توظيف الضغوط:
كيف تستغل تركيا الأزمات الإقليمية لتعزيز تدخلها بشمال العراق؟

توظيف الضغوط:

كيف تستغل تركيا الأزمات الإقليمية لتعزيز تدخلها بشمال العراق؟



واصلت تركيا عملياتها العسكرية في شمال العراق خلال شهر سبتمبر الجاري. فقد قصفت طائرات تركية، في 11 من هذا الشهر، مواقع تابعة لحزب العمال الكردستاني في مدينة سنجار بشمال العراق، كما أعلنت تحييد 6 من عناصر الحزب بعد نحو أسبوعين. لكن اللافت في هذا السياق، هو أنه على خلاف العمليات العسكرية التي شنتها تركيا في فترات سابقة في شمال العراق، فإنها حرصت في الفترة الحالية على توظيف بعض الأزمات الإقليمية، خاصة في إيران والعراق، لتحقيق أهداف عديدة، ومن دون تحمل تكلفة سياسية كبيرة.

متغيرات عديدة

يمكن القول إن ثمة متغيرات عديدة كان لها دور في دفع تركيا إلى مواصلة عملياتها العسكرية في شمال العراق خلال الفترة الحالية، ويتمثل أبرزها في:

1- انشغال إيران بمواجهة الاحتجاجات: لا تنفصل العمليات العسكرية التركية عن مساعي أنقرة لتوظيف الاحتجاجات الشعبية التي تشهدها إيران منذ 16 سبتمبر الجاري، وتصاعدت حدتها على خلفية وفاة الفتاة الكردية مهسا أميني على أيدي عناصر شرطة الإرشاد الإيرانية. وترى أنقرة أن التوتر في الداخل الإيراني، وما يصاحبه من ارتدادات سلبية على طهران، يوفر لها فرصة لتعزيز تدخلها بشمال العراق، خاصة في ظل انشغال السلطات الإيرانية بمواجهة التظاهرات التي وصلت إلى يومها الثالث عشر. كما أن أنقرة ربما أرادت، على جانب آخر، استغلال قيام الحرس الثوري الإيراني، بداية من 24 سبتمبر الجاري، بشن هجوم على قواعد تابعة لمسلحين أكراد في إقليم كردستان بشمال العراق، اتهمتهم طهران بالضلوع في الاضطرابات الجارية في البلاد. وفي هذا السياق، تعتبر أنقرة أن السياسة الإيرانية التي باتت تركز على الداخل، جنباً إلى جنب مع استهداف الأكراد، توفر بيئة مواتية لتعزيز محاصرة حزب العمال الكردستاني في بعض دول الإقليم من جهة، وتحشيد بعض القوى العراقية ضد المليشيات الموالية لإيران من جهة أخرى.

صحيح أن ثمة اتفاقاً بين أنقرة وطهران بشأن التعامل مع المسألة الكردية، ورفض إقامة دولة مستقلة للأكراد سواء في سوريا أو العراق؛ إلا أن ذلك لا ينفي أن ثمة جهوداً تركية مستمرة لتحجيم نفوذ المليشيات الموالية لإيران في شمال العراق (وحدات الحشد الشعبي، ووكلاء طهران في سنجار) والتي تمثل تحدياً أمام تمدد نفوذ تركيا في المنطقة.

2- استمرار الصراع السياسي في العراق: ترى أنقرة أن الاضطرابات التي يتسع نطاقها على الساحة الداخلية العراقية توفر مناخاً يمكن أن يساعدها في تحقيق أهدافها في شمال العراق، ومواصلة التوغل العسكري لملاحقة حزب العمال الكردستاني من دون التعرض لانتقادات محلية من جانب النخب السياسية التي يصف بعضها الحضور التركي بـ”الاحتلال”.

وبالتوازي مع ذلك، فإن العمليات العسكرية الجارية ضد القرى الكردية التي تمثل بؤراً استراتيجية لحزب العمال الكردستاني في شمال العراق، تأتي في سياق قناعة أنقرة بأن بعض أطراف الأزمة السياسية، وفي مقدمتهم الإطار التنسيقي، في حاجة إلى دور تركي، من أجل بلورة تفاهمات مع حلفائها، لا سيما ائتلاف السيادة والحزب الديمقراطي الكردستاني، لإدارة المرحلة المقبلة بعيداً عن تأثيرات وضغوط التيار الصدري. ويُشار في هذا السياق إلى اللقاء الذي جمع بين السفير التركي لدى بغداد علي رضا غوناي، في 25 سبتمبر الجاري، بمرشح الإطار التنسيقي لرئاسة الوزراء محمد شياع السوداني، على نحو يوحي بأن تركيا تسعى إلى تعزيز دورها في عملية إعادة صياغة الترتيبات السياسية العراقية في خضم تصاعد حدة الأزمة بين الإطار التنسيقي والتيار الصدري.

3- عرقلة قنوات التواصل الكردية: تزامنت الضربات العسكرية التي شنتها تركيا ضد القرى الكردية مؤخراً- وركزت على استهداف مواقع انتشار عناصر حزب العمال الكردستاني- مع محاولات تركية لشن حملة عسكرية جديدة ضد وحدات حماية الشعب الكردية في شمال سوريا، رغم رفض القوى الإقليمية والدولية المنخرطة في الأزمة السورية لهذه الحملة، ومع بروز مؤشرات تزيد من احتمالات تسوية بعض القضايا الخلافية مع النظام السوري، وتعزيز التعاون مع دمشق في مكافحة العناصر الكردية، وهو ما يوحي بأن أنقرة تسعى عبر ذلك إلى عرقلة قنوات التواصل بين المراكز الكردية في تركيا وسوريا وإيران والعراق، بشكل يمكن أن يساهم في تقويض المشروع المحتمل لإقامة دولة كردية بتلك المناطق.

وربما من هنا يمكن تفسير أسباب حرص أنقرة على استهداف البنية التحتية في مناطق تمركز حزب العمال الكردستاني، في ظل قلقها من احتمال توظيفها كأدوات أو نقاط عبور إلى سوريا، على نحو يمكن أن يتسبب في إرباك حساباتها في الدولتين معاً.

4- التأثير على المقاربات الغربية: تمثل الهجمات التركية على عدد من القرى الكردية في شمال العراق محاولة للتأثير على مقاربات الدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية وعدد من دول الاتحاد الأوروبي، ولا سيما فرنسا؛ إذ لا تزال هذه الدول تقدم دعماً لافتاً للمليشيا الكردية في شمال سوريا، وتحاول عبر ذلك تعزيز حضورها في المشهد الإقليمي بشكل عام. وهنا، فإن أنقرة تحاول من خلال الاستناد إلى الخيار العسكري في شمال العراق، التأكيد على أن الرهان على المليشيا الكردية في المنطقة هو رهان خاسر، وأنها ماضية في ملاحقتها من دون الأخذ في الاعتبار التوتر المحتمل في علاقاتها مع هذه الدول.

5- الاستعداد للاستحقاقات الانتخابية القادمة: يُلقي المشهد الداخلي التركي بظلاله على الاستهداف العسكري التركي الأخير لعدد من القرى الكردية في شمال العراق، حيث يسعى الرئيس رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية- الذى يعاني تراجعاً غير مسبوق في شعبيته- إلى تحقيق انتصار خارجي، يمكنهما من تجاوز تحديات الداخل، وخاصة تراجع مؤشرات الاقتصاد، وتهاوي سعر صرف العملة الوطنية (الليرة) بعد أن خسرت ما يقرب من 40 في المائة من قيمتها، فضلاً عن ارتفاع أرصدة الديون الخارجية التي وصلت إلى نحو 132 مليار دولار، وبلوغ التضخم مستوى قياسياً، ليصل إلى ما يقرب من 80 في المائة، وهو ما ترتب عليه تدهور الأوضاع المعيشية. وبالطبع، فإن ذلك لا ينفصل عن محاولة الرئيس والحزب الاستعداد مسبقاً للاستحقاقات الانتخابية القادمة، لا سيما الانتخابات البرلمانية والرئاسية التي سوف تجرى في 18 يونيو 2023، حيث يسعيان عبر استغلال التطورات الإقليمية إلى تعزيز فرصهما في هذه الانتخابات.

تداعيات عكسية

ربما تواجه هذه المقاربة التركية تحديات عديدة خلال المرحلة القادمة، أبرزها أنها قد تفرض تداعيات عكسية. إذ أنها قد تدفع قوى سياسية عديدة في العراق إلى تغيير سياستها تجاهها، على نحو يمكن أن يعرقل محاولاتها تعزيز دورها في الترتيبات السياسية الجديدة. كما أن انشغال إيران بمواجهة الاحتجاجات الداخلية ربما لن يدفعها إلى التغاضي عن التحركات التركية التي قد لا تتوافق مع مصالح وحسابات حلفائها، وهو ما يعني في النهاية أن محاولات تركيا الحصول على مكاسب سياسية من التطورات التي طرأت على الساحة الإقليمية سوف تكون لها حدود على الأرض.