صوّت مجلس النواب الليبي بإجماع عدد أصوات الحاضرين، في 10 فبراير الجاري، في جلسته التي عُقدت بمدينة طبرق شرق البلاد لتعيين رئيس جديد للحكومة، على منح الثقة للمرشح “فتحي باشاغا” المقرب من تركيا، في خطوة تضمن الحفاظ على المصالح التركية، خاصة أن باشاغا أكد في مناسبات كثيرة أنه يمكن لتركيا لعب دور أكبر في ليبيا والتواصل مع جميع الأطراف، وشدد على ضرورة الحفاظ على الاتفاقيات البحرية والأمنية لبلاده مع أنقرة.
ورغم أن الدبيبة يحتفظ بعلاقات وثيقة مع تركيا، إلا أن الأخيرة يتوقع عدم معارضتها لتعيين باشاغا، باعتباره مرشحاً توافقياً يحوز تأييد الشرق والجنوب، بعد تقاربه مع القيادة العامّة للجيش، وتحالفه مع رئيس البرلمان عقيلة صالح. وبينما يتمتع باشاغا بعلاقات وثيقة مع كافة القوى السياسية الليبية، وَقَعَ الدبيبة في فخّ التنافر مع حفتر الذي رحّب باختيار باشاغا رئيساً لحكومة البلاد الجديدة، ناهيك عن توتر علاقته مع البرلمان الذي أصرّ في النهاية على إنهاء حكمه.
مواقف كاشفة
تكشف مواقف باشاغا وزير الداخلية السابق في حكومة الوفاق السابقة، وحسابات القوى المتحالفة معه، عن خلفيات سياسية راسخة تعكس ارتباطه بتركيا، كما تُشير إلى تصاعد احتمال استمرار النفوذ التركي في الداخل الليبي. فخلال زيارته لتركيا في سبتمبر الماضي، قال باشاغا في تصريحات له: “يُمكن لتركيا لعب دور أكبر في ليبيا، والتواصل مع جميع الأطراف الليبية”، وأكد على ضرورة الحفاظ على الاتفاقية البحرية والأمنية الموقّعة في نوفمبر 2020 بين بلاده وتركيا.
وبالتوازي مع ذلك، تضمّنت زيارة وفد أمني تركي لغرب ليبيا في مطلع يناير 2022، اجتماعاً مع باشاغا في مصراتة، وهو الاجتماع الذي حمل عدة رسائل تركية، منها إظهار قلق أنقرة من التحركات الأخيرة التي أفرزت ملامح تحالفات جديدة في الداخل الليبي، كان أبرزها التوافقات الأخيرة بين المشير خليفة حفتر ووزير الداخلية السابق فتحي باشاغا، ناهيك عن تأكيد أنقرة على رغبتها في الحفاظ على ديمومة التواصل مع باشاغا. خلف ما سبق، قام باشاغا مطلع العام الجاري بزيارة غير معلنة إلى تركيا، في محاولة لإقناع الأتراك بتشكيل حكومة جديدة، أو على الأقل تحييد التدخلات التركية عن أي صراع مسلح حال اندلاعه مع الدبيبة.
دلالات مهمة
في الواقع، إنّ غياب أية تصريحات تركية بشأن إمكانية دعم بقاء الدبيبة في صدارة المشهد الحكومي الليبي، يحمل رسالة مستترة لتأييد تكليف باشاغا، ويحمل في الوقت ذاته عدة دلالات رئيسية؛ أولها: أن تركيا ترى أن تكليف باشاغا يضمن إنهاء -أو على الأقل تحييد- النخب السياسية شرق ليبيا التي تناهض التدخل التركي بشكل صريح وحاسم في الداخل الليبي، وهو ما يمثل خطوة إيجابية نحو تعزيز نفوذها في الداخل الليبي، خاصة أن تركيا تعي حجم التأييد الواسع الذي يحظى به باشاغا بين معسكري الشرق والغرب الليبي. ففي الوقت الذي أيد فيه المجلس الأعلى للدولة، الذي يتزعمه خالد المشري المحسوب على جماعة الإخوان المسلمين، ترشيح باشاغا لرئاسة الحكومة الجديدة، حظي بدعم لافت من الجيش الوطني الليبي شرق ليبيا.
وثانيها: أنّ ثمة تفاهماً واسعاً ومستمراً بين تركيا وباشاغا طوال السنوات التي خلت، حيث لا يحمل باشاغا أية توجهات سلبية تجاه تركيا، فقد كان لافتاً غياب أي تصريحات مباشرة مناهضة لتركيا على لسانه. كما كان لافتاً أيضاً دعم باشاغا للدور العسكري والسياسي التركي في المشهد الليبي، وتأكيده في سبتمبر الماضي على أهمية توسيع هذا الدور. ويرتبط ثالثها بالارتياح التركي لباشاغا، الذي تعتبر توجهاته معروفة سلفاً، وضامنة للمصالح التركية في ليبيا، لذلك يتوقع أن تعمل تركيا التي تنشر قوات ومرتزقة في مناطق مختلفة غرب ليبيا، لمنع سيناريو تشكل حكومتين في طرابلس. كما أنّ ثمة قناعة تركية بأن أي صراع مسلح إذا نشب فسيُحسم لصالح باشاغا الذي يمتلك قوة مهمة على الأرض في طرابلس، وهو ما أكدته الزيارة التي قام بها في 10 فبراير الجاري إلى العاصمة طرابلس، وعقْده مؤتمراً صحفيّاً داخل مطار معيتيقة.
اعتبارات مغايرة
يعكس التأييد التركي الصامت لتكليف باشاغا بتشكيل الحكومة الليبية الجديدة رغبة أنقرة في تحقيق جملة من الأهداف، يمكن بيانها على النحو التالي:
1- تأمين العودة إلى شرق ليبيا: ترى تركيا أن باشاغا خلافاً للدبيبة يمكن أن يمثل مدخلاً مناسباً لتأمين عودة تركيا إلى مناطق شرق ليبيا، حيث أعلنت تركيا مؤخراً عن رغبتها في إقامة علاقات مع الشرق، وظهر ذلك في زيارة السفير التركي لدى طرابلس في 19 يناير الماضي منطقةَ شرق ليبيا، ولقائه عقيلة صالح رئيس مجلس النواب الليبي. وفي تصريحات له أكد السفير التركي “أن محادثاته مع رئيس مجلس النواب أظهرت تطوراً إيجابياً”، وأضاف: “أن بلاده لديها استعداد عند توفر الظروف المناسبة، لإعادة فتح قنصليتها العامة في بنغازي”.
وسبق خطوةَ السفير التركي زيارةُ وفد برلماني من شرق ليبيا تركيا خلال الفترة من 17 إلى 19 ديسمبر الماضي، وجاءت الزيارة تلبية لدعوة من مجلس الأمن القومي التركي، وفي إطار حرص أنقرة على تفعيل لجنة الصداقة البرلمانية التركية الليبية. ويبدو أن هذه الزيارة حركت جانباً واسعاً من المياه الراكدة في العلاقة بين أنقرة وشرق ليبيا. من هذا المنطلق، تعي تركيا أهمية توطيد العلاقة مع باشاغا الذي يمكن أن يشكل أحد مفاتيح عودتها إلى شرق ليبيا، خاصة بعد إعلان خليفة حفتر وقوى الشرق الليبي تأييدهم لرئاسة الحكومة الجديدة.
2- الحفاظ على المصالح الاقتصادية: تنطلق الرؤية التركية التي التزمت الحياد بشأن تشكل حكومة جديدة من منطلق الحرص على المصالح الاقتصادية التركية، حيث تمثّل ليبيا أولوية اقتصادية لتركيا من جوانب عدة؛ أولها: يرتبط بتباطؤ الاقتصاد التركي، وتراجع حضور الصادرات التركية في الأسواق الأوروبية والعربية في الفترة الماضية. وثانيها: وجود ما يقرب من 25 ألف مواطن تركي في ليبيا، وتُقدر الاستثمارات التركية فيها بنحو 15 مليار دولار. كما تُشكل السوقُ الليبية السوقَ الثانية للمتعاقدين الأتراك في الخارج بعد روسيا، ويوجد في ليبيا نحو 120 شركة تركية.
3- تخفيف ضغوط الخصوم الإقليميين والدوليين: لا ينفصل الحرص التركي على عدم معارضة اختيار باشاغا لرئاسة الحكومة الليبية الجديدة عن رغبة تركيا في توظيف المشهد الليبي الراهن لكسر حدة التوتر مع خصوم تركيا من الفاعلين الإقليميين والدوليين في المشهد الليبي، خاصةً بعد تراجع المستشارة الأممية ستيفاني ويليامز عن موقفها الرافض لتأسيس مرحلة انتقالية جديدة. وقالت في تصريحات صحفية لها في 10 فبراير: “بشأن ما إذا كان ينبغي لمجلس النواب أن يوافق على حكومة جديدة، فهو قرار سيادي بالكامل، وضمن اختصاص المؤسسات الليبية”.
كما تعي تركيا أن فتحي باشاغا كان -ولا يزال- الشخصية التي تحظى بثقة الولايات المتحدة أكثر من أي طرف آخر. ناهيك عن أن باشاغا يمكن أن يكون حلقة وصل لتعزيز التقارب الذي تستهدفه أنقرة مع القاهرة وأبو ظبي بعد ترحيبهما بالتوافق الحادث بين مجلس النواب الليبي والمجلس الرئاسي، وذلك في إشارة إلى دعم تكليف فتحي باشاغا بتشكيل حكومة جديدة. هنا، تعي تركيا أن عدم معارضة تكليف باشاغا، أو على الأقل تحييد موقفها، يسمح لها بالاستمرار في الحفاظ على ترسيخ مكانتها كقوة إقليمية ذات ثقل في ليبيا، وهو ما يوفر لها بيئة مواتية لتوظيف حضورها لدى الحكومة الليبية الجديدة كورقة ضاغطة لحلحلة الملفات الشائكة مع خصومها الفاعلين في الساحة الليبية.
مدخل إضافي
ختاماً، يمكن القول إن حياد تركيا تجاه باشاغا يبدو في جوهره أقرب إلى رسالة دعم مستترة للرجل، خاصة أن باشاغا يبدو أحد الداعمين للانخراط التركي في المشهد الليبي، ناهيك عن أن تركيا تعي أن وصول باشاغا يمكن أن يُشكل مدخلاً إضافياً لمحاولاتها نحو إصلاح العلاقة مع الفواعل الإقليمية والدولية المناهضة لها والمنخرطة في الأزمة الليبية، فضلاً عن إمكانية توظيف باشاغا لتحقيق اختراق جديد في تقاربها مع معسكر شرق ليبيا.