انخراط اضطراري:
كيف تتعامل واشنطن مع التطورات الأفغانية؟

انخراط اضطراري:

كيف تتعامل واشنطن مع التطورات الأفغانية؟



عقب قيام إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن بتنفيذ الاتفاق الذي أبرمته إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب مع حركة “طالبان”، وانسحاب آخر جندي أمريكي في ٣١ أغسطس الماضي من أفغانستان قبل حلول الذكرى العشرين لأحداث 11 سبتمبر 2001، واجهت الولايات المتحدة الأمريكية اتهامات بالتخلي عن التزاماتها الأمنية والاستراتيجية خاصة في دول مثل أفغانستان والعراق. إلا أن الخطوات التي اتخذتها الإدارة، بعد ثلاثة أشهر من الانسحاب، تكشف أنها لا تزال تبدي اهتماماً خاصاً باستقرار أفغانستان، لمنع تحولها إلى ملاذ آمن للتنظيمات الإرهابية مجدداً، والحفاظ على المكتسبات التي حصل عليها الأفغان، لاسيما النساء، خلال العقدين الأخيرين، رغم عدم وجود قوات عسكرية لها على الأرض ورغم أن حركة “طالبان” لم توجه من الرسائل ما يشير إلى أنها تتجاوب مع ذلك. وقد بدا ذلك جلياً في خطوات عديدة اتخذتها الإدارة الأمريكية مؤخراً على غرار اللقاء الذي عقد بين وفد أمريكي ومسئولين من الحركة في 29 و30 نوفمبر الفائت، وفرض عقوبات على قادة من تنظيم “ولاية خرسان” في 22 من الشهر نفسه.

مرتكزات رئيسية

استندت استراتيجية الإدارة الأمريكية للتعامل مع تطورات الأوضاع في أفغانستان في أعقاب عملية الانسحاب من أطول حرب في التاريخ الأمريكي، وما صاحبها من فوضي، على جملة من المرتكزات الرئيسية، والتي يتمثل أبرزها فيما يلي:

1- تعزيز التعاون مع الحلفاء: بالنظر إلى البيئة الأمنية غير المستقرة والوضع السياسي في أفغانستان في أعقاب سيطرة حركة “طالبان”، في ١٤ أغسطس الماضي، على السلطة وقبل إتمام الولايات المتحدة الأمريكية عملية سحب قواتها العسكرية، علّقت الأخيرة أنشطتها الدبلوماسية في كابول ونقلتها إلى عواصم أخرى، تدير واشنطن من خلالها عملية تقديم المساعدات الإنسانية لأفغانستان، بالتوازي مع توسيع نطاق التنسيق مع الحلفاء والشركاء للتعامل مع تطورات الأوضاع في أفغانستان. وقد بدا ذلك جلياً في المساعدات التي قدمتها الدول الحليفة في عملية إجلاء الرعايا الأمريكيين والأجانب والأفغان من أفغانستان إلى دول أخرى منها الولايات المتحدة الأمريكية.

2- فتح قنوات تواصل مع “طالبان”: حرصت الإدارة الأمريكية على التنسيق مع حركة “طالبان”، من أجل الحفاظ على المكتسبات التي حققتها في أفغانستان خلال العقدين الماضيين، وهو ما بدا جلياً في اللقاءات التي عقدها عدد من مسئوليها مع كبار المسئولين في الحركة منذ إتمام عملية الانسحاب. إذ ترأس الممثل الأمريكي الخاص لأفغانستان توماس ويست، في ٢٩ و٣٠ نوفمبر الفائت وفداً أمريكياً رفيع المستوى ضم ممثلين عن وزارة الخارجية والخزانة والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية والمجتمع الاستخباراتي، للاجتماع مع ممثلي حركة “طالبان” في الدوحة، وذلك لمناقشة المطالب الأمريكية من الحركة، والتي تتمثل في وفائها بعدم السماح لأى شخص بتشكيل تهديد ضد أى دولة من الأراضي الأفغانية، وتوفير ممر آمن للمواطنين الأمريكيين والأفغان، وحماية كافة حقوق المواطنين الأفغان.

3- الحفاظ على مكتسبات الأفغان: في ردٍ على الانتقادات العديدة للإدارة الأمريكية بأن عملية الانسحاب غير المخطط لها أدت إلى تبديد المكاسب التي حققتها الولايات المتحدة الأمريكية في أفغانستان خلال العقدين الماضيين، أكد الرئيس جو بايدن وأعضاء إدارته أن الولايات المتحدة الأمريكية ستواصل الضغط من أجل الحفاظ عليها، واحترام حركة “طالبان” لحقوق وحريات النساء والفتيات. وفي هذا السياق، تدعو الإدارة المجتمع الدولي إلى “الحديث بصوت واحد” حول أفغانستان والاستفادة من النفوذ المشترك للضغط على الحركة، ولاسيما في وقت تسعى الأخيرة للحصول على اعتراف دولي بشرعيتها كسلطة حاكمة في أفغانستان، ومن ثم تدفق المساعدات الدولية لتعزيز قدرتها على التعامل مع تحديات الداخل، على نحو قد يمكنها من دعم نفوذها وشرعيتها داخلياً.

4- مواجهة تهديدات التنظيمات الإرهابية: لا تزال واشنطن ملتزمة بالعمل على منع تحول الأراضي الأفغانية، في أعقاب الانسحاب الأمريكي، إلى منصة للتنظيمات الإرهابية لاستهداف الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها. ومن هنا، أكدت إدارة بايدن أنها ستحتفظ بقدرات قوية لمكافحة الإرهاب في المنطقة لتحييد أى تهديد، وأنها لن تتردد في استخدامها إذا ما توجب عليها القيام بذلك.

وعلى الرغم من النجاحات الأمريكية في تقويض نفوذ تنظيم “القاعدة” في أفغانستان وحول العالم، بعد مقتل زعيمه السابق أسامة بن لادن، فإن بعض العسكريين الأمريكيين، وفي مقدمتهم الجنرال مارك ميلي رئيس هيئة الأركان المشتركة، يحذرون من أن التنظيم في أفغانستان قد يمثل تهديداً للولايات المتحدة الأمريكية في أقل من ١٢ شهراً، في وقت لم تقطع حركة “طالبان” علاقاتها مع التنظيم الإرهابي حتى الآن، وفقاً لشهادة ميلي بلجنة الخدمات المسلحة الأمريكية بمجلس الشيوخ في ٢٨ سبتمبر الماضي عن السياسة الأمريكية في أعقاب الانسحاب الفوضوي من أفغانستان.

واتساقاً مع النهج الأمريكي باستخدام جميع أدوات القوة لاستهداف الإرهابيين الذين يخططون لعمليات إرهابية، وأيضاً من يقدمون لهم الدعم والتمويل سواء كانوا دولاً أو أفراد، فرضت الإدارة الأمريكية، في ٢٢ نوفمبر الفائت، عقوبات على ثلاثة من قادة تنظيم “داعش” في أفغانستان (ولاية خرسان)، المسئول عن العديد من العمليات الإرهابية التي شهدتها أفغانستان مؤخراً، والتي أدت إحداها إلى مقتل ١٣ جندياً أمريكياً في ٢٦ أغسطس الماضي، وهو ما يكشف عن استمرار التزام واشنطن باستخدام كل ما لديها من أدوات مكافحة الإرهاب لمواجهة التهديد الذي يشكله تنظيم “ولاية خرسان”، ولضمان عدم عودة الأراضي الأفغانية لتكون منصة للإرهاب الدولي مرة أخرى.

5- تقديم المساعدات الإنسانية للأفغان: مع تدهور الأوضاع الإنسانية في أفغانستان في أعقاب سيطرة حركة “طالبان” على السلطة، أعلنت الإدارة الأمريكية عن تقديم ما يقرب من ٦٤ مليون دولار كمساعدة إنسانية جديدة للأفغان المتضررين من الأزمة الإنسانية المستمرة. وبهذا التمويل الإضافي، تكون الولايات المتحدة الأمريكية قد قدمت ما يقرب من ٣٣٠ مليون دولار لمساعدة الشعب الأفغاني خلال السنة المالية ٢٠٢١ فقط. وبذلك يبلغ إجمالي المساعدات الإنسانية الأمريكية إلى أفغانستان واللاجئين الأفغان ما يقرب من ٤ مليار دولار منذ عام ٢٠٠٢. وبجانب تقديم المساعدات لتحسين أوضاع الأفغان، ومساعدة بعض دول الجوار على استضافة المزيد من اللاجئين الأفغان، تؤكد الإدارة أنها ستعمل مع المجتمع الدولي لضمان متابعة حركة “طالبان” لالتزاماتها بوصول المساعدات الإنسانية دون عوائق، وحرية تنقل العاملين في مجال المعونة، وسلامة وأمن الموظفين الدوليين.

6- نقل الأمريكيين والشركاء للخارج: بعد أكبر عملية إجلاء جوي في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية خلال أسبوعين لما يقرب من ١٢٠ ألف من المواطنين الأمريكيين والأفغان الذين تعاونوا مع قوات التحالف الدولي في أفغانستان، لا تزال الإدارة الأمريكية ملتزمة ببذل الجهود لمساعدة الأمريكيين والشركاء الأفغان والرعايا الأجانب على مغادرة أفغانستان، وهو ما يتوازى مع اتخاذ إجراءات عديدة للإسراع في عملية إدماج ما يقرب من ٧٠ ألف أفغاني انتقلوا للولايات المتحدة الأمريكية منذ ٣٠ يوليو الماضي في المجتمع الأمريكي، حيث أعلنت وزارة الأمن الداخلي الأمريكية أن الإدارة قررت تبسيط إجراءات الهجرة للاجئين الأفغان.

خيار آخر

تكشف مؤشرات عديدة أن حكومة “طالبان” لن تكون شريكاً للولايات المتحدة الأمريكية في منع تحول الأراضي الأفغانية لملاذ آمن للتنظيمات الإرهابية، والذي يعد أحد أهم المتغيرات التي تدفع واشنطن إلى مواصلة اهتمامها بمتابعة التطورات التي تجري على الساحة الأفغانية. ومن هنا، دعا العديد من المسئولين العسكريين، وفي مقدمتهم الجنرال ريتشارد كلارك قائد قيادة العمليات الخاصة الأمريكية، الإدارة الأمريكية إلى مواصلة العمل مع الأفغان والحكومات الأجنبية الأخرى هناك، وجمع المعلومات الاستخباراتية من مصادر ميدانية داخل أفغانستان من أجل استهداف تنظيم “ولاية خراسان” وتعطيل أنشطته الإرهابية. ومع ذلك، فإن الجهود الأمريكية في حقيقة الأمر ستواجه عقبات عدة مع غياب الوجود العسكري الأمريكي على أراضي أفغانستان.