يبدو أن الرئيس الإيراني الجديد إبراهيم رئيسي يتجه نحو منح الأولوية في السياسة الخارجية الإيرانية لتطوير العلاقات مع كل من روسيا والصين، وذلك لاعتبارات عديدة، ترتبط برؤية القيادة العليا في النظام الإيراني- ممثلة في المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي- لتأثير ذلك على القضايا الخلافية مع الدول الغربية، لاسيما الدور الإقليمي والبرنامج النووي. ورغم أنه يبدو للوهلة الأولى أن تلك العلاقات سوف تركز على الجانبين الاقتصادي والعسكري، فإن ذلك لا ينفي في الوقت ذاته أنه سوف يكون لها دور في إعادة صياغة الترتيبات السياسية والأمنية في بعض الملفات الإقليمية التي تحظى باهتمام خاص من جانب الدول العربية، لاسيما الملفين السوري والعراقي، إلى جانب البرنامج النووي، والدور الإقليمي.
التوجه شرقاً
ربما يكون رفع مستوى العلاقات مع كل من روسيا والصين هو الخطوة الأولى التي سوف يتخذها الرئيس الإيراني الجديد إبراهيم رئيسي، حتى قبل انعقاد الجولة السابقة من المفاوضات التي تجري في فيينا حول الاتفاق النووي. إذ ستوقع إيران وروسيا على تجديد اتفاقية التعاون الشامل بين الطرفين للمرة الرابعة، بعد أن أبرمت في 12 مارس 2001 وتم تجديدها ثلاث مرات كل خمسة أعوام. كما سيلتقي الرئيس الإيراني الجديد بنظيره الروسي فيلاديمير بوتين على هامش قمة تعاون شنغهاى التي سوف تعقد في طاجيكستان يومى 16 و17 سبتمبر القادم. ويتوقع أن تتخذ الحكومة الجديدة خطوات تنفيذية لتفعيل اتفاقية التعاون الاستراتيجي التي تم إبرامها مع الصين لمدة 25 عاماً في 27 مارس الماضي، والتي تصل بمقتضاها قيمة الاستثمارات الصينية في مشروعات البنية التحتية والطاقة الإيرانية إلى نحو 400 مليار دولار.
وفي الواقع، يمكن القول إن هذه المقاربة الإيرانية التي تقوم على توسيع نطاق التعاون مع كل من الصين وروسيا يمكن أن تؤثر على بعض القضايا العربية أو الملفات التي تحظى باهتمام خاص من جانب الدول العربية، وذلك على النحو التالي:
1- تعزيز الموقع السياسي للنظام السوري: فبعد تغير توازنات القوى لصالح النظام السوري، على ضوء الدعم الذي قدمته روسيا وإيران والميليشيات الموالية لها، بات تعزيز الموقع السياسي للنظام، على المستويين الإقليمي والدولي، بحظى باهتمام خاص من جانب إيران، حيث ترى أن سوريا بدأت مرحلة جديدة تفرض ضرورة إعادة “تعويم” النظام السوري ودعم فرص الانفتاح الإقليمي والدولي عليه من جديد، لاسيما بعد إجراء الانتخابات الرئاسية في 26 مايو الماضي، والتي أسفرت عن فوز الرئيس بشار الأسد بنسبة 95.1%.
ومن هنا، كان لافتاً أن إيران أبدت اهتماماً خاصاً بالزيارة التي قام بها وزير الخارجية الصيني وانغ يي، وهى الأولى منذ نحو عقد، في 17 يوليو الفائت، حيث طرح مبادرة تتضمن أربعة نقاط رئيسية لحل الأزمة السورية، تتوافق في مجملها مع حسابات ومصالح إيران، وتتمثل في احترام سيادة سوريا الوطنية وسلامتها الإقليمية واحترام الخيار الذي ارتضاه الشعب السوري والتخلي عن وهم تغيير النظام، وتسريع عملية إعادة الإعمار والرفع الفوري لكل العقوبات أحادية الجانب ووقف الحصار الاقتصادي المفروض على سوريا، والتمسك بموقف ثابت حول مكافحة الإرهاب بشكل فعال، وتشجيع التوصل إلى حل سياسي شامل ومصالحة للقضية السورية عبر تسوية بقيادة سورية وجبر الخلافات بين جميع الفصائل.
هذه المبادرة تحديداً تشير إلى تغير بارز في السياسة الصينية. فرغم أن الصين كانت إحدى القوى الدولية التي دعمت النظام السوري واستخدمت حق الفيتو في مجلس الأمن مرات عديدة لمنع استصدار قرارات إدانة ضده، فإنها كانت تركز في بداية الأزمة، ضمن محددات عديدة، على أهمية تشكيل هيئة حكم انتقالية، وهو ما يبدو أن المبادرة الجديدة تجاوزته، لاسيما أنها تتحدث عن “التخلي عن وهم تغيير النظام”، ويمثل ذلك بدوره أبرز أبعاد الموقف الإيراني الثابت من دعم النظام السوري منذ بداية الأزمة في مارس 2011.
2- تحييد الدور الإقليمي في مفاوضات فيينا: ربما تسعى حكومة رئيسي، في حالة موافقتها على استئناف مفاوضات فيينا التي توقفت عن جولتها السادسة في 20 يونيو الماضي، إلى استقطاب مزيد من الدعم الروسي والصيني لمقاربتها الخاصة في المفاوضات، والتي تقوم على حصرها في الاتفاق النووي، وعدم توسيع نطاقها ليشمل التدخلات الإيرانية في المنطقة العربية، لاسيما في العراق ولبنان وسوريا واليمن.
وفي هذا السياق، أكدت موسكو رفضها للدعوات التي أطلقتها بعض الدول الغربية لتوسيع نطاق التفاوض ليشمل تلك الملفات، حيث قال المندوب الروسي في المنظمات الدولية ميخائيل أوليانوف، في 5 يوليو الفائت، أن “محاولة توسيع مفاوضات فيينا الهادفة إلى إحياء الاتفاق النووي لتشمل مواضيع أخرى، لن تجدي نفعاً”، مشيراً إلى أن “بعض المحللين والمسئولين يسعون إلى ضم قضايا أخرى مثل الأمن الإقليمي والصواريخ للمفاوضات، وهى محاولة لضرب ثلاثة طيور بحجر واحد، لكنها غير واقعية”.
وهنا، يمكن القول إن أى صفقة قد تنتهي إليها مفاوضات فيينا لن تتضمن- على الأرجح- توافقات حول تلك الملفات الشائكة، على نحو يوحي بأن إيران، في هذه الحالة، سوف تمارس دورها الحالي، حيث ستواصل الانخراط في الأزمات الداخلية في العديد من الدول العربية على غرار ما يحدث حالياً في لبنان والعراق وسوريا واليمن.
3- دعم التعاون الصيني- الإيراني في العراق: كان لافتاً أن الصين سعت بدورها إلى توسيع نطاق الدور الذي يمكن أن تقوم به في عمليات إعادة إعمار المناطق المحررة من سيطرة تنظيم “داعش” في العراق، في إطار توافق أكبر يتضمن توقيع صفقات خاصة باستيراد النفط العراقي. وكانت الصين قد وقعت، في 23 سبتمبر 2019، ثماني اتفاقيات ومذكرات تفاهم خلال زيارة رئيس الوزراء الأسبق عادل عبد المهدي إلى بكين. وتتصمن المذكرات اتفاقاً إطارياً للإنفاق الائتماني المالي ومذكرة تفاهم لإعادة الإعمار الاقتصادي، واتفاقاً للتعاون الاقتصادي والثقافي والفني وتطوير البنى للمواصلات والاتصالات والسكن والطاقة. وهنا، فإن ذلك لا يمكن فصله عن حرص الصين وإيران على توقيع اتفاقية التعاون الاستراتيجي في 27 مارس الماضي، حيث تسعى الصين عبر توسيع نطاق تعاونها مع كل من إيران والعراق إلى دعم مبادرة “الحزام والطريق” وتوسيع هامش الخيارات المتاحة أمامها فيما يتعلق بالحصول على النفط.
4- مواصلة تطوير القدرات العسكرية الإيرانية: وهو احتمال يمكن أن تتزايد فرص تحققه في حالة الوصول إلى صفقة مع القوى الدولية في فيينا، بمساعدة روسيا والصين، خاصة أن إيران تسعى في المفاوضات إلى انتزاع موافقة من إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن على رفع الحظر المفروض على بيع وشراء الأسلحة. وهنا، فإن روسيا والصين سوف تكونا الدولتين المرشحتين لإبرام صفقات أسلحة مع إيران لتطوير بعض قطاعاتها العسكرية، لاسيما القطاعين الجوي والبري. وهنا، فإن ذلك قد تكون له تداعيات على الأزمات التي تتصاعد حدتها في بعض الدول العربية، خاصة في ظل استمرار دعم إيران للميليشيات الحليفة لها في تلك الدول، على المستوى العسكري، وهو ما يمثل إحدى العقبات التي تحول دون التوصل إلى تسويات سياسية لتلك الأزمات حتى الآن.
5- التوافق تجاه الانسحاب الأمريكي من أفغانستان: ربما تتجه الدول الثلاث إلى توسيع نطاق التنسيق فيما بينها للتعامل مع المعطيات الجديدة التي فرضها الانسحاب العسكري الأمريكي من أفغانستان. واللافت في هذا السياق، هو أن هناك اتجاهاً ملحوظاً من جانب طهران وبكين وموسكو للحفاظ على قنوات التواصل التي تم تأسيسها مع حركة “طالبان” في الفترة الماضية، أولاً لتقليص احتمالات إقدام الأخيرة على استهداف مصالحها، وثانياً لتعزيز دورهما في الترتيبات السياسية والأمنية التي يجري العمل على إعادة صياغتها في أفغانستان. وهنا، فإن أحد الارتدادات المحتملة لهذا التنسيق يتمثل في إضعاف نفوذ التنظيمات الإرهابية، لاسيما تنظيم “القاعدة”، على نحو قد يدفع قادته وكوادره إلى الانتقال من أفغانستان إلى بعض الدول الأخرى، التي تتواجد بها أفرع نشطة للتنظيم، على غرار بعض دول شمال أفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء، إلى جانب الصومال، حيث تتواجد تنظيمات مثل تنظيم “القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي” و”حركة شباب المجاهدين”.
فجوة الثقة
على ضوء ذلك، ربما يمكن القول إن غياب الثقة بين إيران والدول الغربية، لاسيما الولايات المتحدة الأمريكية، سوف يمثل العنوان الرئيسي للعلاقات بين الطرفين خلال المرحلة القادمة، حتى لو تم التوصل إلى صفقة في فيينا، على نحو سوف يدفع إيران، في الغالب، إلى اتخاذ مزيد من الإجراءات التي تكفل تطوير العلاقات مع الصين وروسيا، بكل ما سوف ينتجه ذلك من تداعيات على الأزمات التي تمثل فيها إيران طرفاً رئيسياً، خاصة الأزمات التي تشهدها العديد من الدول العربية.