تتعدد أنماط تأثير تجارة المخدرات على الأوضاع السائدة، سواء داخل عدد من الدول العربية، أو في العلاقات البينية العربية، أو العلاقات العربية الإقليمية، بأشكال مختلفة، وهو ما تعكسه حالات زيادة السيطرة الميدانية للمليشيات المسلحة في ليبيا، وتعزيز مصادر تمويل إضافية لأنشطة الحوثيين في اليمن، وتحول لبنان إلى منصة لتجارة المخدرات بالإقليم، وانتعاش “اقتصاديات الظل” على الحدود السورية، وإضعاف البنية الديموغرافية للدولة العراقية، وتوتر مستدام في العلاقات الجزائرية- المغربية، وتوثيق التعاون الأمني بين الكويت والإمارات بإلقاء القبض على مهربي ومروجي المخدرات.
تشير التفاعلات التي تشهدها المنطقة العربية إلى تعدد أنماط تأثير تجارة المخدرات بأشكال مختلفة، وذلك على النحو التالي:
سيولة حدودية
1- زيادة السيطرة الميدانية للمليشيات المسلحة في ليبيا: ساهمت ظاهرة عدم القدرة على السيطرة الحدودية، وانعكاساتها في شيوع “نمط الحدود السائلة”، في انتشار شبكات وعصابات الجريمة المنظمة العابرة للحدود، والتي أصبحت تحقق مكاسب ضخمة، وهو ما جعل فرص المخاطرة قليلة في مواجهة المكاسب الضخمة التي تتحقق، على نحو كان له دور في تعميق وانتشار هذه الجماعات المصلحية بشكل أوسع من فترات سبقت. ذلك بالإضافة للامتدادات القبلية والعشائرية العابرة للحدود، والتي تلعب دوراً مهماً في نشأة مثل هذه الجماعات، وخاصة العصابات “الجهادية الإسلاموية”، والتي تحالفت مع المليشيات المسلحة، والانتشار الواسع لعمليات السلب والنهب، والسيطرة على بعض أنواع من التجارة أو احتكارها، واستعمال القوى العاملة تحت تهديد السلاح، والسيطرة على الأرض، وهو ما تعكسه بوضوح المليشيات في الحالة الليبية لأنها تعبر عن المشروع المناوئ لاستعادة الدولة الوطنية في ليبيا.
وفي هذا السياق، شهدت الشهور الثلاثة الأخيرة من عام 2021 اقتحام وزارة الداخلية الليبية أوكاراً لتجارة المخدرات في منطقة قرقارش غرب ليبيا، والتي تورطت فيها مليشيات مسلحة متحالفة مع عصابات إجرامية في الجنوب الليبي، تمثلت مهمتها في توزيع ما يتم إدخاله عبر بعض المنافذ الليبية، سواء كانت برية أو بحرية أو جوية، حيث يتم استقبال أطنان من المخدرات القادمة من تركيا ولبنان والنيجر، ليتم توزيعها ليس داخل ليبيا فقط بل خارجها أيضاً، إذ يتم استخدام ليبيا كنقطة عبور للمخدرات القادمة من مناطق بعيدة مثل أمريكا الجنوبية. لذا، تحذر بعض الكتابات من شبكات الحشيش الإقليمية ومدى ارتباطها بالأراضي الليبية.
تقوية المليشيا
2- تعزيز مصادر تمويل إضافية لأنشطة الحوثيين في اليمن: أثيرت اتهامات متصاعدة خلال السنوات الماضية بشأن تورط جماعة الحوثيين في الاتجار بمخدر الحشيش، وخصوصاً مع التقارير التي تُصدرها الحكومة اليمنية الشرعية، بين حين وآخر، حول القبض على كميات من المخدرات مع عناصر مرتبطة بالحوثيين، والتي تمنح مصادر تمويل إضافية، وهو ما يعني تعزيز القدرات العسكرية للمليشيا وإطالة أمد الصراع اليمني. كما تسمح المخدرات لمليشيا الحوثي بفرض نوع من السيطرة على بعض الفئات المجتمعية، وخصوصاً الشباب وصغار السن، داخل المناطق الخاضعة لسلطة الحوثيين، علاوة على ذلك يمكن أن تسهم في إضعاف الحكومة اليمنية الشرعية وذلك من خلال تهريبها إلى المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة.
إضافة إلى تصدير الضغوط لدول الجوار، وخاصة السعودية. علاوة على استنساخ تجربة حزب الله، إذ إن أنشطة تهريب المخدرات من جانب الحوثيين تمهد لاستنساخ تجربة حزب الله اللبناني، فعلى مدار عقود اعتاد الحزبُ توفيرَ موارد لتمويل أنشطته عبر مجموعة من الأنشطة السرية، وبعض هذه الأنشطة اتصل بتجارة المخدرات، حيث دأبت واشنطن على اتهام حزب الله بالاتّجار في المخدرات. وبالتالي يمكن أن ينقل حزب الله لمليشيا الحوثي خبراته في مجال تهريب المخدرات، وخاصة مع العلاقة الوثيقة التي تتكشف ملامحها تدريجياً بين إيران وحزب الله من جهة والحوثيين من جهة أخرى.
ضعف مؤسساتي
3- تحول لبنان إلى منصة لتجارة المخدرات بالإقليم: أعلن بسام مولوي وزير الداخلية اللبناني في 27 يناير الفائت، عن ضبط 12 طناً من المخدرات كانت متجهة إلى السودان كمحطة أولى. وهنا قال المولوي: “لن ندخر جهداً في إحباط كل عمليات التهريب ومنع الأذى والشر عن أشقائنا العرب”. كما ضبطت عناصر من الجمارك اللبنانية تسعة ملايين حبة من مخدر الكبتاجون مخبأة في شحنة فواكه حمضية في مرفأ بيروت كان من المفترض إرسالها إلى إحدى دول الخليج، وفق ما أعلن وزير الداخلية بسام مولوي في 29 ديسمبر الماضي. كما أعلنت السلطات السعودية يوم 23 إبريل الماضي، عن إحباط محاولة تهريب أعداد كبيرة من الأقراص المخدرة كانت مخفية داخل شحنة من فاكهة الرمان قادمة من لبنان.
وفي هذا السياق، يبدو أن هناك سيناريو مفاده تحول لبنان إلى منصة لتهريب المخدرات مرهوناً بعدد من المحفزات ربما أهمها حالة الضعف والهشاشة المؤسساتية التي تعاني منها الدولة اللبنانية، وبالتالي صعوبة ضبط الحدود والسيطرة عليها، أضف إلى ذلك الوضع الاقتصادي المتردي الذي قد يدفع إلى ازدهار تجارة المخدرات، وكذلك سيطرة شبكات محترفة على عمليات تجارة وتهريب المخدرات، علاوة على التأثيرات السلبية لتقنين إنتاج بعض المخدرات في لبنان، والأنشطة السرية. كما اكتسبت تجارة المخدرات في لبنان زخماً متزايداً خلال السنوات الماضية، وهو الأمر الذي ارتبط بالتحولات الإقليمية، وما أنتجته من سيولة حدودية، حتى إن بعض التقارير ربطت بين تزايد نشاط تجارة المخدرات في لبنان والحرب داخل سوريا.
شبكات الظل
4- انتعاش اقتصاديات الصراع على الحدود السورية: أدت موجة الصراعات الداخلية المسلحة التي ضربت دول الإقليم بعد اندلاع الثورات العربية إلى خلق “اقتصادات حرب” أو ما تطلق عليه بعض الأدبيات “اقتصاديات الصراعات الداخلية”، والتي تدفع جماعات المصالح على طرفي الصراع، في اتجاه تغذيته واستمراره لكونه يمثل مصدراً رئيسياً للحفاظ على استمرارية وديمومة مكاسبهم المالية الضخمة، والتي بالضرورة سوف تتهدد في حالة توقف الحروب الأهلية أو الصراعات المسلحة، أو هدأت وتيرتها على أقل تقدير، بحيث برز نمط من العصابات المتخصصة في تجارة الأعضاء البشرية، وتهريب الأسلحة، وزراعة المخدرات، وتجنيد المقاتلين، وتهريب مصادر الطاقة، وغيرها.
وقد أسهمت الأوضاع التي شهدتها الساحة السورية على مدار العشرية الماضية في تبلور اقتصاد الصراع المسلح، ومن أبرز أنماطه التوسع في تجارة المخدرات وانعكاساته على دول الجوار الجغرافي، ومنها الأردن. وفي هذا السياق، أعلنت القوات المسلحة الأردنية في 27 يناير الماضي تصفية 27 مهرباً على حدود سوريا، على نحو ما جاء في بيان رسمي بأن “تلك القوات ماضية ومستمرة في تطبيق قواعد الاشتباك المعمول بها حديثاً، وسنضرب بيد من حديد، ونتعامل بكل قوة وحزم مع أي محاولات تسلل، أو تهريب لحماية الحدود، ومنع كل من تسول له نفسه العبث بالأمن الوطني الأردني”.
تَعَاطٍ مجتمعيٌّ
5- إضعاف البنية الديموغرافية للدولة العراقية: وهو ما يعكسه الإعلان شبه اليومي من جانب أجهزة الأمن العراقية عن تفكيك شبكة للاتجار بالمخدرات، والارتفاع المضطرد في أعداد المدمنين، وخاصة بين فئة الشباب، في بلد يمثل من دون الخامسة والعشرين فيه حوالي 60% من السكان، الأمر الذي تشير إليه المديرية العامة لمكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية بوزارة الداخلية العراقية. وتكشف العديد من الكتابات أن ثمة تركيزاً على البعد الأمني في الحرب على المواد المخدرة دون التركيز على البيئة الاقتصادية والاجتماعية المحفزة لانتشار تجارة وتعاطي المخدرات. هذا فضلاً عن عدم القدرة على ضبط الحدود مع إيران التي تمتد لأكثر من 1500 كم، حيث يتم إدخال المخدرات عبرها.
إضرار داخلي
6- توترٌ مستدامٌ في العلاقات الجزائرية- المغربية: يأتي قطع العلاقات الجزائرية- المغربية في ظل اتهام الجزائر للمغرب باستغلال بعض المناطق الحدودية المشتركة والسماح لعصابات تهريب المخدرات بالتسلل خلالها وتهريب المخدرات إلى الداخل الجزائري، وهو ما دفع السلطات الأمنية الجزائرية في مارس الماضي إلى السيطرة على منطقة “العوجة” الزراعية بإقليم “فجيج” أو “فكيك” شرق المغرب، وقيامها بطرد عشرات العائلات المغاربة من هذه المناطق التي تدعي أنها خاضعة للسيادة الجزائرية، ولذا فقد أعلنت السلطات الجزائرية خلال الفترة الأخيرة تكثيف المراقبة الأمنية للحدود المشتركة مع المغرب للحد من أنشطة العصابات المسلحة وعصابات تهريب المخدرات والحفاظ على الأمن القومي الجزائري.
التنسيق المشترك
7- توثيق التعاون الأمني بين الكويت والإمارات: يعد التعاون البيني العربي في المجال الأمني أحد المداخل الرئيسية لمكافحة المخدرات التي يتم تهريبها عبر البر أو البحر، إذ نجحت الإدارة العامة لمكافحة المخدرات الكويتية في ضبط مواطن بحوزته 120 ألف حبة من مخدر الكبتاجون بقصد الاتّجار، بالتعاون مع جهاز مكافحة المخدرات الإماراتي، وهو ما ذكرته الإدارة العامة للعلاقات والإعلام الأمني بوزارة الداخلية الكويتية في 8 ديسمبر الماضي.
أطر تعاونية
خلاصة القول، إن تجارة المخدرات كان تتمتع بالانتشار في المنطقة العربية قبل تفاعلات 2011، غير أن الأخيرة كثفت من هذا الانتشار. فعلى سبيل المثال، كانت سوريا أكثر الدول إنتاجاً لمخدر الكبتاجون قبل النزاع المسلح، لكن النزاع جعل تصنيعها أكثر رواجاً واستخداماً وتصديراً. كما تنشط مصانع حبوب الكبتاجون في مناطق عدة في لبنان عبر طرق التهريب المبتكرة. علاوة على اتخاذ ليبيا نقطة عبور للمخدرات لدول أخرى، وكذلك الحال بالنسبة للعراق الذي تنشط فيه تجارة المخدرات وخاصة بالمدن ذات الحدود المشتركة مع إيران، وبصفة خاصة البصرة. وقد يكون الهدف تحقيق أرباح مالية طائلة، أو تدمير الطاقات البشرية للدول المستهدفة، وهو ما يستلزم تعزيز التعاون الأمني البيني العربي، والتعاون العربي مع دول أخرى، بما يحدّ من تلك المخاطر المتصاعدة، خاصة أن أفغانستان بعد وصول طالبان إلى الحكم قد تُعزز من انتشار المخدرات بدول الجوار، ثم يمتد الخطر إلى الدول العربية.