حضور متجدد:
كيف تتعامل بريطانيا مع أزمات الشرق الأوسط؟

حضور متجدد:

كيف تتعامل بريطانيا مع أزمات الشرق الأوسط؟



فرض خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تداعيات عديدة كان من أبرزها اتجاه الأولى إلى تبني سياسة خارجية نشطة ومختلفة، في بعض الأحيان، عن تلك التي تتبعها القوى الأوروبية الرئيسية داخل الاتحاد تجاه منطقة الشرق الأوسط وأزماتها. إذ لم تعد لندن ملتزمة بالسياسات الأوروبية إزاء المنطقة، بالتوازي مع سعيها إلى تعزيز علاقاتها الاقتصادية والعسكرية مع حلفائها التقليديين في الشرق الأوسط لتعويض الخسائر التي تتكبدها جراء خروجها من الاتحاد. وعلى الرغم من حرص بريطانيا على التماهي مع الاهتمام الأمريكي بمنطقة الإندو-باسيفيك، فإن ذلك لا ينفي أن اهتمامها بمنطقة الشرق الأوسط لم يتراجع، لاسيما أن تطورات المنطقة بقدر ما توفر لها، وفقاً لاتجاهات عديدة، فرصاً تسعى إلى اغتنامها، فإنها تفرض تهديدات لا يمكن تجاهلها لأمنها ومصالحها.

مؤشرات مختلفة

تصاعد الدور البريطاني في قضايا وأزمات الشرق الأوسط على نحو لافت خلال الشهور الأخيرة، في إطار سعى لندن، في أعقاب خروجها من الاتحاد الأوروبي، إلى تعزيز مكانتها ودورها على مستوى العالم، ولاسيما في المنطقة بعد سنوات من الغياب، أو الانخراط بشكل عَرَضي فيها، وهو ما يبدو جلياً في مؤشرات عديدة يتمثل أبرزها في:

1- الانخراط في الجدل حول تأجيل الانتخابات الليبية: في الوقت الذي يبدي الشارع الليبي قلقاً واضحاً من تداعيات تأجيل الانتخابات التي كان مقرراً لها في ٢٤ ديسمبر الجاري لأسباب قالت مفوضية الانتخابات أنها تخص عدم الانتهاء من مراجعة قوائم المرشحين، نشرت السفارة البريطانية في ليبيا بياناً، في اليوم الذي كان من المفترض أن تُجرى فيه الانتخابات، يؤكد على استمرار حكومة الوحدة الوطنية كسلطة مُكلَّفة بقيادة ليبيا حتى موعد إجراء الانتخابات في البلاد، بينما يعتبرها قطاع من الليبيين منتهية الشرعية والولاية منذ ٢٤ ديسمبر الجاري وفقاً لخريطة الطريق. وأضاف بيان السفارة أن “بريطانيا لا تؤيد إنشاء حكومات أو مؤسسات موازية”. وقد أعربت لجنة الشئون الخارجية في مجلس النواب عن استنكارها لبيان السفارة البريطانية باعتباره انتهاكاً للأعراف الدبلوماسية وتدخلاً غير مبرر، وأعلن المجلس أن السفيرة البريطانية في البلاد شخصية غير مرغوب فيها. ومع تصاعد حدة الاستياء الليبي إزاء بيان السفارة البريطانية، اتجهت الأخيرة إلى إصدار بيان جديد، في ٢٦ ديسمبر الجاري، لتوضيح موقفها من الانتخابات، تضمن التأكيد على التزام بريطانيا الثابت بالعملية السياسية الجارية في ليبيا، وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية عاجلة.

2- رفض السماح لإيران بامتلاك سلاح نووي: مع تعثر المفاوضات غير المباشرة في فيينا بين إيران والقوى الدولية حول الاتفاق النووي، قالت وزيرة الخارجية البريطانية ليز تروس أن لندن لن تسمح لإيران بامتلاك سلاح نووي، وأنها ستعمل مع حلفائها لمنع ذلك. وقد كتبت مع وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لبيد في مقال مشترك بصحيفة “تليجراف” نشر في ٢٨ نوفمبر الفائت، أن لندن وتل أبيب ستعملان للحيلولة دون أن تصبح إيران قوة نووية. وقالت الوزيرة البريطانية أن مباحثات فيينا تعد آخر فرصة لإيران للعودة للاتفاق النووي، ولذا فإن عليها العودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة لأن من مصلحتها القيام بذلك. لكن انحياز بريطانيا إلى إسرائيل، التي تعارض بشدة تجديد الاتفاق، يمكن أن يُقوِّض الآن دعم لندن السابق لإحياء الاتفاق النووي.

3- التنديد بالتجارب الصاروخية الإيرانية: لا تقتصر السياسة البريطانية تجاه إيران على برنامجها النووي، وعودتها مجدداً ‏إلى الاتفاق النووي الذي انسحبت منه إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بصورة منفردة في ٨ مايو ٢٠١٨، وعلى إثره زادت طهران من تخصيب اليورانيوم بنسبة تصل إلى ٦٠٪ وهى خطوة فنية تبعد قليلاً عن نسبة الـ٩٠٪ اللازمة لصنع قنبلة نووية، ولكنها ركزت أيضاً على ‏برنامجها الصاروخي، الذي ترى أنه يمثل تهديداً للأمن الإقليمي والدولي. ‏ولذلك نددت لندن، في ٢٤ ديسمبر الجاري، بإطلاق إيران صواريخ باليستية في مناورات عسكرية، ودعت طهران إلى وقف تلك الأنشطة على الفور باعتبار أنها تمثل انتهاكاً لقرار مجلس الأمن رقم 2231.

4- فرض قيود على عودة عائلات الجهاديين: على عكس العديد من الدول الغربية التي أعادت بعض رعاياها من المخيمات السورية، فإن بريطانيا تفرض قيوداً شديدة على إعادة عائلات الجهاديين إلى أراضيها، حيث تقول السلطات إنهم يشكلون تهديداً للأمن القومي البريطاني، وقد نزعت عن بعضهم الجنسية. وأشارت وزارة الداخلية البريطانية إلى أنها ستوافق في بعض الحالات على عودة الأطفال في حال سمحت أمهاتهم بذلك. وقد ذكر تقرير لمنظمة الحقوق والأمن الدولية، في ١٣ أكتوبر الماضي، أن الأطفال والنساء البريطانيين يتعرضون للتعذيب في معسكرات الاعتقال في شمال شرقى سوريا ويواجهون خطر الموت. ولذلك قالت سارة سانت فينسنت المديرة التنفيذية للمنظمة أن “الحكومة البريطانية عندما ترفض إعادة الأطفال والنساء إلى المملكة المتحدة، وهى قادرة على إعادتهم، فإنها تتخلى عن السوريين، بما في ذلك مواطنيها وتتركهم لـلتعذيب والموت”.

وقد أشارت تقارير صحفية إلى أن الحكومة البريطانية تمول السجون التي تحتجز مئات الأطفال من أعضاء تنظيم “داعش”. فقد قدمت بريطانيا مبلغ 20 مليون دولار، أى ما يقارب 15 مليون جنيه استرليني، لتحسين الظروف في السجون في المنطقة التي تديرها مليشيا “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد).

5- تقديم مساعدات إنسانية لأفغانستان: بينما تخطط الحكومة البريطانية لتقليص المساعدات للعديد من مناطق الصراع في منطقة الشرق الأوسط بسبب تداعيات جائحة كوفيد-١٩ على الاقتصاد البريطاني، فقد تعهدت، خلال اجتماع لمجموعة السبع في ١٢ ديسمبر الجاري في ليفربول، بتقديم ٧٥ مليون جنيه استرليني (١٠٠ مليون دولار) من المعونات الطارئة للشعب الأفغاني لتوفير الغذاء والخدمات الصحية والمأوى والماء لأكثر من ١,٨ شخص. وهذا الدعم يمثل جزءاً من مبلغ ٢٨٦ مليون جنيه استرليني تعهدت بريطانيا بتقديمه لأفغانستان في السنة الحالية، لدعم ضحايا العنف القائم على النوع الاجتماعي وتمويل خدمات حماية الطفل الأساسية.

دور متصاعد

تشكل منطقة الشرق الأوسط أهمية استراتيجية لبريطانيا في أعقاب إتمام انسحابها من الاتحاد الأوروبي، ولذلك يتوقع أن تسعى إلى تعزيز نفوذها الجيوسياسي في المنطقة من خلال توسيع نطاق تجارتها ومبيعات الأسلحة وتعاونها العسكري مع حلفائها التقليديين في المنطقة. كما أنها ستحاول الاستفادة من الشرق الأوسط في إظهار قوتها العسكرية على المستويين الإقليمي والدولي، حيث أشار وزير الدفاع البريطاني بن والاس، في 24 نوفمبر الفائت، إلى أن لندن تنوي نقل قاعدة عسكرية رئيسية في كندا إلى سلطنة عُمان، وهو ما يوحي في النهاية بأن بريطانيا تسعى إلى تعزيز دورها كطرف في عملية إعادة صياغة الترتيبات الأمنية والسياسية التي يجري العمل عليها في المنطقة خلال المرحلة القادمة.