سعى رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني إلى استثمار حضوره بمدينة نيويورك للمشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، خلال سبتمبر الجاري، لجذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية، وتطوير بناء شراكات اقتصادية مع العديد من القوى الإقليمية والدولية، حيث أكد خلال لقائه مع مبعوث الرئيس الأمريكي الخاص للشرق الأوسط وشمال أفريقيا بريت ماكجورك، في 21 سبتمبر الحالي، أن الساحة الاستثمارية في العراق مفتوحة لإسهام الشركات الأمريكية في خطط الإصلاح وإعمار البنى التحتية العراقية.
كما أعلن السوداني عشية لقائه مع مسئولين آخرين على هامش الاجتماعات الأممية، أن بلاده تعمل على تطوير التعاون مع المجتمع الدولي من أجل تجاوز التحديات التي تواجهها في مجال تمويل مشروعات التنمية المستدامة، خاصة ما يتعلق بتمويل الجهود المبذولة لمواجهة التغير المناخي، كون العراق تعدّ إحدى أكثر الدول عرضةً لتأثيراته.
وقد توازت لقاءات السوداني على هامش الاجتماعات الأممية الأخيرة مع تحركات قام بها مسئولو حكومته بهدف وضع خطط خاصة بأبرز المشروعات التنموية المطروحة، خاصة المرتبطة بالبنية التحتية، وسط مساعٍ حثيثة للاستفادة من عوائد النفط، وذلك في سياق ما يسمى بـ”النفط مقابل الإعمار”.
مؤشرات كاشفة
أبدت حكومة السوداني اهتماماً لافتاً بشأن جذب المزيد من التمويلات الخارجية، والاستثمارات الأجنبية التي عدتها نقطة الاستناد الاستراتيجية لمعالجة الاختلالات الهيكلية في الاقتصاد العراقي، ويبدو ذلك جلياً في مؤشرات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- توسيع نطاق التعاون الاقتصادي: حرصت العراق على تعزيز الشراكة الاقتصادية مع عدد واسع من القوى الإقليمية والدولية خلال الآونة الأخيرة، وظهر ذلك في تأكيد رئيس الوزراء محمد شياع السوداني خلال لقاء مع أعضاء غرفة التجارة الأمريكية، في 22 سبتمبر الجاري، على توفير بلاده بيئة أعمال مواتية للشركات الأجنبية بشكل عام، والشركات الأمريكية بشكل خاص، بحكم ما تمتلكه من إمكانيات وقدرات يمكن أن تساعد في تنفيذ بعض هذه المشروعات خلال فترة وجيزة.
وفي سياق متصل، نجحت حكومة السوداني في توسيع نشاط شركتى “توتال” الفرنسية و”إيني” الإيطالية، فضلاً عن استقطاب عدد واسع من الشركات الأجنبية الأخرى. كما سعت الحكومة إلى تطوير الشراكة مع الهند التي تعدّ إحدى أكثر القوى الدولية الطامحة إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية مع دول منطقة الشرق الأوسط، وكان بارزاً هنا دعوة السوداني، في 18 سبتمبر الجاري، الشركات الهندية للاستثمار في مشاريع طريق التنمية وتشغيل المستشفيات والدفع الإلكتروني.
2- دفع مشروعات التنمية المستدامة: عملت حكومة السوداني منذ توليها مهامها في أكتوبر 2022 على توسيع مشروعات التنمية المستدامة، وتجلى ذلك في تخصيص نحو 38 مليار دولار في موازنة العام الجاري (2023) لمصلحة مشروعات بناء الطرق وقطاع الإسكان والمدارس والمستشفيات، فضلاً عن تنفيذ العديد من المشروعات الخدمية، علاوة على تأسيس صناديق خاصة لعمليات التنمية المطلوبة، سواء في عموم العراق أو في المناطق الأكثر فقراً أو التي تضررت من الجرائم التي ارتكبها تنظيم “داعش” خلال فترة سيطرته على مساحة واسعة من الأراضي العراقية قبل أن يتعرض لضربات وهزائم متتالية في الأعوام الأخيرة.
3- تطوير التشريعات القانونية القائمة: تمكنت الحكومة من قطع شوط كبير على صعيد معالجة الصعوبات القانونية المرتبطة بمناخ الاستثمار، وخاصة التحديات التي تواجه استخراج الموافقات الاستثمارية، وطول أمد الإجراءات وتعقيدها، فضلاً عن الإجراءات البيروقراطية.
كما عملت الحكومة على تعديل جانب واسع من هذه القوانين، منها -على سبيل المثال- القرار رقم 245 لسنة 2019 الذي كان يحدد إمكانات الهيئة الوطنية للاستثمار، وقد جاء التعديل بما يمنح الهيئة صلاحيات واسعة من الحركة الإدارية والقانونية، بغرض تقليل الإجراءات الروتينية. كما شجعت الحكومة البنك المركزي على منح قروض للمستثمرين حال بلغت نسبة الإنجاز في المشاريع القائمة 25%.
4- إقرار مشروع “القناة الجافة”: تراهن العراق على مشروع التنمية “القناة الجافة” الذي يربط العراق بالموانئ التركية عبر الخليج، وصولاً إلى أوروبا لجذب المزيد من التمويلات الخارجية، سواء للمساهمة في المشروع ذاته أو المشروعات اللوجستية والخدمية التي سيوفرها. ويبدأ المشروع من البصرة ويمر بعشرة محافظات حتى يصل إلى تركيا ثم إلى أوروبا. وحسب بعض التقديرات، فإن العوائد المتوقعة بعد تنفيذ هذا المشروع تصل إلى 4 مليار دولار، فضلاً عن أنه سوف يساهم في توفير نحو 100 ألف فرصة عمل.
5- رفع مستوى الإجراءات الأمنية: في سياق تعزيز مناخ جاذب للاستثمارات الخارجية، سعت الحكومة إلى تأمين عمل الشركات الأجنبية في العراق، واعتبرت ذلك التزاماً مبدئياً وثابتاً لديها. ويشار في هذا الصدد إلى أن القوات الأمنية العراقية حققت طفرة نوعية على صعيد عمليات التدريب والقتال والتأمين طوال السنوات الماضية، بالتوازي مع توجيه ضربات قوية للخلايا التابعة لتنظيم “داعش”، على نحو ترى أنه سوف يشجع الشركات الأجنبية على توسيع نطاق استثماراتها داخل العراق خلال المرحلة القادمة.
تحديات محتملة
يمثل الحرص على جذب التمويلات الخارجية خطوة مهمة لتعزيز مشروعات التنمية المستدامة، وعمليات إعادة الإعمار، بالإضافة إلى مواجهة المشكلات الاقتصادية، بيد أن ثمة تحديات محتملة يمكن أن تعيق تعزيز جذب التمويلات الخارجية، في الصدارة منها حدود الإنفاق على مشروعات البنية التحتية المتهالكة في العراق، فضلاً عن استمرار ظاهرة الفساد داخل بعض المؤسسات على نحو كان له دور في السابق في عرقلة بعض المشروعات التنموية الكبيرة. وتصنَّفُ العراق في مؤشر مدركات الفساد العالمي الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية ضمن الدول الأكثر فساداً في العالم، حيث احتلّت المرتبة 157 في التقرير الصادر عن المنظّمة عام 2022.
وعلى صعيد متصل، تُمثل الخلافات السياسية التي تتفاقم تدريجياً بين النخب العراقية والتي زادت من حالة عدم الاستقرار في البلاد عائقاً أمام جذب التمويلات الأجنبية إلى العراق. وتجدر الإشارة إلى أن مواقف القوى والكتل السياسية العراقية متباينة ومتعارضة في كثير من الأحيان بشأن النظر إلى الاستثمارات الأجنبية، فبعض الأطراف العراقية القريبة من إيران تعارض التواجد الأمريكي في البلاد على المستويات المختلفة، بينما تسعى أطراف أخرى، منها التركمان وبعض التيارات الأخرى، لمنح الأولوية للاستثمارات التركية.
اهتمام خاص
ختاماً، يمكن القول إن تصريحات السوداني عن أهمية التمويلات الأجنبية تعكس سعى الحكومة العراقية إلى تنويع مصادرها التمويلية بهدف سد العجز القائم في مجال تمويل مشروعات التنمية المستدامة، إذ تبدو الموارد العراقية غير قادرة على معالجة الاختلالات الهيكلية التي يعانيها الاقتصاد العراقي، في ظل التداعيات التي فرضها تصاعد نشاط تنظيم “داعش” خلال الفترة الماضية، وتفاقم حالة عدم الاستقرار على المستويين السياسي والأمني.