مسارات متزامنة:
كيف تعززت جهود دعم الاستقرار في الشرق الأوسط؟

مسارات متزامنة:

كيف تعززت جهود دعم الاستقرار في الشرق الأوسط؟



صار الاستقرار الشاغل الرئيسي لنخب الحكم في دول الإقليم، خلال تفاعلات عام 2021، في ظل تحديات ضاغطة على أمن الدول واستقرار المجتمعات بعد تصاعد الخلاف بين شركاء الحكم سواء مدنيين وعسكريين أو قوى مدنية ودينية،وتزايد سطوة الفواعل العنيفة مثل المليشيات المسلحة وقدرتها على عرقلة الانتقال السياسي في ليبيا وتصديرها عدم الاستقرار إلى دول جوار اليمن، وتنامي تدخلات الأطراف الإقليمية في الشئون الداخلية للدول العربية المأزومة، والانسحاب الأمريكي المتدرج من بعض دول الإقليم بعد سحب القوات من أفغانستان والعراق مما يوفر إغراءات لأطراف أخرى بملء الفراغ.

ولعل ذلك استلزم اتخاذ مجموعة من الإجراءات لمنع تزايد حالات عدم الاستقرار بالإقليم ومنها إدراك أوَّلى لنخب الحكم بضرورة تشاركية السلطة، ودعم دول عربية لأمن واستقرار دول عربية أخرى عبر توفير مستلزمات الصحة وإمدادات الطاقة وتأييد حقوق المياه، وتعزيز مساحات التنسيق بين الدول العربية المركزية مثل مصر ودول مجلس التعاون الخليجي وتقوية الشراكة الاستراتيجية بين الدول الخليجية، وخفض التصعيد بين القوى الإقليمية الرئيسية وخاصة الإمارات والسعودية وتركيا وإيران، وتدشين علاقات عربية متوازنة مع قوى دولية مختلفة، وتزايد الضغوط الدولية لتجاوز أزمة شركاء الحكم على نحو ما هو قائم في السودان وتونس.

وقد تعددت الجهود التي تبذلها دول عربية، سواء بمفردها أو بالتعاون مع دول عربية أخرى أو قوى إقليمية ودولية، لتعزيز الاستقرار في الشرق الأوسط، نظراً لارتباط الاستقرار المحلي بالاستقرار الإقليمي والدولي، وهو ما يتفق مع نظرية “البيوت الخشبية” التي تشير إلى أن اندلاع حريق في منطقة ما يمتد تأثيره إلى بقية المناطق المجاورة، على نحو ما كشفته تفاعلات الربع الأخير من عام 2021، وذلك على النحو التالي:

شراكة الحكم

1- إدراك أوَّلى لنخبة الحكم بضرورة تشاركية السلطة: لا يمكن أن يتحقق الاستقرار في الإقليم إلا بشراكة القوى الوطنية المعنية بدفع الانتقال السياسي قدماً إلى الأمام، وهو ما ينطبق جلياً على العلاقة بين المكونين المدني والعسكري في السودان. وفي هذا السياق، قال رئيس مجلس السيادة الفريق عبدالفتاح البرهان، في 15 ديسمبر الجاري، أن “الاتفاق السياسي مع رئيس الوزراء عبدالله حمدوك هو المخرج الآمن لاستكمال مراحل الانتقال”، مضيفاً أن “العمل جارٍ على ميثاق يشمل كل القوى السياسية، عدا حزب المؤتمر الوطني المنحل”، وشدد على أنه “لا تراجع عن إجراءات 25 أكتوبر التي اتخذها الجيش السوداني”.

تآزر عربي

2- دعم دول عربية لأمن واستقرار دول عربية أخرى: تتمثل إحدى الآليات التي تتبعها بعض الدول العربية للحفاظ على الاستقرار الإقليمي في دعم دول عربية أخرى، سواء عبر توفير المستلزمات الصحية التي تحتاجها في سياق احتواء تداعيات كوفيد-19، على نحو ما قامت به دول عربية وخاصة الإمارات والسعودية ومصر تجاه تونس والسودان وسوريا والعراق، أو توفير إمدادات الغاز، مثل دعم مصر للبنان بالغاز، حيث كانت إشارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي واضحة في هذا السياق خلال زيارة رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي للقاهرة، في 9 ديسمبر الجاري، إذ وجّه الوزارات المعنية في مصر بالاهتمام بتلبية كل مطالب لبنان وفق الإمكانيات المتاحة لعبور لبنان هذه المرحلة الدقيقة، وأجريت مباحثات حول الخطوات الفنية التي يمكن من خلالها الاستجابة لهذا المطلب بأسرع وقت.

وقد توصلت لبنان إلى اتفاق مع مصر، في 8 سبتمبر الماضي، لاستيراد الغاز الطبيعي منها، من خلال خط يمر عبر الأردن وسوريا، إذ أن هناك توقعات بأن تتمكن مصر من بدء تصدير 65 مليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي إلى لبنان بحلول بداية عام 2022، وهو ما يعكس طلب لبنان على الدور المصري في دعمها، في ظل استمرار التحديات التي يواجهها الشعب اللبناني على المستويين السياسي والاقتصادي، على نحو ما أكده ميقاتي بأن “مصر تمثل ركيزة لحفظ الاستقرار بها وفي المنطقة العربية ككل”.

توافقات عربية

3- تعزيز مساحات التنسيق بين الدول العربية المركزية: ولعل ذلك ينطبق على العلاقات المصرية- الخليجية التي شهدت إطاراً مؤسسياً للتشاور في 13 ديسمبر الجاري، حيث أكد اجتماع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي بحضور وزير الخارجية المصري سامح شكري، أهمية التشاور والتنسيق بشأن القضايا الإقليمية والدولية، وترجمة العلاقات الاستراتيجية الوثيقة بين الطرفين في إطار مؤسسي، وكيفية إيجاد حلول سياسية للأزمات والصراعات القائمة بما يدعم الأمن ويعزز الاستقرار في المنطقة. وفي سياق متصل، أشار وزير الخارجية المصري سامح شكري، خلال لقائه بنظيره السعودي الأمير فيصل بن فرحان، في 16 ديسمبر الجاري بالقاهرة، إلى أن الاجتماعات التي جرت مع الوفد السعودي ركزت على تأكيد الرؤية المشتركة والتوافق بشأن التحديات العديدة التي تواجه البلدين والقضايا الملحة الضاغطة على الأمن القومي العربي، إذ تم النقاش بشأن قضايا محاربة الإرهاب والتطورات في ليبيا وسوريا والسودان ولبنان والعراق واليمن والملف النووي الإيراني والمباحثات الجارية في فيينا.

وقد كشفت التصريحات الصادرة عن وزير الخارجية السعودي، خلال المؤتمر الصحفي مع نظيره المصري، أن ثمة تنسيقاً واضحاً تجاه الملفات الإقليمية التي تحظى باهتمام الجانبين، ومنها الملف النووي الإيراني ودور طهران المزعزع للاستقرار عبر دعم المليشيات المسلحة داخل عدد من الدول العربية، وأهمية تسوية الأزمة اليمنية عبر التوصل إلى حل سياسي، وتطورات الانتخابات الليبية، وضرورة عقدها دون تأخير، وخروج القوات الأجنبية والمرتزقة من الأراضي الليبية، ودعم ومساندة المملكة لمصر والسودان فيما يخص ملف سد النهضة لأن “أمنهما المائي جزء من الأمن القومي العربي”. ويعزز من التفاهم المصري- الخليجي التدريب العسكري المشترك بهدف تثبيت الأمن والاستقرار في الإقليم ككل.

وكذلك الحال بالنسبة لتوثيق العلاقات بين دول مجلس التعاون الخليجي ذاتها، وهو ما جسدته جولة ولى العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، في الثُلث الأول من ديسمبر الجاري، والتي تزامنت مع تحولات استراتيجية تشهدها منطقة الشرق الأوسط على خلفية الانسحاب الأمريكي من المنطقة، فضلاً عن مؤشرات حلحلة العلاقات بين إيران ودول رئيسية في المنطقة، على غرار السعودية والإمارات، ومحاولة فتح صفحة جديدة في العلاقات بينها.

بالإضافة إلى الحاجة لصياغة موقف خليجي موحد تجاه الأزمات والتهديدات الإقليمية بما في ذلك الملف اليمني الذي بات يمثل ملفاً إشكالياً في ظل التهديدات الحوثية المستمرة، وهو ما مهَّد الأجواء لانعقاد القمة الخليجية بالرياض في 14 ديسمبر الجاري، التي عززت التوافقات الخليجية البينية. وقد عبّر عن هذا التوافق الخليجي الأمين العام لمجلس التعاون نايف الحجرف قائلاً في البيان الختامي للقمة أن “قادة المجلس اتفقوا على أهمية تضافر الجهود لتنسيق وتكامل السياسات الخارجية للدول الأعضاء وصولاً لبلورة سياسة خارجية موحدة وفعَّالة تخدم تطلعات وطموحات شعوب دول الخليج وتحفظ مصالحها”.

تصفير المشكلات

4- خفض التصعيد بين القوى الإقليمية الرئيسية: برزت تحركات دبلوماسية متزامنة لإعادة هندسة العلاقات البينية والتهدئة والبحث عن حلول توافقية بين الإمارات والسعودية وتركيا وإيران وإسرائيل، من خلال حوارات متعددة المستويات وزيارات رسمية تهدف إلى تجاوز فجوة الثقة والتحول إلى طابع تعاوني في مجالات مختلفة. وفي هذا الإطار، زار ولى عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان تركيا والتقى بالرئيس رجب طيب أردوغان، في 24 نوفمبر الفائت، وقام الشيخ طحنون بن زايد آل نهيان مستشار الأمن الوطني الإماراتي بزيارة إيران، في 6 ديسمبر الجاري، حيث التقى الرئيس إبراهيم رئيسي وأمين المجلس الأعلى للأمن القومي علي شمخاني.

وكذلك المحادثات الاستكشافية التي تجريها السعودية مع إيران، خلال الأشهر الماضية، بشأن حلحلة الأزمة اليمنية نظراً للدعم الإيراني لجماعة الحوثيين فضلاُ عن دعم إيران لوكلائها في بؤر الصراعات المسلحة في العراق وسوريا ولبنان، وكذلك المحادثات بين تركيا ومصر للتوصل إلى حلول بشأن القضايا العالقة التي كانت سبباً في تأزم العلاقات لسنوات. فقد ساد اعتقاد لدى معظم هذه الدول بأن تكلفة السلام أقل من تكلفة الصراع، على خلفية قضايا داخلية أو أزمات إقليمية، وإن كان التوصل إلى تسوية بشأن قضايا الخلاف يستلزم مدى زمني طويلاً نسبياً.

وكذلك الأدوار التي تقوم بها دول عربية، مثل مصر والإمارات، لتعزيز جهود السلام والاستقرار في الإقليم، عبر علاقة كل منهما بإسرائيل. وفي هذا الإطار، تأتي زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت إلى الإمارات في 13 ديسمبر الجاري، والتي تطرقت إلى إبرام اتفاقيات تعاون في مجالات مختلفة ومنها التجارة والأبحاث والتطوير والأمن السيبراني والصحة والتربية والتعليم والطيران وغير ذلك، وتعكس على جانب آخر محاولات دفع عملية السلام مع الفلسطينيين بعد تمسك الجانب الإماراتي بإيقاف الضم كشرط للتوقيع على اتفاق السلام في عام 2020.

وكذلك، استعرض الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، خلال استقباله وزير خارجية إسرائيل يائير لابيد، في 9 ديسمبر الجاري، أوجه التعاون الثنائي والقضية الفلسطينية، وهو ما يعكس الإدراك العربي لضرورة التوصل إلى تسوية بشأن القضية الفلسطينية وارتباطها بالاستقرار الإقليمي. وفي سياق متصل، تدرك إسرائيل محورية الاستقرار في فكر نخبة دول الإقليم، إذ قال يائير لابيد: “إن بلاده ستواصل العمل مع مصر لدفع المصالح المشتركة في الاستقرار الإقليمي”.

شراكات متعددة

5- تدشين علاقات عربية متوازنة مع قوى دولية مختلفة: صار أحد الخيارات الرئيسية للدول العربية هو نسج شبكة من العلاقات المتعددة مع القوى الدولية مثل فرنسا والصين وروسيا، لتنويع خياراتها الاستراتيجية وعدم الرهان على الولايات المتحدة الأمريكية في الحفاظ على الأمن الإقليمي بعد رغبة واشنطن في الانسحاب من الشرق الأوسط بل واتجاهها إلى التركيز على الخطر الصيني والروسي. وتأتي في هذا السياق، الجولة التي قام بها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في ثلاث دول خليجية، في بداية ديسمبر الجاري، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية معها في مجالات مختلفة. وكذلك الحال بالنسبة للشراكات الاقتصادية العربية مع الصين، والتفاهمات السياسية والأمنية مع روسيا في أزمتى سوريا وبدرجة أقل ليبيا.

تأثيرات عالمية

6- تزايد الضغوط الدولية لتجاوز أزمة شركاء الحكم: وهو ما تبرزه حالات مختلفة، سواء في السودان أو ليبيا أو تونس بعد التعثر الانتقالي الذي تعرضت له الدول الثلاث المذكورة. وفي هذا السياق، أقرَّت لجنة الشئون الخارجية في مجلس النواب الأمريكي في جلستها المنعقدة في 9 ديسمبر الجاري، بإجماع كل أعضائها (ديمقراطيين وجمهوريين)، فرض عقوبات على “المسئولين عن زعزعة الاستقرار في السودان”. وطلب مشروع قانون العقوبات من المكون العسكري “التوقف عن كل المحاولات لتغيير التركيبة المدنية للحكومة والمجلس السيادي ومرافق حكومية أخرى، إضافة إلى نقل قيادة المجلس السيادي إلى عضو مدني من المجلس احتراماً للوثيقة الانتقالية”.

وهنا، تجدر الإشارة إلى أن هذا المشروع ليس مُلزِماً لإدارة الرئيس جو بايدن، إذ أن المشروع سينتقل لاحقاً إلى الكونجرس بمجلسيه، فإذا أقر يحال إلى البيت الأبيض، إذ قد يحظى بموافقة الرئيس بايدن، وبالتالي يصبح نافذاً، أو يقابل بالرفض مع التعليل، وإن كان ثمة تطور قد طرأ بعد توقيع الاتفاق السياسي بين رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان ورئيس الحكومة عبد الله حمدوك، أعاد تصويب الأمور في البلاد، ومهَّد الطريق لتشكيل حكومة مدنية جديدة دون أن تظهر ملامحها حتى منتصف ديسمبر الجاري.

عوائق ضاغطة

على الرغم من الجهود المُعزِّزة لدعم الاستقرار الإقليمي، إلا أن هناك أدواراً موازية تخصم من رصيد الاستقرار، ومنها قوة المليشيات المسلحة التي يظهر تأثيرها في احتمال تأجيل الانتخابات الليبية، وغياب الردع الإقليمي والدولي لمليشيات أخرى مثل جماعة الحوثيين في اليمن لاسيما في ظل توظيف إيران لدورها كمصدر تهديد للسعودية، علاوة على الخلاف المزمن بين شركاء الحكم بشأن تصورات إدارة المراحل الانتقالية بالسودان وتونس، فضلاً عن القضايا الضاغطة الأخرى مثل توقيع اتفاقات سلام أخرى وإصلاح الأجهزة الأمنية وإدماج الحركات المسلحة، وإخراج المرتزقة والمجموعات المسلحة الأجنبية من بؤر الصراعات، ومن ثم، سيظل الاستقرار معضلة رئيسية في الشرق الأوسط لأعوام مقبلة.