دبلوماسية الطاقة:
كيف تساهم ورقة النفط في احتواء التوتر العراقي-التركي؟

دبلوماسية الطاقة:

كيف تساهم ورقة النفط في احتواء التوتر العراقي-التركي؟



تسعى العراق إلى إبرام اتفاق مع تركيا لضمان إعادة تصدير النفط من شمال العراق إلى ميناء جيهان التركي بعد توقفه في مارس الماضي على خلفية إصدار غرفة التجارة الدولية في باريس حكماً في دعوى قضائية أقامتها بغداد في عام 2014، قضى بمنع إقليم كردستان من تصدير نفطه مباشرة إلى تركيا. وكانت بغداد قد اتهمت حكومة أنقرة بانتهاك اتفاق مشترك بالسماح لأربيل بتصدير النفط. إذ تعتبر الأولى صادرات النفط من جانب حكومة الإقليم غير قانونية. وتسبب توقف الصادرات طوال تلك المدة في خسائر بنحو مليار دولار، لا سيما وأن النفط يمثل “الرئة” الاقتصادية للإقليم الذي كان يصدر يومياً 475 ألف برميل عبر ميناء جيهان التركي. وفي سياق محاولة تجاوز الأزمة مع تركيا، أعلن وزير النفط العراقي حيان عبد الغني، في 11 مايو الجاري، أن بلاده أبلغت تركيا باستئناف عمليات تصدير النفط من المنفذ الشمالي عبر ميناء جيهان، إلا أنه لم تتخذ خطوات عملية بعد في هذا الصدد.

خلافات عالقة

تتزامن مساعي العراق لحل أزمة تصدير نفط إقليم كردستان، مع تصاعد القضايا الخلافية في العلاقات التركية-العراقية، وأهمها مطالبة بغداد حكومة أنقرة بتسديد غرامة مالية تتجاوز 1.8 مليار دولار بسبب سماحها بتصدير نفط شمال العراق من دون تنسيق مع السلطة المركزية في بغداد، وهو ما شكك فيه وزير الطاقة التركي فاتح دونميز في مارس الماضي. كما لا يزال التوتر عنواناً بارزاً بين البلدين بسبب تصاعد أزمة المياه في العراق، وتراجع مناسيب المياه في نهري دجلة والفرات. وتتهم بغداد حكومة أنقرة بالتسبب في تفاقم هذه الأزمة بسبب السدود التي أقامتها على النهرين. ويُشار في هذا السياق، إلى أنه في 7 مايو الجاري، أكد رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني أن انخفاض مناسيب مياه نهري دجلة والفرات يستدعي تدخلاً دولياً عاجلاً.

بالتوازي مع ذلك، وصل التوتر إلى مستوى غير مسبوق بين البلدين على خلفية استمرار المطالب العراقية بضرورة سحب القوات العسكرية التركية من شمال العراق، والتي تعتبرها أنقرة نقطة استناد أساسية في محاربة حزب العمال الكردستاني الذي تصنفه الأخيرة إرهابياً، وتدعو بغداد إلى ضرورة اتخاذ تدابير إجرائية لمحاصرته من خلال التماهي مع الجهود التركية التي تستهدف عرقلة المشروع الكردي في الإقليم.

مكاسب متبادلة

على الرغم من أن هذه الملفات الشائكة تفرض تداعيات سلبية على العلاقات العراقية-التركية، إلا أن ورقة النفط يمكن أن تشكل قوة دفع لتطور العلاقات، وتحقيق جملة من المكاسب المتبادلة بين البلدين، يمكن تناولها على النحو التالي:

1- تعزيز العلاقات الاقتصادية الثنائية: يُمثل الاقتصاد رافعة للعلاقات العراقية-التركية، ومدخلاً مهماً لترسيخ المكاسب المتبادلة في هذا التوقيت، حيث تواجه الدولتان تراجعاً لافتاً في مؤشرات الاقتصاد، وظهر ذلك في تدهور سعر صرف الدينار العراقي والليرة التركية، بالإضافة إلى صعود معدلات التضخم والبطالة. وفي الوقت الذي يتوقع أن يتأثر الاقتصاد العراقي بشكل أكبر خلال الفترة المقبلة في ضوء تصاعد قضايا الفساد، وتنامي حدة الاستقطاب السياسي في الداخل، لا تزال تركيا تعاني من تراجع الأوضاع المعيشية، خاصة في ظل محدودية نتائج الحلول التقليدية التي طرحتها حكومة العدالة والتنمية للتعامل مع الأزمة الاقتصادية.

بالتوازي مع ذلك، لدى الدولتين رغبة في تعزيز الاستفادة من مواردهما المشتركة، إذ تراهن العراق على توظيف الشركات التركية في تسريع وتيرة عمليات إعادة إعمار المناطق المتضررة من عنف تنظيم “داعش”، كما تسعى تركيا إلى توسيع نطاق مشاركتها في تلك العمليات لما يمكن أن تنتجه من تداعيات إيجابية على اقتصادها.

2- محاصرة المشروع الكردي العابر للحدود: لا يمكن إغفال الملف الكردي في فهم حرص أنقرة على ألا تصل إلى حد القطيعة مع بغداد، وذلك في ضوء رغبة الأولى في محاصرة المشروع الكردي العابر للحدود، واستكمال الإجراءات التي اتخذتها على صعيد محاربة حزب العمال الكردستاني في الشمال العراقي، وكذلك السعي للتضييق على أكراد الداخل، خاصة بعد الدعم العلني لحزب الشعوب الديمقراطي الكردي في تركيا لمنافس الرئيس رجب طيب أردوغان رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كليتشدار أوغلو في الانتخابات التي أجريت في 14 مايو الجاري، وأسفرت عن جولة إعادة سوف تجرى في 28 من الشهر ذاته.

ويبدو أن التوجه التركي نحو تطوير العلاقات مع العراق سوف يتصاعد خلال المرحلة القادمة، ولا سيما في ظل استمرار الغارات الجوية التركية على مواقع حزب العمال الكردستاني في شمال العراق. ولا يمكن فصل ذلك من دون شك عن تصاعد القلق التركي من استمرار الدعم الأمريكي لأكراد سوريا. ومن هنا، يبدو أن أنقرة قد تتجاوب خلال المرحلة المقبلة مع المطلب العراقي بإعادة تصدير النفط العراقي عبر ميناء جيهان التركي، وذلك في إطار محاولات تركيا قطع الطريق على الجهود الغربية الداعمة للمشروع الكردي في المنطقة، وذلك من خلال بناء تحالف إقليمي لمواجهة التحركات الكردية عبر تحسين العلاقات مع الحكومة المركزية في بغداد.

3- توسيع نطاق التنسيق الأمني: لا تنفصل مساعي تطوير العلاقات بين أنقرة وبغداد عن رغبتهما في توسيع نطاق التنسيق لمواجهة التهديدات الأمنية. فبينما تراهن أنقرة على توظيف العلاقات مع بغداد لمحاصرة مقاتلي حزب العمال الكردستاني في شمال العراق، تبدو الأخيرة بحاجة إلى تعزيز تفاهماتها الأمنية مع دول الجوار، وخاصة تركيا، وذلك بعدما تمكنت عناصر تنظيم “داعش” طوال الفترة الماضية من التسلل بين “المناطق الرخوة” في العراق، ولا سيما في مناطق ديالى وكركوك وصلاح الدين، وباتجاه مناطق شمال بغداد، إضافةً إلى قدرة التنظيم على التكيف مع المتغيرات الميدانية التي طرأت على الساحة العراقية.

4- تلبية الاحتياجات النفطية لتركيا: يمثل النفط أحد المتغيرات المهمة في تعزيز التقارب العراقي-التركي، وخاصة في ظل سعي أنقرة لتأمين بدائل آمنة لتوفير احتياجاتها من مصادر الطاقة، بعد تصاعد العقوبات الغربية على قطاع الطاقة الروسي. لذلك، يتوقع أن تتخذ أنقرة بعد انتهاء الانتخابات الحالية، خطوات عملية نحو معالجة ملف تصدير نفط كردستان عبر ميناء جيهان، خاصة أنها سوف تحصل على عمولات مالية من جهة، وستتمكن من تأمين احتياجاتها النفطية، حال حدوث انقطاع من وارداتها الغازية من موسكو من جهة أخرى.

5- استثمار التطورات الجديدة في المنطقة: تعي أنقرة وبغداد أن تقاربهما في المرحلة الحالية يمكن أن يوفر بيئة خصبة لتعزيز نفوذهما الإقليمي، وخاصة في ظل سياقات مغايرة تشهدها المنطقة، ترتبط بالتوجه نحو التهدئة وتعزيز الجهود المبذولة للوصول إلى تسويات سياسية للأزمات المختلفة، وكلها متغيرات تدفع نحو ضرورة دعم العلاقات العراقية-التركية. وهنا، يمكن فهم زيارة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني إلى تركيا في 21 مارس الماضي، وكذلك موافقة أنقرة على زيادة كميات المياه للعراق.

متغيرات متداخلة

في الختام، يمكن القول إن جهود العراق لإعادة تصدير نفط إقليم كردستان عبر ميناء جيهان التركي قد تجد استجابة تركية خلال المرحلة المقبلة، ولا سيما في ظل حرص الدولتين على دفع العلاقات الثنائية نحو آفاق أوسع، فضلاً عن حاجة أنقرة إلى تأمين المزيد من مواردها النفطية بسبب احتمال إطالة الحرب الروسية-الأوكرانية، والخوف من تأثير العقوبات الغربية على صادرات الطاقة الروسية. غير أن ما سبق لا يعني غياب التوتر، فلا تزال ثمة قضايا خلافية تؤثر على مستوى العلاقات الثنائية، ويمكن أن تسهم في نشوب أزمة، ومنها ملف المياه، والتدخل العسكري التركي في شمال العراق.