ملء الفراغ:
كيف تعاملت إيران مع استقالة أعضاء التيار الصدري من البرلمان العراقي؟

ملء الفراغ:

كيف تعاملت إيران مع استقالة أعضاء التيار الصدري من البرلمان العراقي؟



فرضت الاستقالة التي تقدم بها نواب التيار الصدري إلى رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي، في 12 يونيو الجاري، بعدما طلب منهم زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر اتخاذ تلك الخطوة، والتي تبعها سحب مرشح التيار محمد جعفر الصدر ترشيحه لرئاسة الحكومة؛ تداعيات جديدة على الأزمة السياسية العراقية، التي بدت جلية في الفشل في تشكيل حكومة تعكس الأوزان السياسية التي أسفرت عنها نتائج الانتخابات البرلمانية التي أُجريت في 10 أكتوبر الماضي. وفي الواقع، يمكن القول إن تلك الخطوة حظيت بدعم إيراني، على نحو يبدو جلياً في التناول الإعلامي الإيراني لها، والذي وجه انتقادات قوية للتيار الصدري بسبب مواقفه، سواء من تشكيل الحكومة أو من القوى الموالية لإيران في العراق والتي تنضوي تحت تحالف “الإطار التنسيقي”.

اعتبارات عديدة

يمكن تفسير ترحيب إيران بهذه الخطوة في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:

1- تأكيد فشل سياسة إقصاء الموالين: تعكس هذه الخطوة، في الرؤية الإيرانية، فشل المقاربة التي تبناها مقتدى الصدر من بداية مرحلة ما بعد إجراء الانتخابات البرلمانية في 10 أكتوبر الماضي، والتي كانت تعتمد على تشكيل حكومة أغلبية تُقصي القوى الموالية لها، ولا سيما ائتلاف دولة القانون بزعامة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي الذي تتسم علاقاته بالصدر بالتوتر الدائم. وقد حاولت طهران التدخل مراراً عبر الزيارات المتكررة التي قام بها قائد “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري إسماعيل قاآني إلى العراق، من أجل تسوية الخلافات العالقة بين القوى السياسية العراقية للتوافق على تشكيل حكومة ائتلافية تضم المكونات المختلفة بما فيها قوى “الإطار التنسيقي” الموالية لها، إلا أن جهودها فشلت في هذا السياق نتيجة إصرار الصدر على مواقفه.

2- تشكيل حكومة عراقية بديلة: يمكن أن توفر الخطوة التي أقدم عليها التيار الصدري الفرصة من أجل الوصول إلى توافق بين قوى “الإطار الدستوري” والقوى السنية والكردية الأخرى على تشكيل حكومة جديدة، خاصة أن هذه القوى باتت ترفض خيار حل البرلمان، الذي طرحته بعض الاتجاهات، بعد الخطوة التي اتخذها التيار الصدري، حيث أكدت على أن البرلمان سيقوم باستكمال دورته، وسيتم إحلال النواب المستقلين بالمرشحين المنافسين الذين حصلوا على أعلى نسبة تصويت في الدوائر الانتخابية المختلفة، وبينهم بالطبع مرشحون ينتمون إلى قوى “الإطار التنسيقي”. وهنا، ورغم أن اتجاهات عديدة ترى أن تشكيل الحكومة الجديدة لن يكون مهمة سهلة، في ظل الحاجة للوصول إلى توافقات مع القوى الأخرى، وبعضها كان حليفاً للتيار الصدري في إطار ما يسمى بـ”تحالف إنقاذ وطن”؛ فإن ثمة اتجاهات أخرى ترى أن الفرصة باتت مهيأة أمام تشكيل حكومة تعكس الأوزان النسبية الجديدة التي تبلورت بعد انسحاب الصدريين.

3- تكريس الفيتو الإيراني في بغداد: على غرار ما حدث مع إصدار مجلس النواب العراقي قانون تجريم التطبيع مع إسرائيل، فإن إيران اعتبرت أيضاً أن التطورات الجديدة التي طرأت على المشهد السياسي العراقي توجه رسائل مباشرة إلى القوى الإقليمية والدولية المعنية بما يجري على الساحة العراقية مفادها أنها تمتلك “فيتو” داخل العراق، وأنه لا يمكن صياغة ترتيبات سياسية نوعية داخل العراق إلا بضوء أخضر من جانبها. ومن دون شك، فإن ذلك لا ينفصل عمّا طرحته اتجاهات عديدة من أن هناك مؤشرات تفيد بأن النفوذ الإيراني في العراق يواجه تحديات لا تبدو هينة، على نحو بدا جلياً في الشعارات التي رفعها المحتجون خلال الاحتجاجات التي شهدتها العراق في أول أكتوبر 2019، والتي نددت باتساع نطاق هذا النفوذ، وفي تراجع النتائج التي حققتها القوى الموالية لإيران في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وفي سعي رئيس الوزراء العراقي الحالي مصطفى الكاظمي إلى توسيع هامش الخيارات المتاحة أمامه على مستوى السياسة الخارجية عبر تعزيز العلاقات بين العراق والعديد من الدول العربية، وفي مقدمتها الإمارات والسعودية ومصر والأردن.

4- تعزيز الموقع التفاوضي لطهران في فيينا: من شأن تصاعد حدة الأزمة السياسية في العراق أن يخدم موقع إيران التفاوضي في فيينا، ولا سيما في ظل التعثر الحالي الذي تواجهه تلك المفاوضات التي توقفت منذ 11 مارس الماضي بسبب الخلافات العالقة بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية حول شطب الحرس الثوري من قائمة التنظيمات الإرهابية الأجنبية. وقد زاد من تعقيد الأزمة التصعيد الذي طرأ على العلاقة بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية، بعد القرار الذي أصدرته الأخيرة، في 8 يونيو الجاري، وينتقد عدم تعاون إيران بشكل كافٍ مع مطالب الوكالة الخاصة بالإجابة عن تساؤلات حول وجود آثار لليورانيوم في بعض المنشآت النووية.

هنا، فإن إيران ترى أن تفاقم الأزمة السياسية العراقية يمكن أن يخدم حساباتها مع القوى الدولية، ولا سيما الدول الغربية، من ناحية توجيه رسالة بأن إيران لديها من الأوراق ما يمكن أن تستخدمه لرفع كلفة العقوبات والضغوط الغربية التي تتعرض لها في المرحلة الحالية، ومن بينها تأجيج الأزمات الإقليمية المختلفة، بداية من العراق، مروراً بالتصعيد المحتمل بين إسرائيل وحزب الله اللبناني، ونهاية بعدم تجديد الهدنة في اليمن، على نحو لا يتوافق من دون شك مع حسابات ومصالح تلك القوى.

وبمعنى آخر، فإنّ رد إيران على الضغوط الغربية لن ينحصر فقط في البرنامج النووي، على غرار استخدام أجهزة طرد مركزي من طراز “IR6” لتخصيب اليورانيوم في منشأة ناتانز، وإنما يمتد إلى استخدام رصيدها في الإقليم لتهديد مصالح القوى المناوئة لها، وإرباك حساباتها المعقدة في الأساس بفعل استمرار الحرب الروسية-الأوكرانية.

5- تفكيك التحالف الثلاثي الشيعي-السني-الكردي: قد تؤدي استقالة نواب التيار الصدري إلى تفكيك التحالف الثلاثي “تحالف إنقاذ وطن” الذي كان يضم التيار الصدري والحزب الديمقراطي الكردستاني وتحالف السيادة بزعامة محمد الحلبوسي وخميس الخنجر، وهو ما قد يتوافق مع حسابات طهران التي كانت ترى أن هذا التحالف يضغط من أجل توسيع هامش الخيارات المتاحة أمام الدولة العراقية فيما يتصل بعلاقاتها مع إيران ودول الجوار، ولا سيما بعض دول مجلس التعاون الخليجي، وهي المقاربة نفسها التي كان يتبناها الصدر من الأساس.

مغامرة محتملة

مع ذلك، فإن هذا الترحيب باستقالة نواب التيار الصدري لا ينفي أن اندفاع الموالين لإيران من أجل ملء الفراغ وتشكيل حكومة جديدة، قد يمثل مغامرة لا تبدو هينة. إذ إن الملفات التي سوف تتولى الحكومة الجديدة إدارتها ليست هينة على نحو قد يجدد الأزمة في الشارع مرة أخرى، ويدفع في اتجاه اندلاع احتجاجات جديدة قد تتخللها تحركات أكثر رفضاً للتمدد الإيراني في الداخل. كما أنه لا يمكن استبعاد أن يلجأ الصدر نفسه إلى الشارع، على نحو سوف يتسبب في تعطيل عمل الحكومة، ووضعها في موقف صعب، يمكن أن يؤدي -في النهاية- إلى إضعاف نفوذ القوى المشاركة فيها، والذي تراجع في الأساس في الفترة الماضية على نحو كشفته نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة. ومن هنا، ربما لا يمكن استبعاد أن تتجه إيران وحلفاؤها إلى محاولة إقناع الصدر بإجراء تغيير في موقفه على نحو يمكن أن يساعد في تشكيل حكومة جديدة وفقاً للشروط التي سبق أن تبنتها القوى الموالية لإيران في المرحلة الماضية.