العصب الحساس:
كيف تتجه تركيا لتعزيز دبلوماسية جهاز الاستخبارات؟

العصب الحساس:

كيف تتجه تركيا لتعزيز دبلوماسية جهاز الاستخبارات؟



مع تصاعد الأزمات في محيط تركيا الإقليمي، وآخرها الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، بدأ جهاز الاستخبارات التركية الذي مر على تأسيسه في 10 يناير الماضي 97 عاماً، دوراً ملحوظاً في رسم وصناعة السياسة الخارجية التركية، بالنظر إلى النجاحات التي حققتها الجهاز، المعروف اختصاراً MIT، في تفكيك جانب من أزمات أنقرة مع الخصوم الإقليميين جنباً إلى جنب مع توفير بيئة مواتية لضبط إيقاع التوتر مع الخصوم في مناطق النفوذ. واعتمد الرئيس أردوغان خلال السنوات التي خلت على الذراع الاستخباراتية في تحقيق أهداف سياسات حزب العدالة والتنمية الخارجية، خاصة بعد إحباط محاولة الانقلاب الفاشل في صيف 2016، حيث بدا قطاع الاستخبارات واحداً من الأدوات التي تستخدمها أنقرة في تحقيق أهداف سياستها الخارجية.

فقد لعب جهاز الاستخبارات التركي دوراً محورياً في تنفيذ وإدارة جانب واسع من السياسات التركية، وتصاعد هذا الدور مع تعيين هاكان فيدان في العام 2010 مديراً لمنصب مدير الاستخبارات. ومع تولي إبراهيم قالن إدارة جهاز الاستخبارات في يونيو 2023، شرع في تبني سلسلة من الخطوات التنظيمية والإجرائية التي يمكن أن تسهم في إحداث مزيد من التطور لجهاز الاستخبارات الذي يمثل العصب الحساس للأمن القومي التركي، وكان آخرها في يناير 2024، عندما تم الإعلان عن إنشاء “أكاديمية الاستخبارات الوطنية التركية”. وتستهدف الأكاديمية تأهيل جيل تركي قادر على فهم ومواجهة التحديات التي تواجهها البلاد داخلياً وخارجياً. وتوفر الأكاديمية فرصة للطلاب الذين حازوا على درجة البكالوريوس، لاستكمال درجة الماجستير والدكتور بها.

مهام متعددة

ثمة العديد من السياسات الكاشفة عن تعاظم اعتماد أنقرة على دبلوماسية الاستخبارات، وهو ما يمكن بيانه على النحو التالي:

1- أمننة إدارة ملفات السياسة الخارجية: اعتمدت تركيا في الآونة الأخيرة على إسناد المناصب الحاسمة لقيادات استخباراتية، وظهر ذلك في تولي هاكان فيدان -رئيس جهاز الاستخبارات السابق- حقيبة وزارة الخارجية عشية فوز الرئيس رجب طيب أردوغان في انتخابات مايو 2023. كما وضع أردوغان كبير مستشاريه إبراهيم قالن على رأس جهاز الاستخبارات، خاصة أن الأخير ظل خلال السنوات الأخيرة يمسك بمفاصل الملفات الخارجية ذات البعد الأمني، حيث كان المسؤول عن الترتيبات الأمنية مع واشنطن ودول الاتحاد الأوروبي، ناهيك عن إدارته للتفاهمات الأمنية مع موسكو حيال الأزمة في سوريا، وكذلك دوره في معالجة الملفات الخلافية مع السويد وفنلندا قبل إعطاء أنقرة الضوء الأخضر للموافقة على لحاقهما بالناتو.

2- إدارة التوترات مع الخصوم والمنافسين في الإقليم والعالم: على صعيد متصل، تولت دبلوماسية الاستخبارات في الآونة الأخيرة إدارة التوتر مع بعض القوى الإقليمية والدولية، وكان بارزاً هنا إعلان الاستخبارات التركية في 6 مارس الجاري، عن توقيف 7 أشخاص على خلفية الاشتباه بجمعهم وبيعهم معلومات لصالح جهاز المخابرات الإسرائيلي “الموساد”. ولم يكن هذا الإعلان هو الأول من نوعه، ففي يناير وفبراير 2024 أوقفت الاستخبارات التركية خلايا تجسس تعمل لمصلحة إسرائيل، وتقديمها للمحاكمة. كما أعلنت الاستخبارات التركية (MİT) في 20 فبراير الماضي عن عملية أمنية اعتقلت بموجبها ثلاثة سوريين بتهمة التجسس لصالح فرنسا.

ويبدو أن إعلان الاستخبارات التركية عن تفكيك خلايا التجسس، يحمل في طياته رسائل عدة إلى الخصوم والمنافسين، منها تحذير إسرائيل -على سبيل المثال- من مغبة تعقب أو تحييد عناصر فلسطينية مقيمة على أراضٍ تركية. كذلك ربما تريد الاستخبارات التركية التأكيد على اليقظة أمام التحركات الفرنسية التي تستهدف المصالح التركية. كذلك، ربما سعت تركيا عبر إبراز جهودها الاستخباراتية لإيصال رسالة إلى طهران، بمخاطر توظيف الساحة التركية لتصفية الحسابات مع أعداء النظام الإيراني، خاصة في ظل اغتيال إسرائيل خلال الآونة الأخيرة عدداً من قادة الحرس الثوري الإيراني داخل الأراضي السورية.

3- تصفير الخلافات مع القوى العربية الرئيسية: مع تصاعد التوتر في علاقات أنقرة الإقليمية، لعبت دبلوماسية الاستخبارات الدور الأبرز في تصفير جانب معتبر من هذه المشاكل، فضلاً عن استمرار دورها في معالجة القضايا الإقليمية العالقة، وتجلى ذلك على سبيل المثال في إدارة جهاز الاستخبارات التركي ترتيبات إصلاح العلاقة مع القاهرة. كما يمسك جهاز الاستخبارات التركي في التوقيت الحالي بإدارة الملفات السياسية الخلافية مع العراق، ويكشف عن ذلك زيارة إبراهيم قالن رئيس الاستخبارات التركي للعراق في 23 يناير الماضي، ولقاءاته مع كل من الرئيس العراقي، ورئيس الوزراء، ومستشار الأمن القومي، ورئيس ائتلاف دولة القانون نوري المالكي، بالإضافة إلى ممثلي طوائف السنة والشيعة والتركمان. وتشير لقاءات قالن مع شخصيات سياسية عراقية وليست أمنية تشبه مجال اهتمامه، إلى هيمنة دبلوماسية الاستخبارات التركية حيال معالجة الخلافات السياسية مع بغداد.

4- إدارة الصراعات الساخنة في بؤر جغرافية مختلفة: يلعب جهاز الاستخبارات التركي دوراً محورياً في إدارة الأزمات الساخنة، حيث كثفت الاستخبارات التركية في المرحلة الحالية جهودها لتوضيح تطورات الصراعات الساخنة بالإقليم، فضلاً عن وضع تنبؤات بشأن أزمات محتملة. وفي هذا الإطار اعتمد الرئيس التركي عشية اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، على الاستخبارات التركية في إدارة الأزمة، وبدا ذلك في فتح عناصر الاستخبارات التركية قنوات اتصال مباشر مع طرفي الصراع، وهو ما وفر لها بيئة مواتية للوصول إلى اتفاق صادرات الحبوب في العام 2022، كما عزز جهاز الاستخبارات التركي مساحات التنسيق والتعاون مع أجهزة الاستخبارات الدولية المعنية بتطورات الأزمة الأوكرانية.

بالتوازي، كان جهاز الاستخبارات التركي حاضراً في تطورات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة التي بدأت عشية عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر الماضي، وزاد هذا الدور بعد مطالبة عائلات الأسرى الإسرائيليين للرئيس التركي أردوغان بالتدخل للإفراج عن ذويهم، ويمكن فهم تصريحات الرئيس التركي التي أطلقها في 18 نوفمبر الماضي، عندما قال رداً على طلب ذوي الرهائن الإسرائيليين المساعدة منه: “أدخلنا جهاز استخباراتنا في الموضوع، ويقوم الآن بالتحريات اللازمة، نعمل من أجل الحصول على نتيجة”. وفي مؤشر جديد على دور دبلوماسية الاستخبارات التركية تجاه الحرب على غزة، قال إبراهيم قالن رئيس الجهاز في 24 يناير الماضي: “إن أنقرة تعمل ليلاً ونهاراً لوقف الهجمات على غزة، وضمان وقف دائم لإطلاق النار، وإيصال المساعدات وتبادل الأسرى”.

كما أن مهام جهاز الاستخبارات التركي لم تقتصر على ما سبق، فقد لعبت الاستخبارات دوراً فعالاً على سبيل المثال في الصراع الليبي، وأزمة ناغورنوكارباخ.

5- الإمساك بتعقيدات الملف الكردي: مع تعثر العملية السياسية لحل المسألة الكردية في الداخل التركي، وتصاعد مخاوف أنقرة من تنامي نفوذ الإدارة الذاتية الكردية شمال شرق سوريا، بالإضافة إلى استمرار العمليات العسكرية لحزب العمال الكردستاني شمال العراق، أضحت المخابرات التركية نقطة الاستناد الأساسية في التعامل مع الملف الكردي، ويبدو ذلك جلياً في تأكيد الرئيس التركي عشية الاحتفال بذكرى تأسيس الجهاز في 10 يناير الماضي، حيث كشف عن أن جهاز الاستخبارات هو في مقدمة المؤسسات التركية التي تستخدم الطائرات المسيرة بطريقة فعالة ضد الجماعات الكردية التي تصنفها أنقرة إرهابية. وأضاف أن “جهاز الاستخبارات التركي لا يدع الإرهابيين يلتقطون أنفاسهم بفضل شبكة مصادره الواسعة وقدراته التكنولوجية المتقدمة”. وتابع: “جعلنا ما يسمى الكادر القيادي للتنظيم (بي كي كي) غير قادر على مغادرة أوكاره بفضل عملياتنا الاستخبارية النوعية بسوريا والعراق”.

6- المشاركة في المنتديات الدولية: يشارك رئيس جهاز الاستخبارات التركي بصورة دورية في المؤتمرات والمنتديات الدولية المتعلقة بالبحث في القضايا الاستراتيجية، وكان آخرها المشاركة في أعمال الدورة الستين لمؤتمر ميونخ للأمن التي استضافتها ألمانيا في منتصف فبراير الماضي. كما شاركت الاستخبارات التركية بصورة لافتة في اجتماعات أستانة متعددة الأطراف لحل الأزمة السورية، بالإضافة إلى الانخراط في المؤتمرات الدولية المتعلقة بإدارة الأزمة الأوكرانية، حيث تولت الاستخبارات التركية إدارة صفقة تبادل الحبوب الموقعة في 22 يوليو 2022 برعاية الأمم المتحدة.

ذراع استراتيجية

ختاماً، يمكن القول إن دبلوماسية الاستخبارات أصبحت أحد أهم أذرع الدولة التركية لتنفيذ سياستها الخارجية، فضلاً عن كونها المحور الفاعل في التمكين والترسيخ للسلطة الحاكمة، وذلك من خلال تأمين الجبهة الداخلية أو إدارة الملفات الإقليمية والدولية التي تمثل أولوية استراتيجية وأمنية للبلاد.