صراع محتدم:
كيف تتعامل الولايات المتحدة مع الأزمة السياسية في العراق؟

صراع محتدم:

كيف تتعامل الولايات المتحدة مع الأزمة السياسية في العراق؟



أدت الدعوات التي وجهها زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر إلى أنصاره لاقتحام البرلمان العراقي، في ٢٧ يوليو الفائت، احتجاجاً على محاولة قوى الإطار التنسيقي تشكيل الحكومة بعد شهرين من استقالة كتلة الصدر في البرلمان، إلى تصاعد حدة عدم الاستقرار السياسي في العراق الذي بات على المحك. كما أنها قد تفرض أزمة سياسية أعمق مع اندلاع صراع على السلطة بين الجماعتين الشيعيتين الرئيسيتين في البلاد، وهو ما دفع الولايات المتحدة إلى إبداء اهتمام خاص بما يجري على الساحة العراقية في المرحلة الحالية.

محددات رئيسية

اعتمد الموقف الأمريكي من الأزمة السياسة العراقية التي تفاقمت في الآونة الأخيرة على عدد من المحددات الرئيسية التي يتمثل أبرزها في:

١- تجنب تقديم الدعم للصدر: تبنت واشنطن دوماً رؤية سلبية إزاء مقتدى الصدر منذ الغزو الأمريكي للعراق في مارس ٢٠٠٣، عندما كانت مليشيا “جيش المهدي” التابعة له تقود عمليات مسلحة ضد القوات الأمريكية. ولكن مساعي الصدر بصفته زعيم الكتلة التي كانت تمتلك أكبر عدد من المقاعد في البرلمان لتشكيل حكومة تستبعد خصومه المدعومين من إيران من السلطة لقى ترحيباً أمريكياً، إذ أشارت بعض الكتابات الأمريكية إلى أنه يمكن أن ينقذ العراق من المليشيات الشيعية الموالية بقوة لطهران، أو على الأقل يجعل العراق يتحالف مع المعسكر المناهض لإيران المكون من الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين.  

لكن مع تشجيع الصدر لأنصاره لاقتحام البرلمان العراقي بالمنطقة الخضراء، التي تضم مؤسسات حكومية وسفارات أجنبية، احتجاجاً على ترشيح الإطار التنسيقي (التكتل البرلماني الشيعي البارز) محمد شياع السوداني لرئاسة الحكومة؛ تصاعدت بعض الدعوات داخل الولايات المتحدة لعدم تقديم دعم لأي شخص يقتحم البرلمان، ويستخدم العنف لتحقيق ما لا يستطيع تحقيقه من خلال صناديق الاقتراع. بل إن هناك بعض الرؤى الأمريكية التي لا ترى أن الصدر هو أفضل طريق للحد من نفوذ إيران في العراق، خاصة أنه يتبنى القيم الدينية نفسها التي يتأسس عليها النظام الإيراني.

٢- القلق من تداعيات عدم الاستقرار: تبدي اتجاهات أمريكية عديدة تخوفات من أن تدفع احتجاجات التيار الصدري وصراعه مع خصومه السياسيين البلاد لحقبة جديدة من عدم الاستقرار، حيث شكلت الخلافات بين القوى الشيعية المتنافسة حول تشكيل حكومة جديدة ضغوطاً على النظام السياسي العراقي الذي عصفت به الأزمات السياسية منذ إطاحة القوات الأمريكية بالرئيس الأسبق صدام حسين قبل عقدين. وهنا، فإن تقارير أمريكية مختلفة ترى أن ما يحدث في العراق يزيد من عدد “الدول الفاشلة” التي تقع في دائرة النفوذ الإيراني، وتُعاني من صراعات وأزمات محتدمة على مدى العقد الماضي.

٣- تقييم قدرة إيران على إدارة الصراعات: يمكن القول إن الأزمة المتصاعدة بين الصدر وخصومه المتحالفين مع إيران سوف تكشف مدى قدرة الأخيرة على احتواء صراع قد يضر بمصالحها في العراق بعد اختلال ميزان القوى الوطنية داخل العراق لصالحها في أعقاب الغزو الأمريكي للعراق في مارس ٢٠٠٣. ومن شأن إخفاق إيران في إدارة الصراع بين القوى الشيعية المتنافسة أن تفقد إحدى أهم أوراق الضغط التي تستخدمها لتعزيز موقفها التفاوضي مع الولايات المتحدة، ولا سيما مع عودة المفاوضات غير المباشرة لإعادة إحياء الاتفاق النووي لعام ٢٠١٥ بعد فترة من التوقف. وتشير تقديرات أمريكية إلى أن زيارة إسماعيل قاآني قائد “فيلق القدس” التابع لقوات الحرس الثوري الإيراني للعراق، في ٢٧ يوليو الفائت، بالتزامن مع تصعيد التيار الصدري، تأتي في ظل المحاولات الإيرانية لمنع تصاعد التوترات، والتي تعد أحد مؤشرات قلق إيران من أن تطورات المشهد العراقي في الآونة الأخيرة لا تتوافق مع حساباتها ومصالحها، ولا سيما بعد خسارة حزب الله اللبناني الموالي لإيران وحلفائه الأغلبية البرلمانية في لبنان في مايو الماضي.

4- حسم الجدل حول أهمية العراق: كشفت التعليقات داخل الولايات المتحدة وخارجها حول الموقف الأمريكي من التطورات التي يشهدها العراق في أعقاب احتجاجات المؤيدين للصدر، والتي تعيق المرحلة الانتقالية في العراق؛ أن هناك تصورات متناقضة حول الدور الأمريكي في العراق، بين من يرى أنه لن يتم تعيين أي رئيس وزراء دون الحصول على دعم أمريكي، ومن يرى أن دور واشنطن ونفوذها السياسي قد تضاءل بشكل كبير في العراق لصالح طهران. ويتوازى ذلك مع استمرار الجدل حول ما إذا كان العراق ما زال يمثل أولوية كبيرة للولايات المتحدة، وخاصة بعد احتفاظها بنحو ألفي جندي في الأولى لمحاربة فلول تنظيم “داعش”، بينما كان عددهم يصل ١٧٠ ألف جندي أمريكي في ذروة الغزو الأمريكي للعراق. وقد كان لافتاً أن الإدارة الأمريكية ردت على ذلك بتأكيدها أن العراق سيظل يمثل أولوية في السياسة الخارجية الأمريكية، وأحد أهم شركاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وقد وصفه أحد مسئولي وزارة الخارجية الأمريكية بأنه “حجر الزاوية للاستقرار الإقليمي”.

5- حدود منخفضة للتصعيد المسلح: على الرغم من امتلاك القوتين الشيعيتين المتنافستين على تشكيل الحكومة العراقية بعد ١٠ أشهر من الانتخابات البرلمانية للسلاح، فإنهما ستتجنبان، في رؤية واشنطن، استخدامه في إدارة هذا التنافس، لإدراكهما أنه سيؤثر على مستقبلهما السياسي في العراق بعد تمكينهما من قبل النظام السياسي الذي أسسته الولايات المتحدة بعد الإطاحة بنظام صدام حسين. وإن كان اقتحام أنصار الصدر للمنطقة الخضراء قد يدفع بعض المراقبين إلى توقع احتمالات وقوع أعمال عنف بين القوتين الشيعيتين المتنافستين، ولكنه سيكون في حدوده الدنيا.

اهتمام مكثف

مع اتساع نطاق الصدام بين القوى الشيعية حول تشكيل الحكومة العراقية، والتخوف من تحوله إلى صراع مسلح بينها؛ تصاعدت الدعوات داخل الولايات المتحدة إلى تعزيز الدور الأمريكي، باعتبار أن انقسام القوى الشيعية بسبب تشكيل الحكومة العراقية لن يقتصر تأثيره العميق على العراق فقط، ولكنه سيطال المنطقة وحتى القوى الكبرى في النظام الدولي، لأن من شأن أي نزاع مسلح في العراق تقويض تدفق النفط العراقي إلى السوق العالمية التي تعاني بالفعل من ارتفاع أسعار النفط في أعقاب الحرب الروسية-الأوكرانية، والتي تؤثر على أسعار الطاقة داخل الولايات المتحدة والدول الأوروبية، في وقت ترتفع فيه معدلات التضخم في الأولى إلى مستويات غير مسبوقة منذ أربعة عقود.

ولكون هدف تأسيس عراق ديمقراطي ومستقر وذي سيادة يمثل مصلحة أمريكية، فإن الولايات المتحدة يمكن أن تعمل من خلال التنسيق مع حلفائها عبر الطيف السياسي العراقي وشركائها في المنطقة وفي أوروبا ومنظمة الأمم المتحدة على تشجيع الحوار بين مختلف الفصائل العراقية الفاعلة لكسر الجمود السياسي الذي تشهده الساحة العراقية منذ الانتخابات البرلمانية التي أجريت في 10 أكتوبر الماضي.