اكتسب منح العراق، في 9 أغسطس الفائت، شركة “تاف” للمطارات القابضة التركية، وشركة 77 إنسات، أشغال إصلاح مطار الموصل، بتكلفة 185 مليون دولار في غضون 18 شهراً، اهتماماً وزخماً خاصاً، خلال الأيام القليلة الماضية، وهو ما يمكن تفسيره انطلاقاً من عدة عوامل أبرزها عدم تأثير القضايا الخلافية على متانة العلاقات الاستراتيجية بين البلدين، خاصةً أن ضمان الاستقرار في العراق، وحماية وحدته وأراضيه، تشكل أساس سياسة تركيا تجاه العراق، ناهيك عن أن سياسة الحياد الإيجابي التي تبنتها تركيا تجاه الأزمة السياسية في العراق ساهمت في تجدد الثقة بين البلدين.
كما يكشف إسناد إعادة إعمار المطار لتركيا عن أن الأخيرة أضحت ضمن القوى الإقليمية الحاضرة بقوة في التفاعلات العراقية، وتعكس التصريحات الرسمية الصادرة عن رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، ومحافظ نينوى، أن تركيا تحمل أولوية في الاستراتيجية العراقية وتوجهات السياسة الخارجية لعدد معتبر من القوى السياسية العراقية التي تسعى إلى الحد من النفوذ الإيراني في العراق.
توقيت لافت
يأتي فوز تركيا بمشروع إعادة إعمار الموصل مع تصاعد المشاعر المعادية لتركيا في أوساط العراقيين، والتي كشف عنها استهداف هجوم صاروخي في 27 يوليو الماضي القنصلية التركية في الموصل، وهذه هي المرة الأولى التي يتم فيها استهداف المصالح الدبلوماسية التركية في العراق. ولم يكن هذا التوتر هو الأول من نوعه، فقد سبق ذلك تنامي الخلاف الذي وصل إلى الذروة عقب الهجوم التركي على منتجع “زاخو” السياحي بمنطقة “دهوك” في إقليم كردستان العراق، في 20 يوليو الماضي، وهو الهجوم الذي وصفته حكومة بغداد بالعمل الإجرامي، بالإضافة إلى عددٍ من الخطوات الإجرائية، أهمها تقديم شكوى إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن.
في المقابل، جاء منح أنقرة إعادة تأهيل مطار الموصل، بعد استبعاد بغداد في خطوة غير متوقعة الشركة الفرنسية للهندسة ADPI، التي عرضت تنفيذ المشروع بتسهيلات معتبرة، وهو الأمر الذي أدى إلى ارتباك صانعي السياسة في باريس التي كانت تطمح إلى تعزيز نفوذها في العراق، وظهر ذلك في قيام الرئيس ماكرون بزيارتين إلى العراق في سبتمبر 2020 وأغسطس 2021.
بالتوازي مع ما سبق، فإن فوز تركيا بإعادة تأهيل مشروع المطار، تزامن مع مساعي العراق المثقل بأزمة مالية لتعزيز علاقاته الاقتصادية مع دول الجوار، وبخاصة تركيا التي تحمل شركاتها رغبة عميقة لتطوير فرصها الاستثمارية في قطاعات عراقية متنوعة، وبخاصة قطاع الطاقة. ويشار إلى أن العراق أعلن اعتزامه في نهاية العام الماضي إقامة خط أنابيب جديد لتصدير النفط الخام عبر الأراضي التركية إلى ميناء جيهان التركي على البحر المتوسط ليكون بديلاً عن الخط الذي شيد في سبعينيات القرن الماضي بطاقة تصميم تبلغ مليون و600 ألف برميل يومياً.
على صعيد متصل، فإن مشروع إعادة تأهيل مطار الموصل يأتي في وقت تبدي تركيا فيه مزيداً من الاهتمام بالعراق، لأنه يعد ضمن إجراءات أنقرة لتعزيز نفوذها الإقليمي من جهة، والقفز على تراجع أوضاعها الاقتصادية من جهة أخرى، حيث يُعد العراق من أكبر الشركاء التجاريين لتركيا، وسعت أنقرة إلى زيادة التقارب مع بغداد مؤخراً من خلال الدخول في شراكات تجارية ضخمة معها، فالعراق يمثل سوقاً ضخمة للبضائع والصناعات التركية.
ارتدادات محتملة
مع فوز تركيا بعقد إعادة تأهيل مطار الموصل الذي تعرض للتدمير، تزداد الاحتمالات بأن ثمة ارتدادات محتملة على موقع وموضع تركيا في عدد من الملفات، وهو ما يمكن بيانه على النحو التالي:
1- تعزيز العلاقات الثنائية بين أنقرة وبغداد: قد يسفر فوز تركيا بعقود إعادة تأهيل مطار الموصل عن تطوير العلاقات الثنائية بين أنقرة وبغداد، وتحقيق اختراق في الملفات الشائكة. ويشار إلى أن مصالح اقتصادية مشتركة بين البلدين، إذ يتجاوز حجم التجارة حالياً بين العراق وتركيا 20 مليار دولار، كما تعمل في البلاد مئات الشركات التركية، بما فيها الشركات النشطة في مجال البناء وإعادة الإعمار. على جانب آخر، يكشف فوز تركيا بمناقصة تأهيل المطار، أن ثمة مكانة استراتيجية لتركيا في ذهنية المسؤولين العراقيين، إذ تعي حكومة الكاظمي القوة الناعمة لتركيا في الموصل، فضلاً عن الثقة في قدرة أنقرة على تأمين وإنجاز العمل في المطار.
2- ترسيخ التنافس التركي-الفرنسي في العراق: قد يؤدي فوز تركيا بمناقصة مطار الموصل على حساب الشركات الفرنسية إلى فتح ساحة جديدة للتنافس التركي الفرنسي في العراق، خاصة بعد سحب مشروع تأهيل المطار من شركة ADPI الفرنسية، وإسناده لتركيا. وهنا، يمكن فهم تصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون التي أطلقها في 26 أغسطس الجاري عشية زيارته للجزائر، حيث زعم ماكرون أن بلاده تتعرض لحملة “تشويه” تقودها شبكات تركية وصينية وروسية، بسبب تركها الساحة في إفريقيا. وأثارت تصريحات ماكرون غضب أنقرة التي دعته في بيان لها إلى “مواجهة ماضي فرنسا الاستعماري في إفريقيا”.
3- استيعاب القضايا الخلافية مع واشنطن: يمكن أن يساهم فوز أنقرة بمناقصة تأهيل مطار الموصل في دفع العلاقات التركية الأمريكية قدماً، وتجاوز القضايا الخلافية، خاصة أن واشنطن دعمت من وراء ستار جهود تركيا للفوز بمناقصة المطار على حساب باريس؛ إذ إن ثمة شكوكاً أمريكية في تصرفات الرئيس الفرنسي الذي يسعى إلى استثمار الانسحاب الأمريكي من العراق لملء الفراغ، وتعزيز نفوذه في الشرق الأوسط. لذلك فإن الولايات المتحدة بدت مستاءة من التدخل الفرنسي في الموصل، ومن هنا كان الضغط الأمريكي على العراق للتوقيع مع شركتَي “تي. آي. في للإعمار” و”77 للإعمار”.
في هذا السياق، فإن أنقرة قد تسعى إلى توظيف الدعم الأمريكي لها في العراق لحل القضايا العالقة مع واشنطن، وتجلت ملامح التوافق بينهما في تصريحات وزير الدفاع التركي في 25 أغسطس الجاري، عندما أكد أن المحادثات مع واشنطن بشأن تزويد أنقرة بمقاتلات “إف 16” تسير بشكل إيجابي، متوقعاً إتمام عملية الشراء.
4- تصاعد المنافسة مع إيران على تعزيز النفوذ الاستراتيجي بالعراق: مع فوز تركيا بمناقصة مطار الموصل، فإن فرص تصاعد المنافسة بين أنقرة وطهران في العراق تكون هي الأرجح؛ إذ تعي إيران أن نجاحات تركيا في الحصول على عقود إعادة تأهيل المطار قد يخصم من رصيدها الاستراتيجي في منطقة الموصل، ويضغط على حضور المليشيات الموالية لها هناك. ولذلك، فإن طهران برغم عدم ارتياحها للتدخل الفرنسي المتزايد في العراق، إلا أنها كانت تفضّل فوز الشركات الفرنسية بمناقصة المطار، حيث تعتبر أن فرنسا هي الأقل عداوة لها مقارنةً بتركيا.
5- توظيف تأهيل المطار في الدعاية الداخلية للحزب الحاكم في تركيا: يحمل فوز تركيا بمناقصة مطار الموصل ارتدادات إيجابية محتملة على الداخل التركي، يمكن توظيفها محلياً، خاصة مع اقتراب الاستحقاق الرئاسي والتشريعي المقرر له منتصف العام المقبل. ويسعى الرئيس التركي وحزب العدالة والتنمية إلى استثمار الانتصارات الخارجية لتركيا للتحايل على حالة التردي الداخلي، والتي زادت وطأتها مع تدهور الأوضاع المعيشية، وتراجع سعر صرف العملة التركية التي فقدت ما يقرب من 40 في المائة من قيمتها. ومن ثمّ فإن الفوز بتأهيل مطار الموصل قد يساهم في جذب قطاعات انتخابية معتبرة لمصلحة العدالة والتنمية الذي خسر جزءاً من قواعده الانتخابية خلال الفترة الماضية بسبب الأزمة الاقتصادية، واستمرار حدة التجاذبات السياسية في البلاد.
تحديات ضاغطة
ختاماً، يمكن القول إنه رغم الارتدادات الإيجابية التي يحملها فوز أنقرة بمناقصة تأهيل مطار الموصل، إلا أن ثمة تحديات قد تؤثر على سير عمل تركيا في مشروع المطار، في الصدارة منها تزايد احتمالات أن يصبح مشروع المطار هدفاً للمليشيات الموالية لإيران، والتي تعارض تمدد النفوذ التركي في العراق، ناهيك عن احتمال مواجهة تركيا اعتراضات مستقبلية من بعض القوى العراقية حال انتهاء الأزمة السياسية الراهنة، وخاصة التيارات الموالية لإيران.