إشكالية مزمنة:
كيف تؤثر المعضلة الدستورية على الاستقرار داخل الدول العربية؟

إشكالية مزمنة:

كيف تؤثر المعضلة الدستورية على الاستقرار داخل الدول العربية؟



صارت الأبعاد المرتبطة بالدستور أحد المحددات الرئيسية التي تؤثر على الاستقرار داخل بعض الدول العربية، بأشكال مختلفة، ومنها تصاعد دعوات تغيير الدستور في تونس بما يؤدي إلى التحول من النظام “الهجين” (البرلماسي الذي يجمع بين النظامين الرئاسي والبرلماني) إلى النظام الرئاسي بعد تعليق العمل بدستور 2014، وصراع النفوذ بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء في الصومال فيما يخص تعيينات وإقالات داخل الأجهزة الأمنية، وتصريح الرئيس العراقي برهم صالح بضرورة تعديل الدستور ليحظى بإجماع القوى السياسية والمجتمعية ويستعيد ثقة الشعب في العملية السياسية، وعرقلة مسار المرحلة الانتقالية في ليبيا وفقاً لأسوأ سيناريو في حال استمرار عدم التوافق بشأن القاعدة الدستورية الناظمة لإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقررة في 24 ديسمبر المقبل، وتصاعد محتمل للخلافات بين شركاء الائتلاف الحكومي وهو ما قد يتضح في الحالة المغربية.

تشير التفاعلات السائدة في المنطقة العربية إلى أن القضايا المرتبطة بالدستور تؤثر بشكل كبير على الاستقرار داخل بعض الدول، في النصف الثاني من عام 2021، على نحو ما تعكسه الاتجاهات التالية:

تأزم ممتد

1- تغيير هيكل النظام السياسي بعد عدم الاستقرار الممتد: تعبر عن هذا الوضع جلياً حالة تونس، إذ يتجدد الصدام بين الرئيس قيس سعيّد وحركة “النهضة” على خلفية معارضة الأخيرة القرارات الاستثنائية التي اتخذها الأول، وفقاً لنص قرار المادة “80” من الدستور، وكذلك معارضتها لتوجه تعديل الدستور الذي ألمح إليه الرئيس سعيّد والتأكيد على أنه “فُصِّل على قياس بعض الأطراف في البلاد”، وهو ما برز في البيان الذي أصدرته في 17 سبتمبر الجاري. وهنا، اعتبرت الحركة أن “دستور 2014 حظي بتوافق كبير، وكان ثمرة لحوار وطني، كما أنه تضمن آليات تعديله من داخله، طبقاً لتوافق مطلوب بين كل الأطراف السياسية”.

ولم يكن ذلك هو البيان الأول الذي تصدره “النهضة”، إذ أصدرت بياناً في 11 سبتمبر الجاري عبرت فيها عن رفضها القاطع محاولات بعض الأطراف التي وصفتها بـ”المعادية للمسار الديمقراطي وخاصة من بعض المقربين من الرئيس قيس سعيّد، الدفع نحو خيارات تنتهك قواعد دستور 2014″، مضيفة أن “الدستور مثل أساساً للشرعية الانتخابية لكل المؤسسات التنفيذية والتشريعية الحالية، وحظى بتوافق جل العائلات السياسية ورضاء شعبي واسع”. وحذرت الحركة من أن ذلك “سيؤدي حتماً بالنظام إلى فقدان الشرعية والعودة للحكم الفردي والتراجع عن كل المكتسبات الديمقراطية وضمانات الحريات وحقوق الإنسان”.

فضلاً عن ذلك، حذرت حركة “النهضة” في بيانها من خطورة النزعة الأحادية في التعاطي مع القضايا الوطنية الكبرى، وأكدت على أهمية الحوار الوطني الشامل واعتماد المقاربات التشاركية في إصلاح الأوضاع واستكمال بناء المؤسسات الدستورية من داخل الدستور. وقد جاء إصدار ذلك البيان رداً على التصريحات الإعلامية التي أطلقها مستشار رئيس الجمهورية وليد الحجام في 10 سبتمبر الجاري بأن “هناك ميلاً لتعديل النظام السياسي في تونس الذي لا يمكن أن يتواصل.. ربما عبر استفتاء، وإنه يُفترض تعليق الدستور وإصدار نظام مؤقت للسلطات”، مضيفاً أن “ملامح خطة الرئيس في مراحلها الأخيرة ومن المتوقع الإعلان عنها رسمياً في وقت قريب”.

سلطة ذات رأسين

2- صراع الصلاحيات والنفوذ بين رأسى السلطة التنفيذية: وهو ما تشير إليه الحالة الصومالية، حيث سحب الرئيس محمد عبدالله “فرماجو” الصلاحيات من رئيس الوزراء محمد حسين روبالي في 16 سبتمبر الجاري، على خلفية إصدار الأخير قرارات بإقالة وتعيين شخصيات في الأجهزة الأمنية، وأبرزهم رئيس جهاز الأمن والاستخبارات الوطنية فهد ياسين المعروف بقربه من الرئيس بحيث اعتبرها الأخير مخالفة للدستور، وهو ما يعكس توتراً مستداماً بين الطرفين ويضعف البلاد سياسياً وأمنياً، إذ قال مكتب الرئيس في بيان: “انتهك رئيس الوزراء الدستور الانتقالي لذا تُسحب منه صلاحياته التنفيذية (..) لاسيما صلاحية إقالة و/أو تعيين مسئولين إلى حين إجراء الانتخابات”، متهماً روبالي بعدم التنسيق معه واتخاذ قرارات غير متوافقة مع قوانين البلاد ودستورها.

ومن جهته، أعلن رئيس الوزراء “رفضه القرار غير القانوني والذي لا أساس له” الصادر عن الرئيس والقاضي بتعليق سلطاته التنفيذية، وتجدر الإشارة إلى أن الرئيس فرماجو- الذي تولى السلطة في عام 2017- انتهت ولايته في فبراير 2021، من دون أن يتمكن من الاتفاق مع قادة المناطق على تنظيم الانتخابات في توقيت زمني محدد، الأمر الذي أثار إشكالية دستورية، وكان إعلانه تمديد ولايته الرئاسية في أبريل الماضي سبباً في اندلاع اشتباكات مسلحة في العاصمة مقديشيو. ولعل استمرار وجود قضايا خلافية يؤثر على تنظيم إجراء الانتخابات الرئاسية في المرحلة المقبلة.  

رأسمال سياسي

3- محاولة استعادة الثقة المجتمعية بالنظام السياسي: وينطبق ذلك على الوضع في العراق، إذ صرح الرئيس برهم صالح، خلال افتتاح فعاليات ملتقى الرافدين في 29 أغسطس الفائت، بأن “هناك حاجة إلى تعديل الدستور العراقي الحالي بإجماع القوى السياسية والفعاليات المجتمعية”، باعتباره “استحقاقاً لا مناص منه، ولا يمكن حكم العراق بهذه المنظومة والدستور”. وأكد صالح أن “ضمان الإرادة الحرة للعراقيين في انتخاب ممثليهم بعيداً عن التزوير والتلاعب والضغوط شرط لا يقبل المساومة إذا أردنا الخروج بالبلد من أزمات ومنطلقاً لاستعادة ثقة الشعب بالنظام السياسي”، وهو ما يعكس إدراك نظام الحكم العراقي لأهمية الأخذ بأصوات الحراك الاحتجاجي منذ الثُلث الأخير من عام 2019.

إعاقة الانتقال

4- عرقلة مسار المرحلة الانتقالية في دول الصراعات: لا تزال القضايا الخلافية بين الفرقاء السياسيين في ليبيا تمثل تحدياً رئيسياً لتجاوز المرحلة الانتقالية في البلاد منذ عام 2011، وربما تهدد بتأجيل إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقررة في 24 ديسمبر المقبل، وهو ما عكسته الجلسات المختلفة للحوار السياسي في جنيف وتونس بشأن القاعدة الدستورية للانتخابات، فضلاً عن قضايا خلافية دستورية أخرى، حيث تعتبر عمليات بناء الدساتير في مراحل ما بعد الصراع واحدة من أعقد العمليات وأهمها، إذ تكتسب هذه العمليات أهميتها من حقيقة أن قضايا الصراع الأساسية التي يسعى الأطراف إلى حسمها وإيجاد توافقات بشأنها هى القضايا ذاتها التي يركز البناء الدستوري على تضمينها.

فمسائل مثل شكل الدولة، وطبيعة نظام الحكم، والمبادئ الأساسية الناظمة للدولة الجديدة، والترتيبات المؤسسية للسلطات الثلاثة وعلاقاتها ببعضها البعض، وتوحيد القوات والكيانات المسلحة تحت مظلة واحدة، والتعامل مع الماضي، وكيفية إدارة وتقاسم الثروة وغيرها من القضايا وثيقة الصلة بالصراع، كلها مسائل ينظمها الدستور الذي يعد بمثابة عقد اجتماعي جديد للدول الخارجة من الصراع، ومن ثم فإن هذه العمليات تعتبر جزءاً مهماً في عمليات بناء السلام بل وأحياناً في العمليات الهادفة إلى تحويل الصراع، وعدم إطالة أمد الأزمة الليبية. وفي هذه الحالة يتم اجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية وفقاً للقاعدة القانونية المتفق عليها، ويتم تأجيل الاستفتاء على الدستور إلى ما بعد تشكيل السلطة التشريعية الجديدة المنتخبة طبقاً للمقترح الوارد في القاعدة القانونية.

وكذلك الحال بالنسبة لسوريا، حيث برزت تعقيدات لا أول لها من آخر فيما يخص قضايا “اليوم التالي”. وفي هذا السياق، قال المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا غير بيدرسون للصحفيين في 12 سبتمبر الجاري: “لقد أجرينا مناقشات جوهرية وجيدة للغاية”، مضيفاً: “ناقشنا التحديات الاقتصادية والإنسانية في سوريا، والتحديات المرتبطة بسبل العيش، والجهود التي يمكننا القيام بها للمساعدة في تحسين هذا الوضع”، معرباً عن أمله في “المضى قدماً بعمل اللجنة الدستورية”، كاشفاً أنه من الممكن “الدعوة إلى جولة سادسة” من المحادثات بين أعضائها.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن المجموعة المصغرة من اللجنة الدستورية التي تشكلت في سبتمبر 2019، تتألف من 45 عضواً يمثلون بالتساوي بين الحكومة السورية “نظام الأسد” والمعارضة والمجتمع المدني. غير أن جولات اللقاءات المتتالية والجهود الأممية فشلت في إنجاح مساعي اللجنة الدستورية، فضلاً عن انتشار تأثيرات جائحة “كورونا”، وهو ما يؤدي إلى إبطاء مسيرة التسوية السياسية للأزمة السورية.

خلاف الشركاء   

5- تصاعد الخلافات بين شركاء الائتلاف الحكومي: تشكل المادة “47” من الدستور المغربي محور جدل، في ظل مطالبة بعض أحزاب المعارضة بتعديلها، حيث تنص على أن الملك يعين رئيس الحكومة من الحزب السياسي المتصدر الانتخابات، وأن يكون تعيين أعضاء الحكومة باقتراح من رئيس الحكومة. وقد طرح تعديل مقترح لتلك المادة يقضي بـ”السماح بتعيين رئيس حكومة من حزب آخر غير المتصدر لنتائج الانتخابات، وتعيين رئيس الحكومة من تحالف أحزاب يمتلك عدداً من المقاعد أكثر من الحزب المتصدر للنتائج”، وهو ما سبق أن دعا إليه الأمين العام لحزب “الأصالة والمعاصرة” عبداللطيف وهبي في 28 يوليو الماضي. وهنا تمت الإشارة إلى الأزمة التي اندلعت خلال تشكيل حكومة عبد الإله بن كيران الثانية وانتهت بإعفائه في مارس 2017، حيث أشارت اتجاهات عديدة إلى أنه “كان يجب النص على أنه إذا فشل الحزب الأول في تشكيل أغلبية، فإنه يمكن الانتقال إلى التحالف الحزبي الأول في الانتخابات”.                                         

ركيزة تفاعلات

خلاصة القول، إن القضايا التي ترتبط ببنود أو مواد دستورية أو تعديلات هيكلية دستورية سوف تشكل ركيزة التفاعلات داخل بعض الدول العربية، خلال المرحلة المقبلة، بحيث تحدد مسار الأزمة السياسية وتفكك الخلافات بين رأسى السلطة التنفيذية وبين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية في تونس بعد وصف الرئيس قيس سعيّد دستور 2014 بأن “كله أقفال”، وكذلك استمرار تأزم الوضع في الصومال بعد الخلاف المستحكم بين رأسى السلطة التنفيذية بخلاف تهديدات حركة “شباب المجاهدين”. وأيضاً، تثار مسألة تعديل الدستور في العراق لإعادة الثقة في العملية السياسية، وفقاً لما عكسته حركة الاحتجاج في مناطق عراقية مختلفة. فضلاً عن تزايد القضايا الخلافية في الجلسات الدستورية التي يتوقع أن تزيد من صعوبة تجاوز المرحلة الانتقالية في ليبيا وسوريا. كما أن الخلافات المحتملة بين شركاء الائتلاف الحاكم في المغرب قد تدفع إلى المطالبة بتعديل المادة “47” من الدستور.