نماذج كاشفة:
كيف تصاعد تسييس الفتاوى الدينية في الشرق الأوسط؟

نماذج كاشفة:

كيف تصاعد تسييس الفتاوى الدينية في الشرق الأوسط؟



تزايد تسييس الفتاوى الدينية في الإقليم، خلال الفترة الماضية، وهو ما اتضح في مواقف مختلفة وتفاعلات متعددة، ومنها إطلاق مجلس البحوث والدراسات الشرعية بدار الإفتاء الليبية دعوة للتظاهر لإسقاط مجلس النواب الليبي بعد سحب الأخير الثقة من حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبدالحميد الدبيبة، وتعزيز شفافية ومنع تزوير العملية الانتخابية المقبلة في العراق في أكتوبر 2021 لإفراز ممثلين حقيقيين عن المجتمع، وتنقية الخطابات الدينية من الأفكار المغلوطة ودعم التوجه نحو الرقمنة لمنع أى نوافذ إعلامية تتجه إليها الجماعات المتطرفة، ودعم هيمنة تيارات سياسية محددة على التفاعلات التونسية الداخلية وهو ما ورد في بيانات “اتحاد علماء المسلمين” لدعم حركة “النهضة” بعد القرارات التي اتخذها الرئيس قيس سعيّد في 25 يوليو الماضي.

يضاف إلى ذلك، إبعاد العناصر المنتمية للنظم السابقة عن المهام الإفتائية على نحو ما عكسته قرارات رئيس الوزراء السوداني عبدالله حمدوك بإبعاد العناصر الإخوانية عن المناصب القيادية في مجمع الفقه الإسلامي، وإصدار أحد الائمة الأتراك فتوى بعدم جواز تلقي لقاح “كورونا” بما قد يزيد من انتشار الفيروس ويضعف النظام الصحي على نحو يؤثر على شعبية أردوغان في انتخابات الرئاسة 2023، وبدء استيراد طهران اللقاحات المضادة لفيروس “كورونا” من الخارج بعد تولي إبراهيم رئيسي رغم فتوى المرشد خامنئي بعدم استيراد اللقاحات من الولايات المتحدة وبريطانيا.  

وتشير التفاعلات الداخلية التي شهدتها دول عديدة في الشرق الأوسط إلى تزايد اللجوء إلى تسييس الفتوى من قبل هيئات دينية أو جماعات سياسية أو حتى شخصيات فردية، وذلك على النحو التالي:

انحياز فصائلي

1- إطلاق دعوة للتظاهر لإسقاط مجلس النواب الليبي: أصدرت دار الإفتاء الليبية بياناً منشوراً على صفحة “فيس بوك” في 23 سبتمبر الجاري، دعت فيه لمظاهرات لإسقاط مجلس النواب بعد نجاحه في حجب الثقة عن حكومة عبدالحميد الدبيبة واتهام قراره بمخالفة الإعلان الدستوري والاتفاق السياسي. إذ قال البيان: “إن مجلس النواب الساقط شرعياً وقانونياً وأخلاقياً، برئاسة عقيلة صالح، قد تمادى في فساده، وتوغل في ايذائه للناس، ومازال – في كل يوم يمر، وفي كل جلسة تنعقد- يضيف إلى سجل أعماله جريمة جديدة، فهو الذي استباح دماء الليبيين بتأييد الحروب، التي شنها خليفة حفتر، وآخرها الحرب على طرابلس، وأيد جلب المرتزقة والمحتلين”.

وتابعت دار الإفتاء: “ومن آخر جرائم هذا البرلمان المزعوم، تضييقه على الناس في أقواتهم، بمنع الميزانية عن الحكومة، الذي يعتبر اعتداءً على سائر الليبيين، بزيادة معاناتهم، وتفاقم أزماتهم، وقد بلغ الذروة في الإساءة بإصداره قرار سحب الثقة من الحكومة حتى يعيق تحركها ويضيق عليها”، وأضافت: “وعليه؛ فإن مجلس البحوث والدراسات الشرعية بدار الإفتاء الليبية، يدعو جميع الليبيين إلى الخروج في مختلف المدن والقرى، يوم غد الجمعة (أمس)، للدعوة إلى إسقاط مجلس النواب”.

وقد رد الشيخ علي مصباح أبو سبيحة رئيس المجلس الأعلى لقبائل ومدن فزان (جنوب ليبيا)، على هذا البيان بتأكيده أن الخروج للتظاهر يعني التأييد لـ”الإخوان المفلسين” و”الجماعة الليبية المقاتلة”، وحذّر من التداعيات التي يمكن أن تنجم عن استغلال عواطف الجماهير الجياشة الكارهة لتصرفات (…) أعضاء مجلس النواب”، معتبراً أن “تأييد دار الإفتاء في طرابلس للمظاهرات دليل على ضلالتها وعدم مشروعيتها، ولا تزيد الوطن إلا انقساماً وتشظياً وفرقة وتضعه على حافة الحرب”.

جهود استباقية    

2- منع تزوير العملية الانتخابية المقبلة في العراق: شهدت الانتخابات البرلمانية السابقة في العراق استخدام العديد من البطاقات الانتخابية المملوكة لأشخاص آخرين، بهدف التصويت لمرشحين بعينهم بعد شرائها، وهو ما كشفته المنظمات الدولية والمحلية واعتبرته عملية تزوير واضحة للعيان، مما دفع هيئات دينية للحديث عن “الصوت الديني الحر”. وفي هذا السياق، أفتى مكتب المرجع الديني الأعلى علي السيستاني، بعدم جواز بيع أو شراء بطاقة الناخبين. كما قال المجمع الفقهي العراقي (أعلى هيئة إفتاء سنية)، في بيان بتاريخ 23 سبتمبر الجاري: “إن حيازة بطاقة الناخب تضمن عدم استغلالها وتحفظ حق صاحبها مهما كان موقفه من العملية السياسية، ولذا ينبغي الحرص على حيازتها”.

وأضاف: “لا يجوز بيع أو شراء بطاقة الناخب وثمنها من السحت الحرام؛ لأنها تفضي إلى استحواذ الفاسدين من ذوي المال السياسي والنفوذ على الأصوات الكثيرة، وفيه إعانة على الإثم والعدوان، وتهاون في أداء الشهادة وإضاعة للأمانة وتفريط بالمسئولية، ويفتح باباً للرشوة والغش والتزوير، وكل ذلك مُجمع على حرمته، وفيه زيادة في الفساد وتقوية للمفسدين، وإن الحرص على حيازتها وسيلة تمنع من استغلال الفاسدين لها”. وأكد البيان: “كل مرشح يثبت بيقين قيامه بشراء بطاقات الناخبين ينبغي إسقاط حقه في الترشيح والتشهير به؛ لأنه عنصر فساد يقوض مقصد التغيير المرجو من عملية الانتخابات، وهذا من باب الأخذ بالإجراءات الاحترازية لضمان نزاهة عملية الانتخابات وتحجيم منافذ الفساد والتلاعب بها”.

خطاب الكراهية

3- تنقية الخطابات الدينية من الأفكار المغلوطة: تعمل العديد من الحكومات في منطقة الشرق الأوسط، سواء بشكل فردي أو جماعي على تنقية الخطابات الدينية من الأفكار المغلوطة، وهو ما برز جلياً في أعمال مؤتمر الإفتاء العالمي السادس بعنوان “مؤسسات الفتوى في العصر الرقمي” الذي عقد في 2 أغسطس الماضي بالقاهرة، حيث اتفقت الوفود المشاركة من 85 دولة على أهمية التصدي للجماعات المتطرفة وما تبثه من أفكار تكفيرية وفتاوى تخريبية، وضرورة إدراك العاملين بالمؤسسات الدينية لأهمية التكنولوجيا والاستفادة منها في مواجهة الفكر المتطرف وتطوير المؤسسات الافتائية رقمياً، بهدف سد أى ثغرات على الفضاء الإلكتروني قد تنفذ منها التنظيمات الإرهابية والجماعات المتطرفة من ناحية وزيادة جسور تعاون بين مؤسسات الإفتاء، في ظل التحول الرقمي من ناحية أخرى. ودعا المؤتمر منظمة الأمم المتحدة إلى اعتبار 15 من أكتوبر يوماً عالمياً للإفتاء.

غطاء “النهضة”

4- دعم هيمنة تيارات سياسية محددة على التفاعلات الداخلية التونسية: أصدر “اتحاد علماء المسلمين”، في 27 يوليو الماضي، بياناً ينتقد فيه القرارات التي اتخذها الرئيس قيس سعيّد بإقالة الحكومة وتجميد عمل مجلس النواب، حيث قال إن “اتخاذ إجراءات أحادية أمر خطير ولا يجوز شرعاً ولا أخلاقاً ولا عرفاً وهو منزلق قد يفاقم الأزمة الحالية ويضاعف تداعيات كورونا”، وهو ما يختلف عن الموقف الذي اتخذه الاتحاد إزاء الحراك الثوري في السودان، حيث دعا المتظاهرين إلى التزام الهدوء. وكذلك برز موقف الاتحاد الداعم للمتظاهرين في دول عدة ومنها سوريا.

إزاحة الإخوان

5- إبعاد العناصر المنتمية للنظم السابقة عن المهام الإفتائية: اتخذ رئيس الحكومة السودانية د.عبدالله حمدوك، في 20 مارس الماضي، عدداً من القرارات أبعد بموجبها العناصر الإخوانية عن تولي مناصب قيادية في مجمع الفقه الإسلامي (المركز القومي للإفتاء بالسودان) بعد أن كان من أبرز بؤر تمكينهم على مدار ثلاثة عقود من حكم الإنقاذ، كما تولى آخرون مناصب محورية ومنهم الدكتور عبدالرحيم آدم محمد الذي عين رئيساً لمجمع الفقه الإسلامي، والزبير محمد علي أميناً عاماً لمركز أبحاث الرعاية والتحصين الفكري بالمجمع نفسه، وهو ما يأتي في سياق تفكيك النظام السابق في ظل وجود حواضن اقتصادية واجتماعية ودينية وأمنية بل وعسكرية مما قد يستغرق وقتاً طويلاً نسبياً.

أجندات ضيقة

6- التصدي لاستغلال الفتاوى لصالح مشاريع غير وطنية: قال رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، في بيان بتاريخ 14 يونيو الماضي: “مرّت بلادنا الحبيبة في مثل هذه الأيام بظروف بالغة الصعوبة، وضعت العراق أمام تحدٍ وجودي خطير، لولا العناية الإلهية بهذا الوطن المقدس وما صدر من المرجع الأعلى علي السيستاني، من فتوى وتوجيهات أوقفت وحشاً إرهابياً كان قد أرعب العالم كله، وقد أدت الفتوى إلى القضاء على هذا التنظيم خلال مدة لم يكن يتصورها العالم كله”. وأوضح أن “حكومته تعمل على وضع البلد على الخط الصحيح بدعم القوات المسلحة، وضبط أدائها وفق القواعد العسكرية الوطنية، كما أوصت بها المرجعية دائماً، محذرة من استغلال الفتوى سياسياً واقتصادياً لصالح مشاريع غير وطنية تفسد تضحيات المتطوعين الأبطال”.

تحريم اللقاح

7- إصدار أحد الأئمة الأتراك فتوى بعدم جواز تلقي لقاح “كورونا”: والذي يعمل كخطيب (دون أن تكشف السلطات الرسمية التركية عن اسمه) في جامع يقع في مدينة دينزلي جنوب غرب تركيا، إذ دعا، في 31 أغسطس الماضي، المصلين إلى مقاطعة اللقاحات المضادة لـ”كورونا”، معتبراً أنها “حرام” و”على الناس ألا يخضعوا لها”. وقد أثارت فتواه جدلاً واسعاً على مواقع التواصل الاجتماعي وانشغل بها الرأى العام لاسيما بعد رفضه التراجع عنها، وهو ما دفع دائرة الأوقاف إلى وقفه عن العمل. ولعل ذلك يقلل من شعبية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي سيترشح في انتخابات الرئاسة المقبلة في عام 2023، لأن عدم تلقي اللقاح يزيد من انتشار الإصابات والوفيات بالفيروس.

وفي هذا السياق، مارست السلطات الرسمية ضغوطاً على محمد أشيك مفتي دينزلي لتعديل الفتوى السابقة، حيث أعلن عن تلقيه للقاح المضاد لفيروس “كورونا” مع كامل أفراد عائلته. كما طالب الناس بضرورة الحصول على اللقاح لمنع الفيروس من الانتشار بينهم. وقال أيضاً في تصريحاتٍ لوسائل إعلام محلية إن “التطعيم واجب ديني ومدني ومن الضروري التشجيع على الحصول عليه”. وهنا تجدر الإشارة إلى اعتراض الأحزاب المعارضة للرئيس أردوغان على عمل “رئاسة الشئون الدينية” لكونها تتعارض مع علمانية الدولة، وهو ما يؤكد عليه حزب “الشعب الجمهوري” بأن تلك المؤسسة تتدخل في الشئون السياسية للبلاد.

معضلة الاستيراد

8- بدء استيراد طهران اللقاحات المضادة لفيروس “كورونا” من الخارج: حدث تحول في أسلوب تعامل إيران مع اللقاحات المضادة لفيروس “كورونا” من المنع إلى الإتاحة، حيث أصدر المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي، في 8 يناير 2021، قراراً بمنع استيراد اللقاحات المضادة لفيروس “كورونا” من الولايات المتحدة وبريطانيا، وقال: “استيراد اللقاحات الأمريكية والبريطانية ممنوع، فالأمريكيون لو كانوا قادرين على إنتاج اللقاح لما حصلت هذه الفضيحة بانتشار الوباء في بلادهم، إذ وصلت حالات الوفاة إلى حدود 4 آلاف شخص في يوم واحد، إضافة إلى أننا لا نثق بهم، لأن هذه اللقاحات تكون للاختبار على بعض الشعوب”.

وأضاف أن “لدى إيران تجربة مع الفرنسيين في قضية الدماء الملوثة، لذلك نحن لا نثق بهم، لكن شراء اللقاح من دول أخرى لا مانع أمامه”. غير أنه مع تولي إبراهيم رئيسي السلطة بدأت عملية استيراد اللقاحات الأجنبية لاسيما بعد إعلانه عن عدم وجود أزمة في تأمين الموارد المالية لاستيراد 30 مليون لقاح، وهو ما اختلف عن نهج الرئيس السابق حسن روحاني الذي لم ينجح في ذلك سواء مع الخصوم أو الحلفاء وخاصة موسكو في تزويد طهران بلقاح “سبوتنيك”. وهنا تجدر الإشارة إلى أن هناك اتجاهاً في الأدبيات يرى أن إدارة إبراهيم رئيسي – كونه من نخبة رجال الدين الذين يحق لهم الإفتاء- اعتمدت على مبدأ “الضرورات تبيح المحظورات” في ظل تفاقم أزمة “كورونا”.

مداخل حاكمة

خلاصة القول،إن الأبعاد المتصلة بالفتاوى الدينية وتوظيفها سياسياً ستظل حاكمة للتفاعلات الداخلية الشرق الأوسطية وخاصة على صعيد ضبط الفتوى ومحاربة الأفكار الهدّامة والجماعات المتطرفة، وضرورة اعتماد الفتاوى على وسائل التكنولوجيا الحديثة في الإعلام والاتصال، وإدراك أهمية الفتوى في عصر التصدي لانتشار “كورونا”، ودورها في تأكيد نزاهة العملية الانتخابية، وإبعاد التيارات الموالية للنظم البائدة، وتعزيز همزات الاتصال بين مؤسسات الإفتاء.