تبنّت تركيا سياسة حذرة تجاه التهديدات التي تشهدها عمليات الملاحة في البحر الأحمر. ففي الوقت الذي لم تندفع فيه نحو الانخراط في مواجهات مباشرة، إلا أنها أدانت التحركات الأمريكية-البريطانية ضد الحوثيين، كما حذرت من تمدد الحرب في الإقليم، بالإضافة إلى إبداء الاستياء من قوة العمل البحرية متعددة الجنسيات “حماية الازدهار” التي شكلتها واشنطن لحماية الملاحة في البحر الأحمر، باعتبار ذلك يمكن أن يؤثر على المصالح التركية في الإقليم. وبرغم الارتدادات العكسية التي حملتها تهديدات البحر الأحمر على تركيا، إلا أنها ربما تنجح في تدوير الخسائر، من خلال تحقيق تقارب مع أوروبا، وكذلك توظيف هذه الأحداث في تكثيف عملياتها العسكرية ضد الأكراد.
تمثل الملاحة في البحر الأحمر أولوية استراتيجية لتركيا باعتبارها من أهم محددات نفاذية أنقرة في الإقليم، حيث لا يمثل البحر الأحمر فقط بوابة عبور للتجارة التركية مع الخارج، بل تبدو أهميته في تعزيز الدور التركي في التفاعلات السياسية بمنطقة الشرق الأوسط والقرن الأفريقي، حيث الوجود العسكري التركي في الصومال، وهو ما كشفت عنه تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 12 يناير الجاري بعد أداء صلاة الجمعة في إسطنبول، حيث استنكر -في تصريحات له- الضربات التي نفذتها الولايات المتحدة وبريطانيا على مواقع الحوثيين في اليمن في 11 يناير الجاري.
مؤشرات عاكسة
اتسم الموقف التركي حيال التطورات التي تشهدها عمليات الملاحة في البحر الأحمر بالترقب الحذر والانخراط المحسوب، ويمكن بيان ذلك على النحو التالي:
1- إدانة الغارات الأمريكية البريطانية على الحوثيين: ندد الرئيس التركي في 12 يناير الجاري بالرد غير المتناسب الذي نفذته واشنطن ولندن على مواقع الحوثيين في اليمن، كما اتهم الغرب بالرغبة في “صنع حمام دم في البحر الأحمر”، وأضاف: “اليمن يقول من خلال الحوثيين وباستخدام كل قوته إنه سيقوم بالرد اللازم في المنطقة على الولايات المتحدة وبريطانيا”. وتابع: “كل هذه التصرفات تشكل استخداماً غير متناسب للقوة”.
بالتوازي، دعا وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، نظيره البريطاني جيمس كليفرلي، إلى تهدئة التوتر في خليج عدن، وخفض التصعيد في الشرق الأوسط الذي يشهد صراعات متعددة. وتزامنت التصريحات التركية مع إعلان شركة مصافي النفط التركية “توبراش”، في 11 يناير 2024، أنها فقدت الاتصال بسفينة “سانت نيكولاس” التي تنقل 140 ألف طن من النفط الخام العراقي. كما أن التصريحات التركية لا تنفصل عن انعكاسات التوترات التي يشهدها البحر الأحمر على حركة التجارة الخارجية لتركيا، والتي تعرضت لهزة عميقة، خاصةً أن البحر الأحمر يمثل شرياناً حيوياً للاقتصاد التركي، حيث يتم نقل جانب معتبر من المنتجات الصناعية التركية إلى أسواق الشرق الأوسط وأفريقيا عبر البحر الأحمر.
2- التحذير من اتّساع رقعة الحرب في الشرق الأوسط: الأرجح أن أنقرة تعي أن تصاعد التهديدات المستمرة باستهداف السفن في البحر الأحمر، وتحشيد واشنطن وحلفائها في مواجهة الحوثيين، يوفر بيئة مواتية لحرب مفتوحة تحمل في طياتها مخاطر على التجارة الدولية وإمدادات النفط وسلاسل التوريد وأسعار الشحن، وهو ما قد يحمل بدوره ارتدادات عكسية على الاقتصاد التركي الذي لا يزال يعاني من تراجع مؤشراته. في هذا السياق، حذّر الرئيس التركي من مخاطر الهجوم الغربي على الحوثيين، باعتبار ذلك قد يدفع نحو تمديد الصراع في الإقليم. ولم يكن هذا التحذير هو الأول من نوعه، ففي 5 ديسمبر الماضي، شدد أردوغان على ضرورة وقف المجازر الإسرائيلية في قطاع غزة، محذراً من إمكانية أن تتحول إلى حرب إقليمية في الشرق الأوسط.
3- الاستياء من التحشيد الدولي في البحر الأحمر: إذ تصاعدت مخاوف تركيا من انعكاسات التهديدات التي يشهدها البحر الأحمر على خطط توسعها في الإقليم، ولا سيما مع اتجاه أنقرة خلال السنوات التي خلت نحو تطوير وجودها العسكري والسياسي بشكل لافت في منطقة القرن الأفريقي والساحل الغربي للبحر الأحمر، في إطار سياسة خارجية تستهدف توسيع مساحات النفوذ، وبدا ذلك في افتتاحها قاعدة عسكرية في الصومال 2017. كما لا تزال أنقرة تطمح إلى الحصول على موطئ قدم في سواكن، وظهر ذلك في قيام السفير التركي لدى الخرطوم إسماعيل جوبان أوغلو في منتصف ديسمبر 2023، بزيارة تفقدية لأعمال الإنشاءات والصيانة التي تنفذها تركيا هناك.
وهنا، يمكن فهم الاستياء والقلق التركي من إعلان واشنطن في 4 ديسمبر 2023 عن تشكيل قوة عمل بحرية متعددة الجنسيات المعروفة بـ”تحالف الأزدهار”، بدعوى حماية الملاحة البحرية في البحر الأحمر. حيث نجحت تركيا طوال الأعوام الماضية في استثمار غياب منظومة أمنية في البحر الأحمر لتطوير حضورها، لذلك فإن تحالف “حارس الأزدهار” ربما يقوض من هذا الحضور، أو على الأقل يربك التحركات التركية في البحر الاحمر.
4- دعم سياسة الضغوط على إسرائيل وحلفائها: على الرغم من حرص أنقرة على تبنّي سياسة حذرة تجاه تطورات أزمة الملاحة في البحر الأحمر، وإدانتها التحركات الأمريكية البريطانية ضد الحوثيين، إلا أنها تحاول الضغط على إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة لوقف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، إذ تعتبر أنقرة أن الممارسات الإسرائيلية في قطاع غزة، والدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل، هي الأسباب الحقيقية وراء تصاعد الصراع في البحر الأحمر، لا سيما وأن الحوثي أكد في تصريحات متعددة أن تحركاته تأتي في سياق الرد على جرائم تل أبيب ضد قطاع غزة، وهو ما تراه أنقرة يوفر فرصة للمليشيات لتكثيف هجماتها على السفن التجارية في البحر الأحمر. ومن هنا، فإن الإدانات التركية للسلوك الأمريكي، والممارسات الإسرائيلية، تأتي في سياق تشديد سياسة الضغوط والتطويق التي تتبعها تجاه إسرائيل وحلفائها منذ تعرض الملاحة البحرية في منطقة البحر الأحمر للارتباك، ومن ثم دفعها نحو مراجعة هذه السياسات.
تدوير الخسائر
على الرغم من انعكاس التهديدات التي تشهدها عمليات الملاحة في البحر الأحمر على مصالح أنقرة، إلا أنها سعت إلى تدوير هذه الارتدادات، وتحويل بعضها إلى مكاسب إضافية، على النحو التالي:
أولها: اتجاه أنقرة إلى توظيف التطورات الأخيرة في البحر الأحمر لتعزيز التقارب مع أوروبا، والضغط لتمرير اتفاقية لتحديث اتفاقية “الاتحاد الجمركي” وزيادة التبادل التجاري الذي وصل إلى نحو 200 مليار دولار بنهاية العام 2023. وتجدر الإشارة إلى أن دول الاتحاد الأوروبي بدأت باستيراد السلع والمنتجات من تركيا عقب تفاقم أزمة النقل البحري في البحر الأحمر، فقد أدى الارتفاع الحاصل في أجور الشحن البحري، والذي وصل لأكثر من 173%، منذ نوفمبر 2023، إلى زيادة الاعتماد الأوروبي في تلبية وارداته من تركيا بالنظر إلى موقعها التجاري القريب من عمق القارة الأوروبية. وكان وزير التجارة التركي عمر بولات قد أكد في تصريحات له، في 8 يناير الجاري، أن أوروبا بدأت تفضل الاستيراد من أنقرة لتقليص الخسائر في الخدمات اللوجستية والإمدادات، وأضاف: “يمكننا بسهولة إيصال البضائع التركية عالية الجودة إلى الأسواق الأوروبية في غضون يومين، بفضل قوتنا اللوجستية وقربنا من دول القارة الأوروبية”.
وثانيها: استغلال أنقرة انشغال القوى الغربية بالتوترات في البحر الأحمر لتوسيع الحرب على الأكراد، وتجلّى ذلك في الضربات التي نفذتها تركيا في 14 يناير الجاري تحت عنوان “إرهابستان” على مواقع تابعة لحزب العمال الكردستاني شمال العراق، وكذلك استهداف قوات سوريا الديمقراطية “قسد” شرق سوريا. ورغم الخسائر التي خلفتها الضربات التركية، وأدت إلى مقتل العشرات من الأكراد، إلا أنه لم يصدر أي بيان من جانب واشنطن الحليف الأقرب لأكراد سوريا أو من القوى الغربية.
وثالثها: تجاوز مأزق السياسات الداخلية، خاصة مع عدم تحقيق نجاحات ملموسة للفريق الاقتصادي الجديد الذي شكّله الرئيس التركي عشية الانتخابات الرئاسية الأخيرة، فلا يزال الاقتصاد التركي يعاني من تراجع مؤشراته. ومع اقتراب الانتخابات المحلية المقرر لها نهاية مارس المقبل، يعول الحزب الحاكم على تهديدات البحر الأحمر لتبرير جانب من الأزمة الاقتصادية، ومحاولة إقناع طبقات انتخابية واسعة بأن بطء تحرك الاقتصاد يرتبط بالتهديدات الخارجية التي يشهدها الإقليم، وتحمل ارتدادات عكسية على تركيا.
الأزمة / الفرصة
ختاماً، يمكن القول إن تركيا على الرغم من المخاطر التي قد تحملها تهديدات البحر الأحمر على تموضعها الاستراتيجي في الإقليم، بالإضافة إلى التأثيرات الاقتصادية؛ إلا أنها تبنت سياسة الانخراط المحسوب في التعامل مع الأزمة، ومحاولة تحويل بعض خسائرها إلى مكاسب محتملة.