نماذج متباينة:
كيف تعكس أوضاع القضاء التفاعلات الداخلية بالإقليم؟

نماذج متباينة:

كيف تعكس أوضاع القضاء التفاعلات الداخلية بالإقليم؟



تمثل أوضاع القضاء مرآة عاكسة لما تشهده دول الشرق الأوسط من تفاعلات داخلية، خلال الثلث الأول من عام 2022، وهو ما يظهر جلياً في حالات استمرار الارتقاء بأوضاع المرأة المصرية بجلوسها على منصة القضاء الإداري، ومحاولة عدد من قيادات حزب المؤتمر الوطني العودة إلى المشهد السوداني بعد إصدار القضاء حكماً بالإفراج عن بعضهم، وتعزيز قبضة الرئيس قيس سعيّد على السلطة بعد حلّ المجلس الأعلى للقضاء، وإصدار القضاء العراقي أمراً بتسليم كامل إنتاج نفط إقليم كردستان لبغداد، وتضييق الخناق على نواب المعارضة الأكراد المناهضين لنظام أردوغان ولا سيما مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية عام 2023، وتهديد موظفي السلطة القضائية بإيران بالملاحقات نتيجة تظاهراتهم الداعية لتحسين الأحوال المعيشية.

لم يكن القضاء بعيداً عن التفاعلات التي تشهدها دول الإقليم، بأشكال مختلفة، بل كان طرفاً عاكساً أو مُشكِّلاً لتلك التفاعلات، سواء ارتبط ذلك بصعود فئات مجتمعية، أو عودة رموز نظم سياسية سابقة، أو صدام مع تصورات قيادات جديدة، أو التعرض للتوظيف السياسي بما يخدم مصالح حزبية، وهو ما كان ملمحاً رئيسياً للشهور الأربعة الأولى من عام 2022، على النحو التالي:

صعود نسائي

1- استمرار الارتقاء بأوضاع المرأة المصرية بجلوسها على منصة القضاء الإداري: لأول مرة في تاريخ مصر، جلست القاضية رضوى حلمي أحمد على منصة مجلس الدولة في 5 مارس الماضي، وهو ما يأتي تنفيذاً لقرار أصدره الرئيس عبدالفتاح السيسي في أكتوبر 2021 بتعيين 98 قاضية في مجلس الدولة، مع الأخذ في الاعتبار أن المرأة المصرية لا تزال غائبة عن منصتي القضاء المدني والجنائي في الوقت الذي تُكافح فيه لعقود لتحسين أوضاعها وشغل مواقع كانت حكراً على الرجال. وفي هذا السياق، قالت د. مايا مرسي رئيسة المجلس القومي للمرأة، إن “يوم الخامس من مارس أصبح يوماً تاريخياً جديداً في حياة المرأة المصرية”.

عودة المؤتمر

2– محاولة بعض قيادات حزب المؤتمر الوطني العودة إلى المشهد السوداني: وذلك بعد إصدار القضاء حكماً،في 7 أبريل الجاري، بالإفراج عن رئيس حزب المؤتمر الوطني المنحل إبراهيم غندور و12 آخرين من قيادات الحزب بعد تبرئتهم من الاتهامات الموجهة إليهم بتقويض النظام الدستوري وتمويل الإرهاب ومحاولة اغتيال رئيس الوزراء المستقيل عبدالله حمدوك، وأصدر الحزب بياناً أيد فيه القرار الصادر، ووصف القضاء بالنزاهة والعدالة، فيما اعتبرته قوى الحرية والتغيير والقوى الثورية تسييساً للقضاء وانتصاراً للثورة المضادة، وقطعاً للطريق أمام استكمال تحقق أهداف الثورة الشعبية، وجاء القرار في سياق استمرار المظاهرات الشعبية المطالبة بتسليم السلطة للمدنيين، وتفاقم الأوضاع الاقتصادية، إلى جانب تزايد حدة الانقسامات السياسية بين مؤيد ومعارض للحكم العسكري. وترجح بعض الاتجاهات أن يسهم هذا القرار في تهيئة الأجواء الداخلية لعودة رموز النظام السابق للسلطة مرة أخرى، واتجاه حزب المؤتمر الوطني المنحل لتوظيف هذا القرار لإعادة ترتيب صفوفه، وتمكينه من الانخراط والاندماج التدريجي للمشاركة في الحياة السياسية خلال الفترة المقبلة.

مشروع قيس

3- تعزيز قبضة الرئيس سعيّد على السلطة بعد حل المجلس الأعلى للقضاء: أصدر الرئيس التونسي قيس سعيّد مرسوماً، في 12 فبراير الماضي، يقضي بحل المجلس الأعلى للقضاء وإنشاء مجلس آخر مؤقت، وهو ما يأتي في سياق توتر العلاقة بين الطرفين منذ إعلان المجلس الأعلى للقضاء عدم انخراطه في تفاعلات الأزمة السياسية، على نحو دفع الرئيس للاجتماع بعدد من القضاة والبدء في توجيههم في مجموعة من القضايا من أبرزها الانتهاكات التي شهدتها الانتخابات البرلمانية والرئاسية في عام 2019، وتورط بعض المرشحين والأحزاب في الحصول على تمويلات أجنبية؛ إلا أن توجيهات الرئيس اعتبرها المجلس الأعلى للقضاء تدخلاً في طبيعة عمله. وفي الوقت نفسه، أعلن الرئيس سعيّد في تصريحات مختلفة أن “القضاء العادل من أولى حقوق التونسيين”، وأنه “لا ينوي التدخل في شئون القضاء”.

وتجدر الإشارة إلى أن هناك مجموعة من العوامل المفسرة لتوتر تلك العلاقة بين الرئيس والقضاة في تونس، أولها: إلغاء المنح المالية للقضاة، حيث اندلعت الخلافات بين الرئيس سعيّد وأعضاء المجلس الأعلى للقضاء (45 عضواً) عندما أصدر الأول قراراً، في 19 يناير الماضي، بإلغاء المزايا والمنح المالية الممنوحة لأعضاء ذلك المجلس، وهو الإجراء الذي أثار غضب القضاة الذين وصفوا ذلك القرار بانتهاك الرئيس لاستقلالية القضاء، ورفضهم حملات التشويه التي يقودها الرئيس وأنصاره ضد القضاة.

وثانيها: تطهير القضاء من العناصر الفاسدة، حيث يمثل قرار الرئيس سعيّد بحل المجلس الأعلى للقضاء واستحداث مجلس أعلى مؤقت للقضاء استجابة لدعوات القوى السياسية والمجتمعية المؤيدة للرئيس، والتي تظاهرت في 7 فبراير الماضي مطالبة إياه بتطهير القضاء وحل المجلس الأعلى للقضاء، ولا سيما بعد تأخير البت في الكثير من القضايا المتعلقة بالفساد المالي والإداري والسياسي المنظورة أمام الهيئات القضائية في البلاد، واتهام بعض القضاة خلال الفترة الأخيرة بإطلاق سراح بعض المتهمين في قضايا فساد بعد انتهاء التحقيقات معهم، وذلك بعد أن بذلت السلطات الأمنية جهوداً كبيرة لإلقاء القبض عليهم وتقديمهم للمحاكمات.

وثالثها: انتقاد الرئيس لما أسماه “دولة القضاء”، إذ جاء قرار استحداث مجلس مؤقت للقضاء بدلاً من المجلس السابق؛ نظراً لأنه رفض تصاعد سلطات وصلاحيات ونفوذ أعضاء المجلس الأعلى للقضاء، وهو ما أكد عليه الرئيس سعيّد بقوله إن القضاء هو مجرد وظيفة وليس سلطة مستقلة عن الدولة، وإن السلطة والسيادة للشعب وليس لأحد آخر.

ورابعها: اختراق حركة “النهضة” لعناصر قضائية، وهو ما عكسه مؤشر رئيسي يتعلق باتهام الرئيس للقضاة بالتواطؤ مع الحركة لعدم إصدار حكم قضائي نهائي في قضية اغتيال الناشط اليساري شكري بلعيد الذي تم اغتياله عام 2013، ومنذ ذلك الحين لم يصدر قرار في هذه القضية، ويرجع ذلك إلى تواطؤ نائب رئيس الحركة المعتقل نور الدين البحيري الذي استغل منصبه كوزير للعدل في عام 2013 في تعيين العديد من القضاة الموالين للحركة، الأمر الذي أثار غضب الرئيس ودفعه نحو الإصرار على اتخاذ مواقف أكثر تشدداً مع السلطة القضائية.

مورد النفط

4- إصدار القضاء العراقي أمراً بتسليم كامل إنتاج نفط كردستان لبغداد: أعلنت المحكمة الاتحادية العليا في العراق، في 15 فبراير الماضي، أنها أصدرت أمراً لحكومة إقليم كردستان بتسليم كامل النفط المنتج على أراضيها للحكومة المركزية في بغداد. غير أن هناك إشكالية تعوق تنفيذ هذا القانون تتمثل في الخلاف المستدام لسنوات حول موارد النفط بين الحكومة الاتحادية وإقليم كردستان. فقد جاء في قرار المحكمة “إلزام حكومة الإقليم بتسليم كامل إنتاج النفط من الحقول النفطية في إقليم كردستان إلى الحكومة الاتحادية المتمثلة في وزارة النفط الاتحادية”. كما تضمن الحكم “إلزام حكومة إقليم كردستان بتمكين وزارة النفط العراقية وديوان الرقابة المالية الاتحادية من مراجعة كافة العقود النفطية المبرمة مع حكومة إقليم كردستان بخصوص تصدير النفط والغاز وبيعه”. ومن ثم، يمكن القول إن القضاء العراقي في هذا الإطار يحاول حل إشكالية مزمنة تخص الاتحادي والمحلي.

إرضاء أردوغان

5- تضييق الخناق على نواب المعارضة الأكراد المناهضين لأردوغان: قدم الائتلاف الحاكم في تركيا، المكون من حزب “العدالة والتنمية” و”الحركة القومية”، في 4 أبريل الجاري، عدة ملفات لإسقاط الحصانة النيابية عن 18 من نواب حزب “الشعوب الديمقراطي”؛ إذ تم توجيه تهمة وجود صلاتٍ بين نواب الحزب وبين حزب “العمال الكردستاني” المحظور لدى تركيا إلى هؤلاء النواب بما في ذلك رئيسة الكتلة النيابية للحزب ميرال دانيش بيشطاش والمتحدّثة المشاركة باسم الحزب أبرو غوناي و12 نائباً آخرين ينحدرون من مختلف المدن ذات الغالبية الكردية في تركيا مثل ديار بكر وشانلي أورفا وماردين وتونجلي، وهو ما يمهد الطريق أمام سجنهم في مرحلة لاحقة. وتجدر الإشارة إلى أن إرسال تلك الملفات إلى البرلمان التركي يتزامن مع اقتراب القضاء المحلي من البت بشأن دعوى مرفوعة بحق الحزب المؤيد للأكراد بهدف إغلاقه، وحظره من ممارسة أنشطته على الأراضي التركية، ومنعه من المشاركة في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المزمع عقدها في عام 2023.

ولعل ذلك يثير التساؤلات بشأن تسييس دور القضاء التركي، وخاصة في الملفات التي تخص رموز المعارضة المناوئة لنظام أردوغان، وكان من أبرز الحالات المعبرة عن ذلك أيضاً إصدار إحدى محاكم إسطنبول، في 21 مارس الماضي، حكماً بتمديد حبس رجل الأعمال عثمان كافالا الذي سجن منذ عام 2017، رغم تهديد مجلس أوروبا، في 23 فبراير الماضي، باللجوء لمزيدٍ من الإجراءات “التأديبية” بحق أنقرة إذا لم تقم بإطلاق سراح كافالا الذي يحظى بمكانة مرموقة في أوساط المجتمع المدني في تركيا، فضلاً عن علاقاته الدولية الواسعة، على نحو يفسر دعوة المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان للإفراج عنه في عام 2019. إلى جانب حضور دبلوماسيين مرموقين من دول غربية، مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، محاكمته.

الحراك القضائي

6تهديد موظفي السلطة القضائية بإيران بالملاحقات نتيجة تظاهراتهم: شهدت غالبية المدن الإيرانية في الثلث الأول من يناير الماضي، تظاهرات للقضاة من أجل زيادة رواتبهم، بعد رفض الحكومة ذلك، حيث حمل القضاة لافتات كُتب عليها “المسئولون عن العدالة لا يمكنهم إعالة أنفسهم”، و”الحكومة تخون.. والبرلمان يدعم”. وهنا تجدر الإشارة إلى اقتراح الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، زيادة رواتب موظفي القضاء مع قرب انتهاء توليه رئاسة السلطة القضائية، لكن أعضاء البرلمان الإيراني رفضوا مشروع قانون بزيادة رواتب العاملين في القضاء، في 5 يناير الماضي. ويرى النواب المعارضون للخطة أن زيادة رواتب الموظفين الإداريين في القضاء غير مدرجة في الميزانية، وأن مجلس صيانة الدستور سيرفض هذا المشروع. في هذا السياق، هدد المدعي العام الإيراني محمد جعفر منتظري بأن يلاحق جنائياً موظفي السلك القضائي.

ارتدادات مباشرة

خلاصة القول، إن هناك نماذج متباينة لما يعكسه وضع القضاء من تفاعلات تجري داخل دول مثل مصر والسودان وتونس والعراق وإيران وتركيا، ومنها عودة الجدل بشأن دور الثورة المضادة بالسودان بعد تبرئة بعض قيادات حزب المؤتمر الوطني، علاوةً على ارتكاز مشروع الرئيس التونسي قيس سعيّد على تطهير البلاد من القضاة الذين لديهم ميول سياسية وأجندات حزبية تعوقهم عن أداء مهامهم، ومحاولة حلحلة الخلاف النفطي بين إقليم كردستان والحكومة المركزية ببغداد، وتوظيف حكومة “العدالة والتنمية” للقضاء لتصفية الحسابات مع الخصوم في الداخل، ومطالبة الحراك القضائي في إيران بتحسين الرواتب ومواجهة أعباء المعيشة.