا اللاتينية إلى مبادئ الدفاع عن حقوق الإنسان، كما هو الحال في موقف رئيس تشيلي “غابريل بوريك”، والتزامها بمبادئ القانون الدولي والحل السلمي للمنازعات. يضاف إلى ذلك، سعي العديد من دول أمريكا اللاتينية إلى تبني سياسة خارجية مستقلة بشأن الحرب في غزة، وتمييز نفسها عن الولايات المتحدة، كما فعلت في حرب أوكرانيا، من أجل تعزيز مكانتها الدولية.
3- الشكوك حول فاعلية النفوذ الإسرائيلي في أمريكا اللاتينية: حظي معظم دول أمريكا الوسطى بدعم إسرائيلي قوي على مدار السنوات الماضية، والذي تمت ترجمته في مبيعات الأسلحة والمساعدات الإنمائية واتفاقات التجارة الحرة وغيرها. كما شاركت تل أبيب هذه البلدان في جهودها لقمع حركات التمرد المسلح خلال سبعينيات القرن الماضي، وهو الأمر الذي استتبعه دعم دبلوماسي من قبل هذه الدول لإسرائيل في المحافل الدولية. قامت كل من جواتيمالا وباراجواي بنقل سفارتيهما من تل أبيب إلى القدس. ومع تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة في أكتوبر الماضي على قرار غير ملزم يدعو إلى “هدنة إنسانية فورية” في غزة، صوت البلدان ضد القرار، بينما امتنعت أوروجواي وهايتي وبنما عن التصويت.
مع ذلك، فإن هناك استثناءات على هذا الموقف. فعلى الرغم من إسرائيل كانت أحد الموردين الرئيسين لكولومبيا للطائرات الحربية ومعدات المراقبة والبنادق الهجومية منذ تسعينيات القرن العشرين، فإن هذا لم يَحُلْ دون توجيه رئيس كولومبيا “غوستافو بترو” انتقادات لاذعة لإسرائيل، ورفضه إدانة هجوم حماس، بل قارن أعمال إسرائيل في غزة بأعمال ألمانيا النازية، وهو الأمر الذي أدى إلى إعلان وزارة خارجيتها تعليق صادرات الدفاع إلى كولومبيا. ويمكن تفسير موقف الرئيس بترو بخلفيته السياسية، حيث كان عضواً سابقاً في جماعة مسلحة من جماعات حرب العصابات في كولومبيا، إضافة إلى سيادة موقف بين الحكومات اليسارية اللاتينية داعم لنضال الفلسطينيين من أجل إقامة دولتهم المستقلة مثلما حدث مع العديد من بلدان أمريكا اللاتينية التي كافحت ضد الاستعمار الأوروبي وكذلك الهيمنة الأمريكية.
4- مخاوف متزايدة من الحضور الإيراني: نجحت إيران خلال السنوات الماضية في تعزيز نفوذها في العديد من بلدان أمريكا اللاتينية، وربما يكون هذا عاملاً مؤثراً على توجهات بعضها نحو إسرائيل. على سبيل المثال، كانت بوليفيا أول دولة في أمريكا اللاتينية تُقرر قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، مبررة موقفها بأنه جاء “رفضاً وإدانة للهجوم العسكري الإسرائيلي العدواني وغير المتناسب في قطاع غزة، وتهديده للسلم والأمن الدوليين”. في المقابل، انتقدت إسرائيل موقف بوليفيا، باعتباره “استسلاماً للإرهاب ونظام آية الله في إيران”. وعلى الرغم أنه من الصعب التأكد من صحة المزاعم الإسرائيلية، فهناك بالفعل علاقات وثيقة، خاصة في مجال الأمن والدفاع، تربط بوليفيا بإيران، والتي تُتهم بدعم حركة حماس. يعود تاريخ أول اتفاقية تعاون عبر الأقمار الصناعية بين بوليفيا وإيران إلى أغسطس 2016، كما التقى الرئيس البوليفي نظيره الإيراني في 20 سبتمبر 2022 لتقييم “خطة استراتيجية تشمل الصحة والثقافة والتعليم ووكالة الفضاء والزراعة والاتصالات”، ووقعت مذكرة في طهران في يوليو 2023.
عوامل التأثير
تمثل الحرب في غزة إحدى أكثر الحروب تعقيداً في ظل تعارض مصالح العديد من الأطراف والقوى الإقليمية والدولية، المنخرطة في هذه الحرب، ويمكن القول إن قدرة أمريكا اللاتينية على التأثير على مجريات الصراع مرهونة بعدة عوامل، من بينها:
1- استمرار الدعم الأمريكي (الغربي) لإسرائيل: من غير المرجّح أن تؤدي التحركات الدبلوماسية لدول أمريكا اللاتينية لردع إسرائيل، التي قال رئيس وزرائها “بنيامين نتنياهو” إن بلاده تخوض معركة وجودية طالما ظل الدعم الأمريكي “غير المشروط” كما هو دون تغيير. ومع ذلك، فإنه في حال حذت بلدان أخرى في المنطقة حذو بوليفيا، مثل: كولومبيا، وشيلي، وهندوراس، وقامت بقطع العلاقات أو استدعاء سفرائها من إسرائيل، فإن ذلك من شأنه أن يزيد من عزلتها الدبلوماسية دولياً خاصة مع استمرار هجماتها على الشعب الفلسطيني.
2- مدى جدية الضغوط الأمريكية على بلدان المنطقة: يُمكن أن يتسبب اتجاه بعض دول أمريكا اللاتينية إلى التشدد في مواجهة إسرائيل بشكل أكبر، في زيادة الضغوط الأمريكية عليها. كان هذا واضحاً في انتقادات واشنطن للرئيس الكولومبي بسبب تصريحاته تجاه إسرائيل. ومن غير المرجح أن تدفع هذه الضغوط بلدان المنطقة إلى مراجعة سياساتها تجاه طرفي الصراع في الشرق الأوسط، لكن يمكن أن تدفعها إلى اتخاذ موقف محايد، أو على أقل تقدير تخفيف حدة لهجتها الناقدة لتل أبيب.
3- قدرة دول أمريكا اللاتينية على تبني موقف متماسك: يكشف الوضع الراهن عن تباين مواقف بلدان أمريكا اللاتينية من الحرب في غزة. مع ذلك، فإنه في حال نجحت هذه البلدان في إطار تجمعاتها الإقليمية المختلفة مثل تجمع الأوناسور في تنسيق مواقفها والتوافق حول رؤية مشتركة بشأن كيفية التوصل لحل سلمي للحرب، فإن هذا من شأنه أن يعزز من الثقل الدولي لبلدان أمريكا اللاتينية، ويقوي موقفها التفاوضي. يمكن أن تلعب البرازيل (أكبر دولة في أمريكا اللاتينية والعضو غير الدائم في مجلس الأمن الدولي) دوراً محورياً في هذا الإطار.
4- مواقف القوى السياسية الداخلية: بقدر ما يغيب التوافق عن رؤى بلدان أمريكا اللاتينية بشأن الحرب، هناك أيضاً تباين في مواقف القوى السياسية داخل هذه البلدان، ليس فقط بين اليهود والعرب الموجودين هناك، ولكن أيضاً داخل نفس الحكومة، مثلما هو الحال في المكسيك حيث اتخذ الرئيس موقفاً محايداً من طرفي الصراع، بينما أدانت وزارة الخارجية هجمات حماس على الشعب الإسرائيلي. ومن شأن استمرار هذه الانقسامات أن يزيد من التوتر السياسي داخل بلدان المنطقة، ويضعف من قدرتها على تبني موقف متماسك يمكنها من التأثير على مسار الصراع ومستقبله.
تباينات حادة
من جملة ما سبق، يمكن القول إن الحرب في غزة مثل غيرها من الأزمات الدولية، كشفت عن وجود انقسامات عميقة في مواقف حكومات بلدان أمريكا اللاتينية، والتي لم تستطع التحدث بصوت واحد أمام المجتمع الدولي، وهو الأمر الذي فاقمه تباين رؤى القوى الداخلية في العديد من البلدان بشأن كيفية الاستجابة لهذه الحرب، وهو الأمر الذي ينذر بمزيد من التراجع في مكانة منطقة أمريكا اللاتينية على الساحة الدولية.