حَمَلَ انسحاب موسكو من مبادرة تصدير الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود ارتدادات مباشرة على تركيا، وظهر ذلك في تضرر سلاسل توريد الغذاء إلى تركيا، وارتفاع أسعار السلع الغذائية، وتعميق أزمة الاقتصاد التركي، بالإضافة إلى التأثيرات المحتملة على موقع تركيا كوسيط في الأزمة الروسية الأوكرانية. ولذلك، اتجهت أنقرة إلى تكثيف تحركاتها بين أطراف الأزمة، لتحقيق اختراق جديد يضمن عودة روسيا إلى الاتفاق، ويدفع الغرب لتلبية مطالب موسكو.
فالرئيس التركي رجب طيب أردوغان يضغط لعودة روسيا إلى اتفاقية الحبوب، حيث أكد، في 21 يوليو الجاري، على أن محادثاته المزمعة مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين قد تؤدي إلى عودة العمل بمبادرة الحبوب، كما دعا الدول الغربية إلى النظر في مطالب روسيا. ويفرض هذا الانسحاب ضغوطاً محتملة وغير مسبوقة على الاقتصاد التركي، كشف عنها تصاعد معدلات التضخم، وارتفاع أسعار السلع الغذائية، بالإضافة إلى زيادة فاتورة واردات الغذاء.
وعلى الجانب الآخر، وفي ظل التوتر الأخير بين موسكو وأنقرة على خلفية تمرير الأخيرة عضوية السويد بالناتو، وإبداء الدعم تجاه لحاق كييف بالأطلسي، فقد يؤدي انسحاب موسكو من اتفاقية الحبوب إلى تراجع موقع تركيا الذي اكتسبته لدى أطراف الأزمة، كونها الوسيط القادر على تحقيق اختراق في القضايا المعقدة بين الغرب وموسكو. وانسحبت موسكو، في 17 يوليو الجاري، من اتفاق الحبوب الذي سمح لأوكرانيا بالتصدير عبر البحر الأسود، بعد إعلانها عدم تلبية مطالبها بتحسين صادراتها من المواد الغذائية والأسمدة، ناهيك عن معاقبة شركات التأمين وخدمات الموانئ السفن التي تتعامل مع روسيا.
انعكاسات سلبية
يحمل الانسحاب الروسي من اتفاق الحبوب تأثيرات ملموسة على تركيا، بالنظر إلى إمكانية دور روسيا وأوكرانيا في تلبية احتياجات تركيا من الحبوب، وبعض السلع الغذائية، ويُمكن بيان تأثير تجميد هذا الاتفاق على تركيا من خلال ما يلي:
1- ارتفاع أسعار المواد الغذائية: حمل الانسحاب الروسي من اتفاقية الحبوب، ارتدادات مباشرة وفورية على السوق التركية، حيث ارتفعت أسعارالمواد الغذائية مجدداً بعدما انخفضت نسبياً خلال الشهور التي خلت، مما حال دون وقوع تركيا في أزمة غذاء. ووفقاً لتقديرات مركز التنسيق المشترك بين أطراف اتفاق الحبوب، الذي يقع مقره في إسطنبول، فإن اتفاق الحبوب الموقع في يوليو 2022 برعاية أنقرة والأمم المتحدة، ساهم بصورة لافتة في منع ارتفاع الأسعار في تركيا، وعاد بالنفع عليها كونها تستورد 3.1 مليون طن من الحبوب الأوكرانية. بيد أن التطورات الراهنة، وإصرار روسيا على عدم تجديد الاتفاقية، والتحذير من تطبيق الاتفاق بصورة منفردة، قد يؤدي إلى تسارع وتيرة ارتفاع السلع الغذائية الاستراتيجية في البلاد، وهو ما يشكل ضغطاً إضافياً على أعصاب الاقتصاد التركي الذي يعاني تراجعاً كبيراً.
2- تضرر سلاسل توريد الغذاء: أدى الانسحاب الروسي إلى تصاعد المخاوف بأوساط شركات الشحن التركية والعالمية المنوط بها نقل الحبوب الأوكرانية، وهو ما يعني ارتفاع تكلفة تأمين السفن في ظل ارتفاع المخاطر التي تواجهها مع وجود السفن الحربية الروسية في البحر الأسود، ناهيك عن قيام موسكو خلال الأيام الماضية باستهداف ميناء أوديسا الأوكراني على البحر الأسود.
في هذا السياق، فإن توقف عمليات الشحن للحبوب الأوكرانية، أو على الأقل ارتفاع تكلفتها المالية والأمنية، ربما يحول دون وصولها إلى الأسواق التركية، مما قد يتسبب في اضطراب سلاسل الإمدادات والتوريد، ونقص حاد في واردات الغذاء بالأسواق التركية، ويزيد من الفجوة الغذائية التي تعانيها تركيا، والتي زادت حدتها بعد تراجع الإنتاج الزراعي في المحافظات التركية التي تعرضت للزلزال المدمر في 6 فبراير الماضي.
3- تراجع أرباح تركيا من برنامج الغذاء العالمي: حققت تركيا على مدار العام الماضي أرباحاً هائلة من برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة، حيث سمحت مبادرة الحبوب بالبحر الأسود منذ أغسطس الماضي بتصدير ثلاثة ملايين طن من الحبوب عبر البحر لمصلحة برنامج الغذاء العالمي لتقديمها إلى الدول الأكثر احتياجاً للغذاء مثل إثيوبيا واليمن وأفغانستان، وكانت تستفيد تركيا من عملية طحن تلك الحبوب لمصلحة برنامج الغذاء العالمي الذي يوزعها كدقيق في الدول التابعة للبرنامج نظير الحصول على مستحقات مالية.
4- تراجع مؤشرات الاقتصاد الكلي: يُهدد إلغاء مبادرة الحبوب بتعميق أزمة الاقتصاد التركي، في ظل ارتفاع أسعار الغذاء، واستمرار التراجع في أسعار الليرة، التي فقدت خلال الفترة من 2018 وحتى 2023 أكثر من 77 في المائة من قيمتها مقابل الدولار. ومن شأن تجميد اتفاق الحبوب أيضاً أن يساهم في زيادة معدلات التضخم التي وصلت إلى مستويات قياسية، حيث وصلت إلى ما يقرب من 64.24 في المائة بنهاية مايو الماضي، بالإضافة لتدهور مستويات المعيشة للمواطنين الأتراك، فوفق بيانات معهد الإحصاء التركي، فإن أسعار المستهلكين ارتفعت بنسبة 6.65 في المائة على أساس شهري.
5- خسارة موقعها كوسيط بين أطراف الأزمة الأوكرانية: ربما يدفع القرار الروسي بالانسحاب من مبادرة الحبوب تركيا إلى تراجع دورها كوسيط بين أطراف الأزمة الأوكرانية، وهو الدور الذي ضمن لتركيا تحقيق جملة من مصالحها مع الغرب وموسكو في آن معاً. فقد ساهم نجاح تركيا في إنجاز اتفاق الحبوب بتحييد الضغوط الغربية على أنقرة في عدد من الملفات الشائكة، وأهمها غض الطرف عن الانعطافة التركية شرقاً. كما وفرت الوساطة التركية في مبادرة الحبوب فرصة لأنقرة لتعميق علاقاتها مع موسكو، والحصول على جانب من وارداتها من الطاقة والغذاء من روسيا بالعملة المحلية.
فرص محتملة
منذ إعلان روسيا الانسحاب من مبادرة الحبوب، حافظت تركيا على موقف متوازن بين طرفي الأزمة، حيث تعي تركياأن تفكيك اتفاق الحبوب، وعجزها عن تمديده أو تجديده، قد يفقدها دورها الاستراتيجي بين طرفي الأزمة الأوكرانية. وهنا، يُمكن فهم توجه أنقرة فتح خطوط اتصال مع مختلف أطراف الأزمة، وظهر ذلك في تأكيد أردوغان على أنه خلال زيارة نظيره الروسي المحتملة لتركيا في أغسطس المقبل سيركز على محاولة إقناع بوتين بتجديد اتفاق الحبوب، بالإضافة إلىإجراء اتصالات مكثفة مع الرئيس الروسي وقيادات الحكومة الروسية لتهدئة الأزمة.كما جددت أنقرة بعد الانسحاب الروسي من اتفاق الحبوب، أهمية علاقاتها الاستراتيجية مع روسيا، وأكدت رفضها الانخراط في العقوبات الغربية المفروضة عليها.
بالتوازي، كثّفت أنقرة من تحركاتها للضغط على القوى الغربية لتلبية مطالب روسيا لضمان تدفق الحبوب إلى الأسواق العالمية. وتجدر الإشارة إلى دعوة الرئيس التركي، في 21 يوليو الجاري، عشية العودة من زيارته الخليجية، الدول الغربية إلى ضرورة تلبية المطالب الروسية، وفي الصدارة منها السماح بإعادة اندماج البنك الزراعي الروسي في الشبكة المالية العالمية، باعتبار ذلك يمكن أن يشكل حافزاً يدفع موسكو للعودة لمبادرة الحبوب. وأضاف: “ندرك أن لدى الرئيس بوتين أيضاً توقعات معينة من الدول الغربية، ومن الأهمية بمكان أن تتخذ هذه الدول إجراءات في هذا الشأن”.
في المقابل، دعت تركيا إلى ضرورة تيسير تصدير الأسمدة الروسية، إذ إننجاح اتفاق الحبوب خلال المرحلة المقبلة يظل مرتبطاً في جانب معتبر منه بتحقيق شرط موسكو المتعلق بتصدير الأسمدة الروسية بسلاسة. كما أكدت تركيا على ضرورة أن تقدم الأطراف المشاركة في اتفاق تصدير الحبوب ضمانات كافية من أجل الالتزام ببنوده، فدعت إلى أهمية وقف الاستهداف الروسي للموانئ الأوكرانية، وبخاصة ميناء أوديسا.
تداعيات ضاغطة
ختاماً، يمكن القول إن انسحاب روسيا من اتفاقية الحبوب قد يفرض تداعيات مختلفة على تركيا خلال المرحلة الحالية، خاصة مع استمرار حدة الأزمة الاقتصادية في البلاد، بالإضافة إلى انعكاساتها المحتملة على موقع تركيا كوسيط في الأزمة الأوكرانية، ولا سيما في ظل مؤشرات خلافية جديدة مع موسكو، واستمرار القضايا الخلافية المعقدة مع الغرب.