تسببت الصراعات التي انتشرت بسوريا، منذ مارس بعام 2011، في اضطراب مراكز السلطة، وعدم قدرتها على السيطرة على الأطراف المحلية، فتُركت تلك المناطق لإعادة تنظيم نفسها. وهنا تدخلت مجموعة من الأطراف الدولية والإقليمية للعب دور في المشهد السوري. وقد كانت تركيا من بين تلك الأطراف، حيث جمعت بين استراتيجيات التدخل العسكري أحيانًا، واستراتيجيات الاحتواء وإعادة الإعمار والتأثير على أوضاع الأكراد السوريين في أحيان أخرى، ساعيةً لإحداث تغييرات ديموغرافية في مناطق شمال سوريا، بهدف اكتساب نفوذ جيوسياسي يُمكّنها من لعب دور أكبر على الساحة الإقليمية والدولية.
التأثير الديموغرافي
تستخدم تركيا مفهوم “التتريك Turkification” الذي نشأ على يد الشباب الأتراك في القرن العشرين، ويدور حول توسيع نفوذ الإمبراطورية العثمانية خارج حدود الدولة التركية، ومحاولة التأثير على الحقوق المدنية والثقافية للعرب والأكراد وغير المسلمين، ويتم ذلك من خلال اتّباع مجموعة من الإجراءات تتمثل في فرض الإدارة التركية والتأميم الاقتصادي والاستيعاب الثقافي، مع جعل السلطة المركزية بيد تركيا، التي تتجه بدورها لهندسة المعايير والإجراءات اللازمة لتحقيق التتريك داخل المناطق المبتغاة.
وتسير تركيا متجهة من أعلى لأسفل عند تطبيق هذا المفهوم في مناطق شمال سوريا، حيث تقوم بتوظيف أدوات سياسية ومدنية للتأثير على ممارسة الحقوق من قبل المواطنين السوريين، من بينهم الأكراد والموالون للحكومة، كما تستخدم الموارد الاقتصادية الموجودة بمناطق شمال سوريا لتحقيق هدفين رئيسيين: أحدهما تنفيذ مشاريع إعادة الإعمار ومساعدة السوريين، والآخر يتمثل في استخدام هذه المشاريع لتحقيق نمو اقتصادي على المستوى المحلي التركي.
وتلجأ تركيا لتنفيذ مشروعات إعادة الأعمار اعتمادًا على اقترابين؛ يتمثل الأول في “الاقتراب القائم على الموافقة“، حيث يتم التعاون مع السكان المحليين أنفسهم والحصول على موافقتهم وتعاونهم عند تنفيذ تلك المشروعات. وقد فعلت تركيا ذلك عقب عملية “درع الفرات” في عام 2016، حينما تعاونت مع التركمان والسُنة في مدن أعزاز وجرابلس لإنشاء مشروعات اقتصادية استثمارية، مما ساعد على تحقيق نمو اقتصادي انعكس إيجابيًا على كافة الأطراف.
أما الاقتراب الثاني، فهو اقتراب أمني عسكري، يهدف لإنشاء مناطق عازلة والحفاظ على المكاسب المُحققة، وقد تم استخدامه عقب عملية “غصن الزيتون” في عفرين في عام 2018، وواجهت تركيا صعوبات أثناء تطبيقه نتيجة لوجود الأكراد، مما تسبب في زيادة اضطرابات الأوضاع الأمنية في شمال سوريا، خصوصًا أن تركيا عملت على دعم جماعات أحرار الشرقية وفرقة السلطان مراد وفيلق الشام لمواجهة الأكراد. وطبّقته تركيا مجددًا في عملية “درع الربيع” في إدلب خلال شهر مارس 2020 لمنع تقدم قوات النظام السوري بالمدينة.
فضلًا عما سبق، تسعى تركيا لتعزيز حضورها ونفوذها داخل المجالس المحلية في شمال غرب سوريا، عبر جعل تلك المجالس معتمدة كليًا على الدعم السياسي والاقتصادي والثقافي الذي تقدمه الحكومة التركية. هذا وقد عملت تركيا على فرض استخدام اللغة التركية كلغة رسمية داخل المؤسسات الحكومية السورية في منطقة شمال سوريا. كما تعمل على نشر تعليم اللغة التركية في المدارس الابتدائية، بحيث تتحول المنطقة لاحقًا للاعتماد على اللغة التركية بشكل كلي.
إضافة إلى ذلك، تلجأ تركيا لنشر مسؤولين سوريين ورجال دين تلقوا تعليمهم في تركيا لضمان الموالاة لتركيا. هذا وقد سمحت تركيا بإصدار بطاقات هوية تحمل أرقامًا تركية للمواطنين السوريين داخل مدينة أعزاز بشمال سوريا، وتم السماح بدفع الفواتير الخدمية باستخدام الليرة التركية، وهو ما ساهم في توطين آلاف اللاجئين، وفي زيادة التواجد التركي بالمنطقة.
أدوات رئيسية
استغلت أنقرة الاتفاق مع روسيا على وقف إطلاق النار في إدلب خلال شهر مارس 2020، والذي نص على إنشاء ممرات آمنة، وتسيير دوريات روسية تركية مشتركة، لتقوم بتنفيذ مخططاتها الخاصة، حيث سعت لدعم الجماعات المسلحة داخل شمال سوريا مثل “جبهة فتح الشام”، وجماعات أخرى في إدلب. وأنشأت تركيا نحو خمس نقاط تمركز عسكري في ريف إدلب الغربي، ليصبح مجموع المراكز التي تسيطر تركيا عليها نحو 57 نقطة تمركز عسكري تقع في شمال غرب سوريا باللاذقية وحماة وإدلب وحلب.
ويوفر تعميق التواجد العسكري لتركيا مساحة مضمونة للعب دور أوسع داخل شمال سوريا، ومنع قوات نظام “بشار الأسد” من إعادة إحكام السيطرة على تلك المدن، ومن ثم تحقيق تواجد تركي ميداني أكبر داخل المدن، يسمح بحدوث “تغييرات ديموغرافية” تتوافق مع المصالح التركية. ولذلك تلجأ تركيا بالتزامن مع التواجد العسكري، بحسب العديد من التقارير، إلى استخدام “التهجير القسري” للسكان واللاجئين، كما حدث في مناطق الغوطة الشرقية، والقلمون الشرقي، وريف حماة الجنوبي، وريف دمشق الجنوبي، وريف حمص الشمالي، وكذا مدينة عفرين التي هُجِّر منها نحو 150 ألف كردي في عام 2018.
وتتسبب عمليات التهجير القسري ونقل السكان لمدينة معينة دون مراعاة للهوية والطائفية لاحقًا في حدوث صراعات وانقسامات بين السكان. فالمحاولات التركية المستمرة للضغط على الأكراد وتهجيرهم من شمال سوريا، وهي العملية التي زادت عقب الانسحاب الأمريكي من شمال سوريا؛ تسببت في لجوء الأكراد وتحديدًا “قوات سوريا الديمقراطية الكردية” لحكومة الرئيس السوري “بشار الأسد” لدعمهم أثناء صراعهم مع تركيا، وهو ما ينتج عنه طول أمد الاضطرابات داخل المدن الشمالية السورية.
جدير بالذكر أن روسيا استغلت غياب الولايات المتحدة الأمريكية أيضًا، وساعدت تركيا على إنشاء مناطق آمنة خالية من “وحدات حماية الشعب الكردية” في المناطق التي تمتد من “رأس العين” إلى “تل أبيض” على الحدود السورية التركية، وذلك بهدف إعادة توطين نحو 2 مليون لاجئ سوري يعيشون في تركيا، وهذا كله يساهم في زيادة تأزيم المشهد السوري.
وختامًا، يمكن ملاحظة أن المجتمع الدولي لا يُبدي ردة فعل قوية إزاء تلك التغييرات الديموغرافية، نظرًا لأنه يصب تركيزه على تهدئة الصراع، ولم يفكر بعد بمرحلة ما بعد انتهاء الصراع، وعمليات إعادة الإعمار داخل الدولة السورية. ولكن عقب انتهاء الصراعات ووضوح المشهد السوري، ستظهر مجتمعات سورية جديدة ذات تركيبات سكانية مختلفة تميل لتركيا. كما ستظهر مجتمعات سكانية مشحونة بالغضب نتيجة لممارسات أثرت على أوضاعها الديموغرافية، مما يعني وجود بيئة غير آمنة أو مستقرة مستقبلًا داخل الدولة السورية.