تفاعلت تركيا مع عملية طوفان الأقصى من منطلق براجماتي بحت، وتمثّلت أبرز اتجاهات تفاعلها في تبني خطاب يغلب عليه “التوازن الحذر”، والسماح بالمظاهرات الداعمة للمقاومة الفلسطينية في مناطق تركية مختلفة، وتبني موقف داعم للأقصى وحل الدولتين، وطرح مبادرة للوساطة بين طرفي المواجهات، وتكثيف الاتصالات مع حكومات المنطقة، حيث يحركها مجموعة دوافع هي: تحسين العلاقات مع تل أبيب، والحفاظ على منسوب العلاقات الاقتصادية معها، وتوظيف ورقة إسرائيل لتحييد الضغوط الغربية على أنقرة، وتعزيز الثقة مع خصوم حماس في الإقليم، وذلك في إطار حرص أنقرة على تأمين وحماية مصالحها المتقاطعة مع طرفي المواجهات.
فقد دخلت تركيا على خط المواجهات الفلسطينية-الإسرائيلية عشية استهداف حركة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة مستوطنات غلاف غزة؛ حيث أعلنت في 10 أكتوبر الجاري عن استعدادها للمساعدة في تنفيذ صفقة لتبادل الأسرى بين حركة “حماس” وإسرائيل. كما شدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في تصريحات له، في 8 أكتوبر الجاري، على أنه “لا يمكن تحقيق السلام في المنطقة إلا من خلال حل الدولتين لإنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني”.
وفي محاولات تركيا تثبيت دورها في المشهد الراهن، دعت الخارجية التركية في بيان لها عشية الهجوم الذي بدأ في 7 أكتوبر الجاري، إلى ضبط النفس والابتعاد عن العنف، خاصة أن عملية طوفان الأقصى أسفرت عن قتل أكثر من ألف إسرائيلي، بالإضافة إلى أسر العشرات من الجنرالات الإسرائيليين، فضلاً عن تمكّن عناصر المقاومة الفلسطينية من الاستيلاء على جانب معتبر من المعدات العسكرية للجيش الإسرائيلي، وهو ما فتح الباب لانخراط الأطراف الإقليمية، وفي الصدارة منها تركيا في المشهد، في إطار محاولات التهدئة، ولجم العنف الإسرائيلي المنفلت ضد القطاع.
اتجاهات أنقرة
تمثّلت أبرز اتجاهات المواقف التركية تجاه المواجهات العسكرية بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل فيما يلي:
1- تبني خطاب يغلب عليه “التوازن الحذر“: سعت تركيا إلى تبني خطاب يتسم بالتوازن والحذر حيال عملية طوفان الأقصى، ففي الوقت الذي أدانت فيه الخارجية التركية سقوط ضحايا مدنيين في مستوطنات غلاف غزة، أكد الرئيس أردوغان معارضة بلاده الأعمال العشوائية ضد السكان المدنيين الإسرائيليين. لكن في المقابل دعا الرئيس التركي الأطراف إلى ضبط النفس وتجنب الخطوات التي من شأنها تصعيد التوتر. واعتبر أردوغان أن استمرار العنف وتأخر تحقيق العدالة يدفع ثمنه الفلسطينيون والإسرائيليون ومنطقتنا بأكملها.
2- السماح بالتظاهرات الداعمة للفلسطينيين: شهد الشارع التركي حراكاً داعماً لعملية طوفان الأقصى، وظهر ذلك في المظاهرات الداعمة للمقاومة الفلسطينية، والتي نظمتها جمعيات تركية إسلامية في إسطنبول أمام القنصلية الإسرائيلية. كما نظم حزب “الهدى بار”، وهو حزب إسلامي كردي قريب من السلطة، فعاليات ضخمة في جنوب شرق تركيا، بالإضافة إلى التظاهرات التي شهدتها المحافظات التركية على الحدود السورية. ومن جهتها، أعلنت العديد من الأحزاب التركية تأييدها للعملية، واعتبرت أنها جاءت في سياق الممارسات العنيفة التي تتبعها إسرائيل ضد الفلسطينيين.
3- تبني موقف داعم للأقصى وحل الدولتين: أكدت تركيا منذ الإعلان عن عملية طوفان الأقصى، أن الهجوم تم نتيجة الانسداد السياسي لعملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فضلاً عن الممارسات الإسرائيلية ضد المقدسات الإسلامية في فلسطين. ومن جانبه، أدان الرئيس التركي الهجوم العنيف الذي أطلقته إسرائيل على قطاع غزة، وأعلن معارضة بلاده للاجتياح البري للقطاع. كما أكد على أن بلاده ستواصل معارضة أية محاولة تستهدف المسجد الأقصى. وأضاف: “لن يكون هناك سلام في المنطقة دون إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة وعاصمتها القدس داخل حدود عام 1967″، وذكر أن إقامة الدولة الفلسطينية في الوقت الحالي أصبح “ضرورة لا يمكن تأجيلها”.
4- طرح مبادرة للوساطة بين طرفي المواجهات: تعي تركيا أن آلية الوساطة في التوقيت الحالي يمكن أن تُسهم في تعزيز الثقة بين طرفي المواجهات المسلحة.ووفقاً لهذه الآلية، عبّرت تركيا عن استعدادها للوساطة والمساعدة في تهدئة الأوضاع في أعقاب عملية طوفان الأقصى. وأكّد الرئيس أردوغان، في 7 أكتوبر الجاري، استعداد بلاده للقيام بجهود وساطة وخطوات لمنع زيادة التوتر الناجم عن الصراع الدائر. كما جدد عرضه للوساطة في 10 أكتوبر الجاري.
ويأتي طرح أردوغان للوساطة في إطار قناعة تركية بأن أنقرة هي الوحيدة التي تمتلك علاقات خاصة مع الطرفين، علاقة أيديولوجية وسياسية مع حماس، وعلاقة من جانب آخر لها خصوصيتها مع الطرف الإسرائيلي، خاصة بعد عودة العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين البلدين، وتصفية الملفات الشائكة.
ووفقاً لمراقبين وتقديرات محلية تركية، فإن أنقرة يمكن أن تقوم بدور مهم في البحث عن حلّ للأزمة الراهنة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، من منطلق توظيف التقارب الحالي بين تل أبيب وتركيا، وهو التقارب الذي يمكن استثماره لتحفيز إسرائيل على نبذ العنف، وذلك خلافاً للوضع السابق الذي كانت فيه العلاقات متوترة بسبب الاعتداء الإسرائيلي على السفينة التركية “مرمرة” في العام 2010، ولم تكن هناك قنوات رسمية بين أنقرة وتل أبيب.
بيد أن الوساطة التركية ربما لا تجد رواجاً في أوساط الحكومة الإسرائيلية، في ظل استضافة أنقرة عدداً من عناصر “حماس”، وهنا يمكن فهم تصريحات السفيرة الإسرائيلية لدى أنقرة والتي قالت: “إن من السابق لأوانه الحديث عن عروض وساطة”، وأضافت: “إن الهجمات تظهر أنه لا ينبغي أن يكون لحماس أي وجود في تركيا أو في أي مكان آخر بالعالم.. لا يوجد مكان للإرهابيين لتوجيه أوامر أو تعليمات من أي بلد في العالم”.
5- تكثيف الاتصالات مع حكومات المنطقة: سعت تركيا منذ وقوع الاشتباكات بين الفلسطينيين والإسرائيليين إلى تعزيز اتصالاتها مع القوى الإقليمية التي يمكن أن تلعب دوراً مؤثراً في الأزمة الراهنة، بالإضافة إلى مواصلة المشاورات مع طرفي الأزمة، وظهر ذلك فيإعلان الرئاسة التركية في 9 أكتوبر الجاري، إجراء الرئيس أردوغان اتصالات هاتفية مع عدة دول حول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، من بينها ما جمعه بنظيريه الفلسطيني والإسرائيلي، بالإضافة إلى مهاتفة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي لبحث مستجدات الوضع الحالي وسبل وإمكانيات التهدئة. كما كثّفت أنقرة اتصالاتها مع موسكو والأمم المتحدة وقطر ولبنان والنمسا.
دوافع متنوعة
يطرح الموقف التركي حيال عملية طوفان الأقصى الذي اتسم بالتوازن والحذر في ردود الأفعال على تطورات الأحداث، العديد من التساؤلات، وفي الصدارة منها الدوافع التركية وراء ذلك، ويمكن بيانها على النحو التالي:
1- تحسين العلاقات مع تل أبيب: أرادت تركيا من تبني نهج حيادي إزاء عملية طوفان الأقصى، وطرح مقترح للوساطة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ترسيخ التقارب الحادث مؤخراً مع تل أبيب، وتحسين العلاقات معها. وفي هذا الصدد، تتطلع تركيا إلى تطوير مشاريع نقل الغاز الإسرائيلي عبر تركيا إلى أوروبا.
على جانب آخر، تعي تركيا أن تحسين العلاقات مع إسرائيل يمكن أن يوفر لها بيئة خصبة للقيام بدور بناء وفاعل في القضية الفلسطينية كوسيط أكثر من كونها طرفاً خصماً ضد إسرائيل، وداعماً لحركة “حماس”. وفي هذا السياق، يمكن فهم حرص تركيا على اعتماد خطاب عقلاني غير انفعالي إزاء عملية طوفان الأقصى.
2- الحفاظ على منسوب العلاقات الاقتصادية مع إسرائيل: تُشير البيانات الرسمية الصادرة عن معهد الإحصاء التركي وجمعية المصدرين الأتراك، إلى تنامي المبادلات التجارية بين تركيا وإسرائيل خلال الفترة الماضية، حيث زادت معدلات التجارة بين إسرائيل وتركيا لتبلغ 6 مليارات دولار، وفقاً لغرفة التجارة الإسرائيلية. وبحسب تصريحات السفير التركي لدى إسرائيل شاكر أوزكان، في 12 يناير 2023، فإن حجم التجارة يتوقع أن يصل إلى 15 مليار دولار خلال المرحلة المقبلة.
وشهدت العلاقات تحسناً إيجابياً مع زيارة الرئيس الإسرائيلي “إسحاق هرتسوغ” في مارس 2022 لتركيا، ووصل التطور للذروة في نهاية العام 2022، عندما أعلنت وزارة النقل الإسرائيلية عن أنها ستوسع خطوط وحركة الطيران مع تركيا، وذلك بموجب اتفاق طيران جديد هو الأول بينهما منذ عام 1951.
3- توظيف ورقة إسرائيل لتحييد الضغوط الغربية: يمكن فهم الموقف التركي أيضاً في إطار محاولات أنقرة توظيف إسرائيل كورقة رابحة في حل القضايا العالقة بين أنقرة وواشنطن التي أعلنت عن توفير دعم مطلق لإسرائيل عشية عملية طوفان الأقصى من قبل حماس التي اعتبرها الرئيس الأمريكي بايدن “شراً مطلقاً”. وتجدر الإشارة إلى أن أنقرة تسعى إلى استثمار التطور الإيجابي الحادث في علاقاتها مع إسرائيل للضغط على واشنطن للموافقة على استمرار حيازة أنقرة منظومة S400 الروسية، وكذلك وقف الإدارة الأمريكية دعمها لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي ترى تركيا أنها تهدد أمنها القومي. وعليه، فإن الموقف التركي المتوازن حيال عملية طوفان الأقصى يأتي في سياقات تأمين وحماية المصالح التركية مع إسرائيل والولايات المتحدة.
4- تعزيز الثقة مع خصوم حماس في الإقليم: لا ينفصل الموقف التركي الحالي حيال عملية طوفان الأقصى عن رغبة أنقرة في تعزيز حالة الثقة مع دول الإقليم التي تعارض سياسات “حماس”، وتناهض توجهها نحو العنف واستهداف المدنيين الإسرائيليين. وبالتالي، تسعى تركيا من وراء هذا الموقف إلى تحقيق مكاسب سياسية مع دول المنطقة، وبرز ذلك في حرص الرئيس أردوغان على التواصل مع قادة مصر والإمارات والسعودية وعدد واسع من دول المنطقة التي تجمعها علاقات دبلوماسية مع تل أبيب.
بالتوازي، فإنّ موقف تركيا يأتي في سياق حرصها على الحفاظ على التطور الحادث في علاقاتها مع السلطة الفلسطينية، حيث زار أبو مازن تركيا في 22 أغسطس 2022 و22 يوليو 2023، وتفكر تركيا في الاستفادة من انفتاح السلطة عليها، ومحاولة استقطابها، وهو ما قد يساهم في إيصال رسالة لإسرائيل بأن أنقرة قادرة على التأثير على مختلف القوى الفلسطينية من جهة، ومن جهة أخرى البعث برسالة إلى السلطة الفلسطينية، مفادها أن تركيا ليست على طول الخط مع تحركات حماس وممارساتها المنفردة بشأن إدارة المشهد مع تل أبيب.
5- تجذير النفوذ الإقليمي في الشرق الأوسط: سعت أنقرة من خلال تبنيها نهجاً حيادياً، إضافة إلى طرح الرئيس أردوغان استعداده للوساطة حيال التطورات الراهنة بين الفلسطينيين والإسرائيليين،إلى اتّخاذها استراتيجية خاصة لتعزيز النفوذ التركي في الإقليم، وعلى غرار ما قامت به في أزمات أخرى مثل ناغورنوكارباخ. وتستهدف تركيا من وراء هذه الاستراتيجية الجديدة تحقيق عدة أهداف رئيسية، منها التسليم بأن تركيا دولة إقليمية كبرى، وأنها يمكن أن تلعب دوراً فاعلاً في حل الأزمات، فضلاً عن رغبة تركيا في تعزيز مساحات التنسيق والتفاهم مع القوى الإقليمية وبخاصة العربية المنخرطة في القضية الفلسطينية، والتأكيد على أنّ تركيا لا تغرد خارج السرب.
تحديات محتملة
ختاماً، يمكن القول إن الموقف التركي حيال عملية طوفان الأقصى جاء معاكساً لما كان عليه في أوقات سابقة، حيث ابتعدت أنقرة عن الخطابات الشعبوية والسياسات المنحازة لحليفتها الأيديولوجية “حماس”. وسعت عبر هذا الموقف إلى تحقيق جملة من المصالح في نفس التوقيت مع إسرائيل والجماعات المحلية الفلسطينية على اختلاف اتجاهاتها وتوجهاتها، وكذلك مع القوى الدولية والإقليمية المنخرطة في الأحداث الراهنة. بيد أن حسابات تركيا قد تواجه تحديات محتملة، خاصة في ظل مطالب إسرائيلية ملحة بضرورة ترحيل عناصر حماس من تركيا، بالإضافة إلى ضعف الأوراق التي تملكها أنقرة إزاء طرفي المواجهات: إسرائيل المدعومة من واشنطن، و”حماس” التي باتت أقرب إلى طهران.