وقّع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في ٣١ مارس الفائت، وثيقة بعنوان “مفهوم السياسة الخارجية لروسيا الاتحادية” لمواكبة التغييرات الجذرية في السياسة الدولية منذ آخر إصدار للاستراتيجية في نوفمبر ٢٠١٦، حيث قال وزير الخارجية الروسية سيرجي لافروف في كلمة أمام أعضاء مجلس الأمن الروسي، أن “الاستراتيجية الجديدة تعكس واقعاً سياسياً جديداً ومتغيرات جيوسياسية وتطورات ثورية في العالم، والتي تسارعت بشكل ملحوظ مع بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا منذ ٢٤ فبراير ٢٠٢٢”. وتشير أول فقرة في الوثيقة إلى أنها وثيقة تخطيط استراتيجي توفر رؤية منهجية للمصالح الوطنية لروسيا، والمبادئ الأساسية، والأهداف الاستراتيجية، والمهام الرئيسية، والاتجاهات ذات الأولوية للسياسة الخارجية لروسيا.
مرتكزات عديدة
تضمن الجزء الخاص بمسارات السياسة الخارجية الروسية بالوثيقة ملامح السياسة الخارجية الروسية تجاه منطقة الشرق الأوسط ومستقبل العلاقات مع العديد من دول المنطقة، التي تقوم على منع النزاعات المسلحة وحلها ومنع التحريض على “الثورات الملونة” وغيرها من محاولات التدخل في الشئون الداخلية لحلفاء روسيا وشركائها. وقد تضمنت الوثيقة بعض مرتكزات السياسة الخارجية الروسية في المنطقة، ومن أبرزها ما يلي:
1- التعامل مع العالم الإسلامي ككتلة واحدة: لم تتعامل الوثيقة الجديدة للسياسة الخارجية الروسية مع دول منطقة الشرق الأوسط ككتلة إقليمية متمايزة عن باقي الدول الإسلامية، ولكنها تناولت ملامح السياسة الخارجية الروسية تجاه دولها في إطار الاستراتيجية الروسية تجاه العالم الإسلامي ككتلة موحدة، على عكس نهج الولايات المتحدة التي تعاملت مع بعض الدول على أساس انتمائها السني والشيعي.
ويكشف ترتيب الوثيقة لتناول السياسة الخارجية الروسية تجاه دول منطقة الشرق الأوسط، والذي جاء تحت عنوان العالم الإسلامي، عن مركزيتها بالنسبة لموسكو، حيث تأتي في الترتيب بعد منطقة القطب الشمالي، والعلاقات مع الصين والهند، والتواجد الروسي في منطقة الإندو-باسيفك. وتأتي في مراتب تالية أفريقيا وأمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي وأوروبا والولايات المتحدة والقارة القطبية الجنوبية (أنتاركتيكا).
2- التعاون مع الدول العربية لمكافحة الإرهاب: أشارت الوثيقة إلى تعزيز روسيا التعاون متعدد الأوجه مع الحلفاء والشركاء في العالم الإسلامي في مجال مكافحة الإرهاب، وتزويدهم بالمساعدة العملية في عمليات مكافحة الإرهاب. فقد أضحت مكافحة الإرهاب في منطقة الشرق الأوسط إحدى أولويات السياسة الخارجية لروسيا، نظراً للتهديدات الأمنية التي تعاني منها، ولقرب المنطقة من الحدود الروسية.
وتقوم الاستراتيجية الروسية لمكافحة الإرهاب على العمل على الحد من التطرف الإسلامي والنشاط الإرهابي في منطقة الشرق الأوسط الذي قد يمتد إلى روسيا، والدول التي كانت في السابق تدور في فلك الاتحاد السوفيتي السابق، وذلك من خلال بناء تحالف بين دول المنطقة يضم جميع الدول المعنية بالقضاء على بؤر الإرهاب في المنطقة، والعمل على تحقيق تسوية سياسية مستدامة للصراعات بها، والتي من شأن استمرارها توسيع نطاق النشاط الإرهابي في الدول الفاشلة التي تفقد السيطرة على أراضيها وحدودها بسبب الصراعات والحروب الأهلية.
وعادة ما تكون قضية مكافحة الإرهاب على أجندة لقاءات المسئولين الروسيين بنظرائهم العرب. فقد أكد رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، خلال لقائه بوزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، في ٦ فبراير الماضي، على استمرار التواصل والتنسيق المعلوماتي بين البلدين في مجال مكافحة الإرهاب والتطرف بالعراق والشرق الأوسط. وأشار الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين، خلال لقائه بالرئيس السوري بشار الأسد، في 15 مارس الفائت، إلى أنه “بفضل الجهود المشتركة تم تحقيق نتائج بارزة في مجال مكافحة الإرهاب”.
3- حماية المسيحيين في الشرق الأوسط: تضمنت وثيقة السياسة الخارجية الروسية إشارة لحماية المسيحيين في الشرق الأوسط، والذي يُعزَى لانتشار الخطاب المحافظ في روسيا، وتصاعد دور الكنسية الأرثوذكسية الروسية، التي تُعد ثاني كنيسة مسيحية على مستوى العالم بعد الكنيسة الكاثوليكية، ودورها في دعم العمليات العسكرية الروسية ضد أوكرانيا، وسعيها لتوسيع دائرة نفوذها داخل العالم الأرثوذكسي. وكثيراً ما أعرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن أسفه لما وصفه بـ”الاضطهاد” الذي يتعرض له المسيحيون في الشرق الأوسط.
وتستغل موسكو مبدأ “الدفاع عن المسيحيين في الشرق الأوسط”، على نحو بدا جلياً في تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، في 24 يوليو ٢٠٢١، والتي قال فيها: “إن وزارة الخارجية الروسية بالتعاون مع الكنيسة الروسية تتخذ خطوات ملموسة لحماية المسيحيين، وخاصة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا”. وقد اعتبرت هذه التصريحات أحد مسوغات التحركات الروسية في المنطقة، ولا سيما في سوريا، والتي سعت موسكو إلى إضفاء طابع إيجابي عليها داخلياً وخارجياً، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط التي يشهد العديد من دولها اقتتالاً طائفياً يهدد، في رؤية موسكو، المسيحيين في مناطق الصراعات المشتعلة راهناً.
4- إنهاء الخلافات بين دول المنطقة: كشفت الوثيقة عن سعي روسيا لإنهاء الخلافات بين إيران والدول العربية، وسوريا وجيرانها. وبالفعل تدعم موسكو الجهود التي تبذل لإعادة إدماج الأخيرة في المنظومة العربية مجدداً، وتطبيع العلاقات بين تركيا وسوريا. وبالفعل، عُقد في العاصمة الروسية الاجتماع الرباعي حول مساعي تطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق، وذلك على مستوى نواب وزراء خارجية كل من روسيا وإيران وسوريا وتركيا في ٣ أبريل الجاري، من أجل التباحث حول الإجراءات التي يمكن اتخاذها من أجل تحقيق هذا الهدف خلال المرحلة القادمة.
وعلى الرغم من أن الصين قامت برعاية اتفاق إعادة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران، في 10 مارس الفائت، فإن روسيا أعلنت أنه كان لها دور في هذا الاتفاق، حيث كشف نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوجدانوف، في ١١ مارس الفائت، عن أن روسيا ساهمت بجانب دول أخرى مثل سلطنة عُمان والعراق في اتفاق استئناف العلاقات بين السعودية وإيران، وأوضح أن الاتفاق يأتي متسقاً مع سياسة روسيا الداعية إلى حسن الجوار وضمان واحترام السيادة والاستقلال، وأن هذا الاتفاق سينعكس إيجابياً على مجمل الأوضاع في المنطقة، وخاصة في الملفات الخلافية بينهما في سوريا ولبنان والعراق واليمن، وهو ما سيخدم الهدف الذي أشارت إليه الوثيقة، والذي يتمثل في المساعدة في حل النزاعات المسلحة في منطقة الشرق الأوسط.
قيود محتملة
منذ بداية العمليات العسكرية الروسية ضد أوكرانيا في ٢٤ فبراير ٢٠٢٢، والسياسة الخارجية الروسية تشهد تغيرات جذرية ونشاطاً لتعزيز نفوذ روسيا كقوة عظمى وفاعل رئيسي مهم في السياسة الدولية، وتحدي القوة والنفوذ الأمريكي والهيمنة الغربية. وتعد منطقة الشرق الأوسط إحدى المناطق الاستراتيجية التي يسعى الرئيس بوتين لتعزيز الوجود والنفوذ الروسي فيها، ولتأكيد عودة روسيا للمسرح العالمي مرة أخرى، ولكن الدور الروسي لمواجهة الولايات المتحدة في المنطقة قد يواجه العديد من العقبات في ظل الانشغال الروسي بتطورات العمليات العسكرية في أوكرانيا، والتحضير لعملية الربيع، واستنزاف العديد من الموارد الروسية في تلك الحرب، والتي من شأنها التأثير على مستقبل الدور الروسي في ملفات وأزمات المنطقة. وقد تضمنت الوثيقة بعض الأهداف الذي يصعب تنفيذها، مثل إنشاء هيكل شامل ومستدام للأمن والتعاون الإقليمي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يستند إلى الجمع بين قدرات الدول والمنظمات الإقليمية. وأشارت الوثيقة إلى اعتزام موسكو التعاون بنشاط مع جميع الدول والمنظمات من أجل تنفيذ مفهوم الأمن الجماعي الروسي لمنطقة الخليج العربي، الذي سيكون، وفقاً للمقاربة الروسية، خطوة مهمة نحو استقرار مستدام وشامل في الشرق الأوسط، وهو أمر صعب لعديد من الأسباب، من أبرزها استمرار اعتماد دول المنطقة على العلاقات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة كمحور أساسي في مواجهة التهديدات الإقليمية.