مواجهة مباشرة:
كيف تعاملت تركيا مع ملف اغتيال قيادات حماس؟

مواجهة مباشرة:

كيف تعاملت تركيا مع ملف اغتيال قيادات حماس؟



توترت العلاقة مجدداً بين أنقرة وتل أبيب على خلفية إدانة الأولى مقتل القيادي في حركة حماس صالح العاروري، وتوقيف شبكة تجسس تعمل لصالح الموساد في الداخل التركي، بالإضافة إلى تحذير تركيا من مخاطر قيام إسرائيل بأية عمليات تصفية لعناصر حماس المقيمين على أراضيها. وارتبط الموقف التركي حيال هذه التطورات بمجموعة من المحددات، منها التأكيد على قدرة الأجهزة الأمنية التركية، وملاحقة التحركات الاستخباراتية لإسرائيل في الداخل التركي، ناهيك عن التوظيف الانتخابي لهذه المواقف والسياسات، ولا سيما مع قرب إجراء الانتخابات المحلية التركية.

إذ استهدفت إسرائيل، في 2 يناير الجاري، القيادي في حركة حماس صالح العاروري وستة آخرين في الضاحية الجنوبية لبيروت. وحذّر وزير الخارجية التركي، في 3 يناير 2024، من مغبة السلوك الإسرائيلي، وكشف عن أن اغتيال العاروري قد يوفر بيئة مواتية لاندلاع حرب بين إسرائيل ولبنان، وأشار إلى أنها لن تنتهي في حال نشوبها. ويثير اغتيال العاروري قلقاً واسعاً لدى أنقرة التي تحتضن عدداً من قيادات حماس وعائلاتهم، وسبق أن طالبت تل أبيب حكومة أنقرة بتسليم عناصر من حماس يقيمون على أراضيها، أو إبعادهم عن تركيا، كما اتهمت واشنطن في ديسمبر الماضي تركيا بأنها تمثل أحد مراكز جمع التمويلات المالية لحماس. ووصفت وسائل الإعلام التركية عناصر الموساد الذين تم توقيفهم مؤخراً بأنهم تلقوا تعليماتهم من الخارج، وخضعوا لدورات أونلاين من قبل مسؤولي الموساد، وأنهم عملوا على جمع المعلومات عن الفلسطينيين المقيمين في الداخل التركي.

استباق تركي

مع تصاعد التهديدات الإسرائيلية باغتيال قادة حماس، خاصةً المقيمين في الخارج، اتخذت تركيا سلسلة من الإجراءات، يمكن بيانها على النحو التالي:

1- تبنّي خطاب تحذيري متصاعد تجاه إسرائيل: حذّرت الاستخبارات التركية، في 4 ديسمبر 2023، إسرائيل من عواقب وخيمة إذا ما حاولت ملاحقة قادة حماس المقيمين في تركيا، وتبنت تركيا لهجة متشددة في هذا الملف عشية تصريحات رئيس جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي “الشاباك” رونين بار، الذي قال في تسجيل بثته هيئة البث العامة الإسرائيلية، إن إسرائيل ستلاحق قادة حماس في قطر وتركيا ولبنان، حتى لو استغرق الأمر سنوات، وذلك رداً على عملية “طوفان الأقصى” التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر الماضي. كما شهد الخطاب التركي مزيداً من التشدد حيال تل أبيب بعد اغتيال صالح العاروري.

ولم تقتصر التحذيرات التركية لإسرائيل بشأن عمليات الاغتيال لقادة حماس فحسب، ففي 27 ديسمبر الماضي، اعتبر الرئيس التركي أن نتنياهو لا يختلف عن الزعيم الألماني أدولف هتلر، وهو ما دفع رئيس الحكومة الإسرائيلية للرد، حيث اتهم أردوغان بأنه هو “من يرتكب الإبادة الجماعية للأكراد، ومن يسجن الصحفيين، وهو آخر من يعظنا أخلاقياً”.

2- توقيف جواسيس للموساد: استبقت تركيا عملية اغتيال العاروري، بتوقيف 33 شخصاً، في 2 يناير 2024، بتهمة الضلوع في أنشطة تجسس لصالح جهاز المخابرات الخارجية الإسرائيلي “الموساد”. وجاءت الاعتقالات التي شملت ثماني ولايات تركية في إطار تحقيقات أطلقها مكتب الإرهاب والجرائم المنظمة في النيابة العامة بإسطنبول ضد 46 مشتبهاً فيهم. وكشفت التحقيقات أن جهاز الموساد كان يهدف إلى القيام بنشاطات مثل المراقبة والتتبع والاعتداء والاختطاف ضد مواطنين أجانب مقيمين في تركيا.

كما اتّهمت أنقرة الموقوفين بأنهم ينشرون أخباراً كاذبة ومعلومات مضللة، بالإضافة إلى تنفيذ عمليات سطو وابتزاز لصالح إسرائيل، وهو ما دفع الرئيس رجب طيب أردوغان للتأكيد في تصريحات له عشية عملية التوقيفات الأخيرة، بأن “هناك عملية ماكرة ومحاولات تخريبية ضد تركيا ومصالحها”. ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي تقوم فيها تركيا بتوقيف جواسيس للموساد، ففي يوليو 2023، اعتقلت الاستخبارات التركية سبعة جواسيس بمدينة إسطنبول.

3- نفي الاتهامات الأمريكية بشأن الدعم التركي المالي لحماس: رفضت أنقرة الادعاءات التي سوّقتها الإدارة الأمريكية نهاية نوفمبر 2023 بشأن دعم أنقرة لحركة حماس مالياً، حيث هددت وكيل وزارة الخزانة الأمريكية لشؤون الإرهاب عشية زيارتها لتركيا في نوفمبر الماضي بفرض عقوبات على أفراد وشركات تركية زعمت أنهم يجمعون تبرعات لحماس في الداخل التركي من خلال مانحين ومحافظ استثمارية وجمعيات خيرية ومنظمات غير هادفة للربح. وتجدر الإشارة إلى أن إدارة بايدن فرضت عقوبات على العديد من الكيانات والأفراد الأتراك في إطار جهودها للحد من تمويل حماس عشية عملية “طوفان الأقصى”.

4- ترحيل أنقرة عناصر حماس من الأراضي التركية: على الرغم من تحذيرات أنقرة للموساد الإسرائيلي بعدم تنفيذ عمليات اغتيال ضد عناصر المقاومة الفلسطينية في تركيا، إلا أنها من جانب آخر بحسب العديد من التقارير قامت منذ مطلع العام 2023 بترحيل العشرات من الأشخاص المرتبطين بحركة حماس في دوائر مختلفة من تركيا. وارتبط هذا التوجه بالتحسن الحادث في العلاقة بين البلدين، واستئناف العلاقات الدبلوماسية الكاملة بينهما في أغسطس 2023.

دلالات متعددة

يحمل الموقف التركي المتشدد تجاه عمليات الاغتيال التي تنفذها إسرائيل، والممارسات العنيفة المحتملة تجاه قادة حماس خلال المرحلة المقبلة، عدة دلالات، على النحو التالي:

أولها: تأكيد قدرة الأجهزة الأمنية التركية، ومتانة الأوضاع الأمنية في الداخل التركي، وعدم قدرة تل أبيب على اختراق الساحة التركية، برغم شبكة الجواسيس التي تم بناؤها، وهو ما ظهر في فشل إسرائيل في تنفيذ عمليات تخريب وتصفية داخل تركيا، بالإضافة إلى نجاحات أنقرة في كشف هذه الشبكات والقبض على عناصرها.

ثانيها: أن الخطاب التركي المتشدد تجاه التهديدات الإسرائيلية باغتيال عناصر حماس، لا ينفصل عن مخاوف بتمدد ظاهرة الاختراق التي تتعرض لها تركيا على المستوى الأمني. صحيح أن الاستخبارات التركية نجحت في توقيف عدد كبير من عملاء الموساد، إلا أنها أثارت المخاوف من احتمال وجود شبكات تجسس أخرى غير معلنة أو تعمل بطرق غير تقليدية في الداخل التركي.

ثالثها: يرتبط بسعي تركيا لإضعاف التحركات الإسرائيلية على الساحة التركية، فقد كشفت إدانة أنقرة عملية اغتيال صالح العاروري، وتوقيف شبكة تجسس إسرائيلية، عن رغبة أنقرة في إضعاف القدرات الاستخباراتية الإسرائيلية التابعة لجهاز الموساد، وتفكيك أدوات التجنيد التي تعتمد عليها في الداخل التركي. وتُبدي تركيا اهتماماً كبيراً بملاحقة جواسيس إسرائيل، خاصةً مع تصاعد التوتر بين البلدين عشية عملية “طوفان الأقصى”، ورفض تركيا اعتبار حماس حركة إرهابية، فضلاً عن اتهام الرئيس التركي لإسرائيل بارتكاب عمليات إبادة ضد سكان قطاع غزة، وتهديده بملاحقة جرائم الجيش الإسرائيلي دولياً.

رابعها: أن توظيف اغتيال العاروري وكشف النقاب عن شبكات تجسس إسرائيلية، يرتبط بمحاولة أنقرة تعزيز الضغوط على إسرائيل، ودفعها نحو وقف عملياتها العسكرية على قطاع غزة.

خلف ما سبق، فإنّ الإدانة التركية لعملية اغتيال العاروري، وتوقيف شبكات التجسس الموالية للموساد، يأتي في سياق رغبة حزب العدالة والتنمية في استثمار هذه المواقف والنجاحات في الداخل التركي الذي يقف على أعتاب انتخابات محلية مهمة في مارس 2024، ويراهن الحزب الحاكم على تحشيد القواعد الانتخابية المحافظة والقومية التي تناهض إسرائيل، لاستعادة السيطرة على البلديات الكبرى التي خسرها في العام 2019.

متغير الطاقة

ختاماً، يمكن القول إنّ حدة التصعيد التركي تجاه إسرائيل، يُشير إلى احتمال استمرار التوتر بين البلدين خلال المرحلة المقبلة، وهو ما قد ينعكس على التحسن الحادث قبل عدة شهور بين البلدين. بيد أن هذا لا يعني وصول العلاقة إلى حد القطيعة، إذ إن ثمة مصالح اقتصادية تجمع البلدين، وبخاصة متغير الطاقة الذي يحمل أولوية لتركيا في التوقيت الحالي.