مرآة معبرة:
كيف تعكس أوضاع “الموانئ البحرية” تفاعلات الشرق الأوسط؟

مرآة معبرة:

كيف تعكس أوضاع “الموانئ البحرية” تفاعلات الشرق الأوسط؟



تعكس أوضاع الموانئ البحرية، في السعودية والإمارات واليمن وسوريا وإيران وليبيا والسودان، واقع التفاعلات في منطقة الشرق الأوسط، خلال الفترة الماضية، وهو ما تكشف عنه جملة من الدلالات، منها بدء أولى خطوات تخصيص موانئ تجارية وصناعية بالسعودية على نحو يؤدي إلى الارتقاء بمنظومة النقل البحري في المملكة لتصبح في الصدارة العالمية مدعومة بآليات عمل موثوقة وعالية الكفاءة وسريعة الوتيرة، واستمرار استقبال ميناء الحديدة اليمني الأسلحة الإيرانية بما يضاعف من تأثير المشروع الإيراني في جنوب الجزيرة العربية، ووصول الدفعة السادسة من منحة المشتقات النفطية السعودية إلى ميناء نشطون باليمن بما يعكس دور البرنامج السعودي لتنمية وإعمار اليمن، وبوادر سيطرة روسية على ميناء اللاذقية في سوريا بعد تعرضه لقصف إسرائيلي قيل إنه استهدف حاويات سلاح إيراني على نحو يشير إلى خلاف الحلفاء “موسكو وطهران” على المنافع الاقتصادية التي تكمن في إدارة الموانئ السورية، وإقرار مجلس الوزراء العراقي اتفاقية مد أنبوب نقل النفط من البصرة إلى ميناء العقبة الأردني بما يعزز الشراكة الاستراتيجية بين الدول الأطراف في مشروع “الشام الجديد”.

يكشف واقع التفاعلات الإقليمية أن الموانئ، سواء في دول الاستقرار أو بؤر الصراعات، تمثل مؤشراً دالاً على الوضع في الشرق الأوسط، وذلك على النحو التالي:

رؤية 2030

1- بدء أولى خطوات تخصيص موانئ تجارية وصناعية بالسعودية: بدأت السعودية في مرحلة تأهيل المستثمرين لمشروع عقود الإسناد ذات الأولوية لثمانية عقود إسناد جديدة للمحطات متعددة الأغراض في موانئ تجارية وصناعية بالمملكة، وذلك بعد إعلان الهيئة العامة للموانئ -بدعم من المركز الوطني للتخصيص- البدء في هذه المرحلة لتسهم في رفع مستوى الخدمة المقدمة للقطاع الخاص والمصدرين والمستوردين، وفقاً لما نشرته صحيفة “الشرق الأوسط” في 12 يناير الجاري. وتهدف العقود الجديدة لـ”موانئ” إلى تقديم العديد من الخدمات ذات العلاقة بالحاويات والبضائع العامة، كما تسهم في رفع مستوى الخدمة المقدمة للقطاع الخاص والمصدرين والمستوردين، وكذلك في تعزيز مكانة المملكة باعتبارها مركزاً لوجيستياً عالمياً تحقيقاً لأهداف “رؤية المملكة 2030”.

وتستهدف الاستراتيجية الجديدة لموانئ التي تتطلع الهيئة لتحقيقها بحلول عام 2030، زيادة الطاقة الاستيعابية في الموانئ إلى أكثر من 40 مليون حاوية قياسية سنوياً، ورفع نسبة إشغال الموانئ إلى 70% من طاقتها الاستيعابية الإجمالية. كما تستهدف الاستراتيجية المساهمة في تحسين التصنيف الدولي للمملكة في مؤشر الأونكتاد لخطوط النقل البحري، ورفعه إلى المرتبة 80 على مستوى دول المؤشر، والسعى إلى تحقيق تقدم في ترتيب المملكة ضمن مؤشر أداء الخدمات اللوجستية من المرتبة 49 إلى المرتبة 10 عالمياً وضمان ريادتها إقليمياً. بالإضافة إلى تحسين تصنيف المملكة في مؤشر التجارة العابرة للحدود، ورفعها إلى المرتبة 35 على مستوى العالم بحلول 2030.

عسكرة الموانئ

2- استمرار استقبال ميناء الحديدة الأسلحة الإيرانية: لا تزال جماعة الحوثي تمثل خطراً داهماً على اليمن ودول جواره، وتمارس الابتزاز مع القوى الدولية لتحقيق مكاسب سياسية، وهو ما أكده الهجوم الإرهابي الذي تبنته تلك الجماعة على منشآت مدنية في أبو ظبي في 17 يناير الجاري، وقبلها الهجوم على سفينة “روابي”. وفي هذا السياق، أكد قائد القوات المشتركة الفريق أول الركن مطلق بن سالم الأزيمع، خلال اجتماعه بالقيادات الميدانية وقوات التحالف العربي في 15 يناير الجاري، أن التحالف لا يزال يؤكد أن ميناء الحديدة في ظاهره يستقبل المواد والبضائع الإنسانية والمدنية، ولكن حقيقته استقبال الأسلحة وآلة التدمير الإيرانية من صواريخ وطائرات انتحارية، وأنه مُنطَلَق الزوارق المفخخة، وكذلك للقرصنة، مشيراً إلى استمرار جهود قيادة القوات المشتركة وحلفائها بدعم الجيش الوطني ودعم وإسناد ألوية اليمن السعيد وألوية العمالقة لإعادة الشرعية اليمنية.

وقد رحب التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن بتحرك الأمم المتحدة لتفتيش ميناء الحديدة لضمان عدم استخدامه عسكرياً من قبل مليشيا الحوثي، على نحو ما جاء على لسان المبعوث الأممي إلى اليمن، هانز غروندبرغ، في 12 يناير الجاري، وطالب التحالف الأمم المتحدة بضمان عدم تدفق المقاتلين الأجانب ووصول الأسلحة للحديدة. وكانت بعثة الأمم المتحدة لدعم اتفاقية الحديدة أكدت رفضها عسكرة الموانئ في المدينة اليمنية، مضيفة أنها تلاحظ “بقلق بالغ” ما وصفتها بالادعاءات المتعلقة باستخدام موانئ الحديدة لأغراض عسكرية. وشددت بعثة الأمم المتحدة على أن الموانئ تعتبر شريان الحياة لملايين المواطنين اليمنيين، وناشدت الأطراف المعنية “حل هذه القضية، مع الالتزام بضبط النفس، وأن تُعطَى الأولوية القصوى للحفاظ على الطابع المدني للبنية التحتية والمنشآت العامة، وضمان حماية الموانئ بما يصبّ في مصلحة الشعب اليمني”.

وفي سياق موازٍ، أعلن التحالف العربي أكثر من مرة أنه “سيتحرك عملياتياً للدفاع عن النفس والضرورة العسكرية عند استمرار عسكرة الموانئ”. ويُعد هذا التحرك من قوات التحالف العربي وبعثة الأمم المتحدة طبيعياً للتصدي للتهديد الذي تمثله المليشيا الحوثية على حركة الملاحة البحرية واستقرار دول جوار اليمن. ولم يقتصر التهديد القادم إلى ميناء الحديدة، بل يشمل ميناء الصليف، بعد قيام المليشيا بتجربة الزوارق المفخخة بالقرب من الميناء، كما أن أدلة التحالف هذه أتت بعد أن سطت المليشيا الحوثية منذ أيام قليلة على إحدى سفن الشحن الإماراتية التي كانت تحمل معدات طبية وتجهيزات ومساعدات إلى جزيرة سقطرى.

كما حذر تقرير سري صادر عن الأمم المتحدة، في الثلث الأول من يناير الجاري، من تهريب إيران الأسلحة للحوثيين تحت غطاء مدني، وأغلبها صناعة روسية أو صينية، تنطلق من ميناء جاسك الإيراني على بحر عُمان، وهو ما اعترضه الأسطول الأمريكي والبحرية السعودية في فترات سابقة في عامي 2020 و2021.

تنمية اليمن

3- وصول المشتقات النفطية السعودية إلى ميناء نشطون باليمن: وفقاً لما أشارت إليه وكالة الأنباء اليمنية “سبأ”، في 12 يناير الجاري، وصلت إلى ميناء نشطون بمحافظة المهرة اليمنية الدفعة السادسة من منحة المشتقات النفطية السعودية عبر البرنامج السعودي لتنمية وإعمار اليمن لتشغيل محطات توليد الكهرباء في المحافظة، وبلغت الكمية الواصلة إلى الميناء أربعة آلاف طن متري من مادة الديزل، كما قامت الفرق الفنية بمنشآت نشطون النفطية بفحص مادة الديزل، والتأكد من مطابقتها للمواصفات المعتمدة، والبدء بضخها إلى الخزانات المخصصة، وتم توزيعها لمحطات توليد الكهرباء في عموم مديريات المحافظة.

وتجدر الإشارة إلى أنه قد وصلت خلال الفترة الماضية عدة دفعات من منحة المشتقات النفطية إلى محافظات عدن وحضرموت والمهرة، والتي ساهمت في تخفيف العبء على السلطات اليمنية بالمحافظات المحررة من مليشيا الحوثي، وتحسين خدمات القطاعات الحيوية والمعيشية للمواطن. ولعل ذلك يكشف الفجوة بين الدور الذي تقوم به كل من السعودية والإمارات في إغاثة الشعب اليمني وتنميته وبين دور مليشيا الحوثي وإيران في استمرار استنزاف قدرات الشعب عبر طاحونة العنف والإرهاب المستمرة على مدى يقارب سبع سنوات.

هيمنة موسكو

4- بوادر سيطرة روسية على ميناء اللاذقية: تشير بعض الكتابات إلى أن موسكو وظَّفت الغارات الإسرائيلية التي تعرض لها ميناء اللاذقية من قبل إسرائيل لتعزيز إدارتها وسيطرتها على الميناء، على نحو يعكسه مؤشر محدد وهو تسيير الشرطة العسكرية الروسية دورية مشتركة مع قوات الجيش النظامي السوري في الميناء، حيث يتم تفقد بعض الساحات والمخازن، والاطلاع على عمل الميناء. وما يُعزز صحة هذا التحليل الصمت الروسي إزاء الغارات الإسرائيلية التي استهدفت ساحة الحاويات داخل الميناء في ديسمبر الفائت، حيث تحاول إخراج إيران والقوات التابعة لها، وتعزيز سيطرتها على الميناء تحت دعاوى تجنيبه الغارات الجوية الإسرائيلية المتكررة.

ويأتي ذلك بعد عامين من سيطرتها على ميناء طرطوس، ويبعد الميناء نحو 19 كم عن قاعدة حميميم الروسية التي تقع جنوب شرق مدينة اللاذقية. ويمثل ذلك حالة كاشفة لتنامي التنافس بين الحلفاء “روسيا وإيران” داخل الساحة السورية، إذ تداولت وسائل إعلام سورية معلومات بشأن مسعى طهران لإدارة ميناء اللاذقية، حيث حصلت على موافقة دمشق بحيث اجتمع السفير الإيراني في سوريا مهدي سبحاني، مع محافظ اللاذقية عامر إسماعيل هلال، لبحث إمكانية الاستفادة من المقومات الاقتصادية لموقع الميناء، وإنشاء معامل للنفايات الصلبة ومنشآت صناعية للعصائر والفواكه المجففة في الساحل السوري، واستخدام ميناء اللاذقية في عمليات الاستيراد والتصدير.

الشام الجديد

5- إقرار اتفاقية مد أنبوب نقل النفط من البصرة إلى ميناء العقبة: وهو ما تم التأكيد عليه خلال الاتصال الهاتفي بين وزير الطاقة والثروة المعدنية الأردني صالح الخرابشة ونظيره العراقي إحسان عبدالجبار، في 11 يناير الجاري، ويأتي المشروع في إطار توسيع آفاق التعاون الثنائي، وبما يخدم المصالح المشتركة للبلدين من خلال فتح منفذ جديد لصادرات النفط العراقي يمنح الأردن بموجبه حق شراء 150 ألف برميل نفط يومياً لتكريرها في مصفاة البترول في مدينة الزرقاء. وتقدر تكلفة المشروع بما يتراوح بين 7 إلى 9 مليارات دولار، حسب تقديرات الجانب العراقي. وتجدر الإشارة إلى أن هذا الاتفاق يُعد ترجمة لما تم التوافق عليه خلال الأعوام (2019-2021) بين الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي والعاهل الأردني الملك عبدالله بن الحسين ورئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي.

وسبق أن وقّعت مجموعة موانئ أبوظبي، في 19 ديسمبر الفائت، عدداً من الاتفاقيات الاستراتيجية ومذكرة تفاهم مع شركة تطوير العقبة، للمساهمة في تطوير قطاعات السياحة والنقل والبنى التحتية للخدمات اللوجستية والرقمية في مدينة العقبة الأردنية، وتتعلق الشراكات الاستراتيجية الخمس بتطوير منطقة مرسى زايد ومحطة السفن السياحية، ونظام رقمي متقدم لمنظومة الموانئ وتطوير وتحديث ميناء متعدد الأغراض، وتحديث وتطوير مطار الملك حسين الدولي في مدينة العقبة.

أزمة – فرصة

هذه مجرد أمثلة لحالات موانئ مؤثرة في السياق الإقليمي، مع الأخذ في الاعتبار وجود حالات كاشفة أخرى مثل إغلاق ميناء بورتسودان وما نتج عنه من تأثيرات حادة في الربع الأخير من عام 2021. وكذلك الحال مع إيقاف التصدير في ميناءي سدرة والهروج بليبيا. والخلاصة أن القضايا التي ترتبط بالموانئ البحرية صارت أحد المحددات المرتبطة بتعزيز قوة واستقرار دول الإقليم أو إضعاف مناعتها في الوقت نفسه، لأنها قد تكون أزمة أو فرصة، على نحو ما كشفته تفاعلات الأسابيع الأربعة الأولى من عام 2022، والتي تعد تراكماً لما جرى في أعوام سابقة.