رغم الخلافات العالقة بين الطرفين، إلا أنه بدا لافتاً اتجاه تركيا نحو تحسين علاقاتها مع العراق في الآونة الأخيرة، على نحو انعكس في إجراء سلسلة من الزيارات الرسمية المتبادلة، كان آخرها زيارة وزير الدفاع التركي يشار غولر، في 6 فبراير الجاري، والتي شملت العاصمة بغداد وإقليم كردستان.

ويمكن القول إن هذه التحركات تأتي في سياق مساعي أنقرة لتطوير الترتيبات الأمنية مع بغداد وأربيل لمحاصرة وجود مقاتلي حزب العمّال الكردستاني في شمال العراق. كما أنها تأتي ضمن تحركات تركية متنامية خلال الآونة الأخيرة؛ لتكريس النفوذ الأمني والاقتصادي في العراق، بالإضافة إلى دفع المؤسسات الأمنية العراقية للمشاركة في جهود تقييد أنشطة حزب العمال الكردستاني، لا سيما وأن العمليات العسكرية التي تشنها أنقرة منذ عقود لم تحقق اختراقاً ملموساً في هذا الملف.

مؤشرات عديدة

تسعى تركيا إلى توسيع نطاق علاقاتها الثنائية مع العراق، بالتوازي مع محاولة “تحييد” التداعيات التي تفرضها الخلافات العالقة بين الطرفين، وهو ما تكشف عنه مؤشرات عديدة يتمثل أبرزها في:

1- إجراء زيارات رسمية متبادلة: شهدت الفترة الأخيرة زيارات تركية مكثفة للعراق، حيث سبق زيارة وزير الدفاع الأخيرة زيارتان متتاليتان قام بهما رئيس الاستخبارات التركية إبراهيم قالن إلى بغداد وأربيل خلال النصف الثاني من يناير الفائت، عقد خلالهما اجتماعات مع عدد من المسئولين العراقيين في بغداد، فضلاً عن ممثلي بعض الأحزاب السياسية العراقية.

ولم تكن زيارة وزير الدفاع التركي للعراق هي الأولى من نوعها في الأشهر الماضية، فقد سبقتها زيارة في ديسمبر الماضي، تفقد خلالها القوات التركية الموجودة داخل الأخيرة. وفي أغسطس الماضي، قام وزير الطاقة التركي ألب أرسلان بيرقدار بزيارة العراق، لحل القضايا العالقة في مجال الطاقة، وتعزيز المشاريع النفطية بين البلدين.

في المقابل، كانت تركيا خلال الأشهر الماضية محط زيارات متتالية للمسئولين العراقيين، فقد استقبلت تركيا في عام 2023 وزير الدفاع العراقي ثابت العباسي، كما استقبل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كلاً من رئيس البرلمان محمد الحلبوسي وأمين عام حزب “المشروع العربي” خميس الخنجر، ورئيس تحالف “عزم” مثنى السامرائي، ورئيس هيئة “الحشد الشعبي” فالح الفياض.

2- توسيع نطاق التعاون الأمني: سعت تركيا طوال الأشهر الماضية إلى دفع العلاقات الأمنية مع العراق، ولا سيما مع اتجاهها في التوقيت الحالي إلى توسيع نطاق عملياتها العسكرية ضد حزب العمال الكردستاني. وتشير العديد من التقديرات إلى أنّ تركيا تحاول إبرام اتّفاقية أمنية مع العراق على غرار تلك الموقعة بين طهران وبغداد في 19 مارس الماضي، بهدف تعزيز أمن المناطق الحدودية بين تركيا والعراق، وكذلك دعم التعاون بشأن إنهاء وجود مقاتلي حزب العمال الكردستاني. وتجدر الإشارة إلى أن القيادات الأمنية التركية تناقش في التوقيت الحالي بنود اتفاقية تتضمن إلزام العراق بالمشاركة في العمليات المسلحة ضد حزب العمال الكردستاني.

3- ربط الملفين الاقتصادي والأمني: تتعمد أنقرة في إدارة علاقاتها مع بغداد ربط الملفين الاقتصادي والأمني، وبدا ذلك جلياً في تأكيد الأولى على ضرورة تطهير شمال العراق لضمان تنفيذ ما يعرف بـ”طريق حرير العراق-تركيا”، الذي أعلن عنه الرئيس أردوغان في 10 سبتمبر الماضي على هامش قمة العشرين، والذي يمتد من مناطق جنوب العراق وصولاً إلى الأراضي التركية ومن ثمّ إلى العمق الأوروبي.

وبالتوازي مع ذلك، يمثل ملف المياه إحدى الأوراق التي تستخدمها أنقرة في ممارسة ضغوط على بغداد، ولا سيما مع التناقص الحادث والمستمر في الموارد المائية العراقية بفعل بناء تركيا العديد من السدود على نهري دجلة والفرات، وهو ما أدى إلى تراجع الحصة المائية للعراق، على نحو انعكس في تزايد الجفاف، وتناقص المساحة المزروعة، وزيادة موجات النزوح نحو المدن في أوساط المزارعين والعاملين في قطاع النشاط الزراعي.

4- التعويل على القوى المحلية: لا تنفصل الزيارات التركية للعراق، وآخرها زيارة وزير الدفاع يشار غولر، عن حرص أنقرة على دعم الحلفاء المحليين في العراق، وخاصة التركمان، وهو ما ظهر مؤخراً في تدخل أنقرة بشكل مباشر لمنع حصول حزب الاتّحاد الوطني على منصب المحافظ في مدينة كركوك الغنية بالنفط، والتي تمثل أولوية استراتيجية لتركيا.

وعلى الرغم من النتائج المتواضعة التي حققها التركمان في الانتخابات البلدية التي أجريت في 19 ديسمبر الماضي، إلا أن أنقرة تعمل في التوقيت الحالي على دعم حلفائها المحليين لضمان قيادة الحكومة المحلية في كركوك.

دلالات رئيسية

تعمل تركيا منذ وقت طويل على دعم وتطوير العلاقات مع العراق التي تمثل عمقاً استراتيجياً لها، ونقطة استناد استراتيجية في حماية أمنها القومي. لذلك كانت لزيارة وزير الدفاع التركي دلالات رئيسية أربعة: أولها، تأكيد الاهتمام التركي بتطوير التعاون الأمني مع العراق، الذي يكتسب أهمية خاصة في سياق محاصرة حزب العمال الكردستاني. إذ جاءت الزيارة بالتزامن مع تصاعد حدة المواجهات العسكرية بين الجيش التركي وحزب العمال الكردستاني في شمال العراق.

وثانيها، تأمين المصالح التركية في العراق، حيث جاءت زيارة وزير الدفاع التركي كاشفة عن تزايد الطموحات التركية في العراق التي تمثل مركزاً لمصالح تركية متنوعة، إذ جاءت الزيارة عقب انتهاء زيارة رئيس الاستخبارات التركي إبراهيم قالن للعراق في نهاية يناير الماضي. كما تؤكد زيارة وزير الدفاع التركي حرص أنقرة على دعم حضورها على الساحة العراقية، وقدرتها على إعادة التموضع في العراق التي تعد أحد مراكز الطاقة العالمية.

وثالثها، رغبة أنقرة في ضمان الوصول إلى توافق مع بغداد حيال مواجهة حزب العمال الكردستاني، والتي تمثل أولوية على الأجندة التركية، ولذلك فإن أحد الأهداف الرئيسية لتركيا في هذا التوقيت هو استقطاب دعم العراق للمقاربة التي تتبناها في حربها ضد حزب العمال الكردستاني. ولعل هذا ما اتضح –على سبيل المثال– في سعي وزير الدفاع التركي لإقناع حكومة بغداد بتوقيع اتفاقية أمنية تتضمن مشاركة الجيش العراقي في الحرب على الكردستاني.

ورابعها، سعي أنقرة إلى موازنة المنافسين الإقليميين والدوليين على الساحة العراقية، خاصة في ظل تمدد نفوذ طهران وموسكو، بالإضافة إلى رغبتها في امتلاك أوراق ضغط للتأثير على مقاربات القوى الغربية التي تناهض التدخلات العسكرية التركية في المناطق الكردية في شمال سوريا وشمال العراق.

ختاماً، يمكن القول إن زيارة وزير الدفاع التركي للعراق تأتي ضمن مساعي أنقرة لتعزيز نفوذها الأمني داخل الساحة العراقية، وضمن الصياغة الجديدة لمنظومة التدخلات الأمنية ضد قواعد وأنشطة حزب العمال الكردستاني في شمال العراق التي تستهدفها تركيا خلال المرحلة المقبلة، والتي ستتحول إلى متغير مهم سوف يكون له دور في تحديد المدى الذي سوف تصل إليه المقاربة التركية الجديدة في إدارة العلاقات مع العراق.