النموذج الأفغاني:
كيف تستغل إيران “طالبان” لدعم حضورها في المنطقة؟

النموذج الأفغاني:

كيف تستغل إيران “طالبان” لدعم حضورها في المنطقة؟



ما زالت إيران حريصة حتى الآن على الدعوة إلى تشكيل حكومة شاملة في أفغانستان تضم كافة المكونات العرقية في البلاد، وقد استغلت انعقاد اجتماع وزراء خارجية الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي الذي عقد في العاصمة الباكستانية إسلام أباد، في 19 ديسمبر الجاري، لتجديد هذه الدعوة، حيث اعتبر وزير الخارجية الإيراني حسين امير عبد اللهيان، خلال لقاءه مع القائم بأعمال وزير خارجية “طالبان” امير خان متقي، أن “تشكيل حكومة شاملة تتكون من جميع المجموعات العرقية يعد عاملاً مهماً للاستقرار والأمن في أفغانستان”.

وفي الواقع، فإن إصرار إيران على مواصلة تبني هذه الدعوة يشير بوضوح إلى أنها ما زالت تبدي مخاوف من تداعيات استفراد “طالبان” بالحكم في أفغانستان، رغم قنوات التواصل المفتوحة بين الطرفين. وربما لا تستبعد في هذا السياق احتمال تجدد التوتر مرة أخرى مع الحركة، على نحو قد يدفع الأخيرة إلى ممارسة ضغوط عليها عبر تهديد مصالحها في أفغانستان.

حسابات مختلفة

رغم ذلك، فإن استفراد “طالبان” بالحكم قد لا يخلو، في رؤية طهران، من تداعيات إيجابية يمكن أن تخدم أدوارها في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما يمكن تفسيره في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:

1- تعزيز دور مليشيا “الحشد الشعبي” في العراق: كان لافتاً أن إيران والمليشيات الموالية لها في المنطقة، لاسيما مليشيا “الحشد الشعبي” في العراق، حرصت على استغلال اجتياح “طالبان” للعاصمة الأفغانية كابول ووصولها إلى السلطة، في منتصف أغسطس الماضي، من أجل الترويج إلى ضرورة الحفاظ على دورها للحيلولة دون تكرار هذا السيناريو في العراق.

وبمعنى آخر، فإن مليشيا “الحشد الشعبي” باتت تعتبر أن الاستجابة للدعوات التي توجهها بعض القوى السياسية الداخلية والخارجية الخاصة بحلها- على غرار الدعوة التي تبناها زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر في 8 ديسمبر الجاري بـحل ما أسماه “المليشيات المنفلتة” وحصر السلاح بيد الدولة- يمكن أن يمهد المناخ أمام وصول تنظيم متطرف إلى الجكم على غرار ما حدث في أفغانستان، بعد أن اختفى الجيش الأفغاني في أعقاب سيطرة “طالبان” على الحكم، وهو نموذج مشابه لما حدث في العراق في منتصف عام 2014 عندما اجتاح تنظيم “داعش” مساحات واسعة من البلاد دون مقاومة تذكر من جانب الجيش العراقي.

2- إضفاء زخم خاص على النفوذ الإيراني في سوريا: ويعود ذلك لاعتبارات داخلية إيرانية في المقام الأول. إذ يواجه النظام الإيراني انتقادات قوية في الداخل انعكست في الاحتجاجات التي تشهدها إيران بين الحين والآخر، والتي باتت تتعمد المكونات التي تنظمها الربط بين تفاقم حدة الأزمات الداخلية، على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، وبين استنزاف الموارد الإيرانية في دعم الحلفاء في منطقة الشرق الأوسط. وهنا، فإن النظام يحاول احتواء هذه الاعتراضات من خلال آليات عديدة، يأتي في مقدمتها الترويج إلى أن نفوذه العسكري في سوريا، ودعمه للمليشيات التي انخرطت في الصراع السوري إلى جانب القوات النظامية، يحمي المصالح والأمن القومي الإيراني، باعتبار أن إيران في هذا السياق تحارب الإرهابيين في دمشق قبل أن يصلوا إلى طهران، وهى الرواية التي تبناها العديد من المسئولين الإيرانيين وعلى رأسهم المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي.

3- فتح قنوات تواصل أمنية مع الدول الغربية: رغم أن التوتر أصبح السمة الرئيسية للعلاقات بين إيران والدول الغربية، إلا أنها لا تتوانى عن استغلال أى فرصة للحفاظ على قنوات تواصل مع تلك الدول. وهنا، فإنها ترى أن “محاربة الإرهاب” هى المدخل الرئيسي الذي يمكن من خلاله تحقيق ذلك. وبالطبع، فإن إيران تهدف عبر هذه القنوات إلى تقليص حدة الضغوط المفروضة عليها بسبب تدخلاتها الإقليمية والاتهامات الموجهة لها بدعم الإرهاب، فضلاً عن تعزيز احتمالات مشاركتها في الترتيبات السياسية والأمنية التي يجري العمل على صياغتها في المنطقة، بمشاركة تلك القوى.

4- ممارسة ضغوط عبر ورقة اللاجئين الأفغان: تحاول إيران استغلال المخاوف الأوروبية من تفاقم أزمة اللاجئين الأفغان، بعد سيطرة “طالبان” على السلطة، من أجل ممارسة ضغوط على تلك الدول، سواء لاستيعاب مصالحها في الترتيبات السياسية والأمنية بالمنطقة، أو لتعزيز موقعها التفاوضي في مواجهة الدول الغربية خلال مفاوضات فيينا التي تتواصل جولاتها في الوقت الحالي من أجل الوصول إلى صفقة جديدة تعزز من احتمال استمرار العمل بالاتفاق النووي. وقد كان لافتاً في هذا السياق، أن إيران حاولت في فترات سابقة استغلال وجود اللاجئين الأفغان على أراضيها للرد على سياسة “الضغوط القصوى” التي تبنتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، حيث قال مساعد وزير الخارجية للشئون السياسية رئيس وفد التفاوض النووي السابق عباس عراقجي، في 9 مايو 2019، أن “إيران ستدعو المهاجرين الأفغان إلى مغادرة البلاد إذا ما توقفت صادراتها النفطية”. وهنا، فإن إيران ربما تعيد التلويح بتلك الورقة مرة أخرى، لاسيما مع احتمال عدم تراجع حدة التوتر في العلاقات مع الدول الغربية حتى لو انتهت مفاوضات فيينا بالوصول إلى صفقة.

5- استغلال المفاوضات الأمريكية مع “طالبان”: اعتبرت طهران أن السياسة التي تبنتها الولايات المتحدة الأمريكية في التعامل مع حركة “طالبان” يمكن أن تساعد في تقليص حدة الضغوط التي تتعرض لها المليشيات الموالية لها في المنطقة، ولاسيما حزب الله اللبناني. وهنا، فإن الرسالة واضحة ومفادها أنه إذا كانت واشنطن اتجهت إلى التفاوض مع “طالبان”، فإن المقاربة نفسها يمكن أن يتم تبنيها، في مرحلة لاحقة، مع تلك المليشيا، باعتبار أن لها دور سواء على الساحة الداخلية في لبنان، أو على الساحة الإقليمية، في ظل انخراط الحزب في الصراع السوري. ورغم أن هذه المقاربة تواجه عقبات عديدة في الوقت الحالي، فإن إيران قد تحاول استغلالها في حالة ما إذا نجحت في الوصول إلى صفقة نووية في فيينا.

6- شن حملة قوية ضد السياسات الأمريكية في المنطقة: حرصت طهران على استغلال الطريقة التي تم بها الانسحاب الأمريكي من أفغانستان لشن حملة قوية ضد السياسات الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط بشكل عام. إذ جددت مرة أخرى التركيز على أن تلك السياسات كانت السبب الرئيسي في تفاقم حدة الأزمات داخل العديد من دول المنطقة، مثل العراق وأفغانستان، وأن مواجهة الفوضى في المنطقة يتطلب انخراط دولها في ترتيبات سياسية وأمنية فيما بينها. وقد بدا ذلك جلياً في تصريحات الرئيس إبراهيم رئيسي خلال اتصال هاتفي مع نظيره التركي رجب طيب اردوغان، في 8 ديسمبر الجاري، حيث قال أن “مشاكل المنطقة يجب أن تحل من الداخل وبمشاركة فاعلة من دول المنطقة”، مشيراً إلى أنه “لا حاجة للتدخل الأجنبي”.

تدخلات مستمرة

على ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن إيران لن تتوانى عن استغلال أية فرصة من أجل تعزيز حضورها في المنطقة، الذي لا يبدو أنها سوف تتراجع عنه، رغم الضغوط القوية التي تتعرض لها بسبب ذلك، ورغم الجهود التي تبذلها القوى الدولية التي تتفاوض معها في فيينا من أجل دفعها إلى الموافقة على إجراء مفاوضات لاحقة حول الملفات الخلافية الأخرى، لاسيما برنامج الصواريخ الباليستية والتدخلات الإقليمية، وهو ما لا يبدو أنه يتوافق مع مصالح وحسابات إيران في المرحلة الحالية.