تتصاعد حدة الأزمة الاقتصادية في تونس في التوقيت الحالي في ظل ركود اقتصادي غير مسبوق، ووسط تعثر في تحصيل تمويلات جديدة، فضلاً عن تراجع الاستثمارات الأجنبية. وقالت مؤسسة “كابيتال إيكونوميكس” في تقرير لها نهاية فبراير الماضي، إن تونس تواجه على نحو متزايد خطر حدوث أزمة فوضوية في ميزان المدفوعات والتخلف عن سداد ديون سيادية. وتعمقت الأزمة الاقتصادية مع سحب تونس من احتياطاتها الأجنبية المنخفضة بالفعل لسداد سندات دولية.
وتبدو الأزمة في البلاد مرشحة لمزيد من التعقيد، ولا سيما مع التوتر الحادث بين اتحاد الشغل والرئيس قيس سعيد، بالإضافة إلى المخاوف من مشروع قانون مقترح في التوقيت الحالي ينظم إنشاء الجمعيات وتمويلها، وهو ما يعكس عمق الأزمة المالية والاجتماعية التي تمر بها تونس.
مؤشرات الأزمة
وصلت الأزمة المالية في تونس إلى الذروة، وازدادت تعقيداً مع تراجع المؤشرات الاقتصادية، ويمكن بيان ذلك على النحو التالي:
1- ارتفاع أرصدة الديون الخارجية: تعاني تونس من ارتفاع أرصدة ديونها الخارجية، والتي تقدر بنحو 12.3 مليار دولار، أي ما يعادل نحو 80 في المائة من إجمالي الناتج المحلي للبلاد. وبرغم سداد تونس جانباً من مستحقاتها المالية، إلا أن ذلك لا يعني معالجة الأزمة؛ إذ إن سداد الدين الخارجي جاء على حساب الاستثمار الداخلي، وعلى حساب الحاجات الأساسية للتونسيين. وهنا، يمكن تفسير النقص الحاد في كثير من السلع بالأسواق التونسية. كما تحتاج تونس خلال العام الجاري لسداد 4 مليارات دولار من الديون الخارجية، بزيادة 40% مقارنة بعام 2023، وسط شح في التمويل الخارجي.
2- غياب التمويلات الأجنبية: لم تتمكن تونس من جذب تمويلات خارجية كبيرة خلال الفترة الماضية كما فشلت في تمرير اتفاق مع صندوق النقد الدولي، يسمح بإقراض تونس مبلغ 1.9 مليار دولار، فبينما يصر الصندوق على ضرورة تنفيذ شرط رفع الدعم عن المحروقات والمواد الغذائية الأساسية وتقليص كتلة الأجور في القطاع العام، فضلاً عن مطالبة الصندوق ببيع بعض الحصص في بعض المؤسسات المتعثرة المملوكة للدولة، وهو ما يرفضه الرئيس التونسي، معتبراً ذلك يهدد السلم المجتمعي، وربما يوفر ذلك بيئة خصبة بحسب قيس سعيد لتكرار أحداث الخبز في يناير 1984 وما خلفته من ضحايا وغضب شعبي مكتوم.
وبرغم توقع وكالة فيتش أن يصل التمويل الخارجي في تونس إلى نحو 2 مليار دولار بنهاية العام 2024، منها قرض بقيمة 500 مليون دولار من السعودية، ناهيك عن إعلان البنك الأوروبي إعادة الإعمار والتنمية في 20 فبراير 2024 بتمويل مشاريع جديدة في تونس؛ فإن هذه الموارد قد لا تكفي لتسكين أوجاع الأزمة الاقتصادية في البلاد.
3- تراجع مؤشرات الاقتصاد الكلي: تصاعدت حدة الأداء الاقتصادي مع فشل الإجراءات التقليدية في التحايل على الأزمة المالية، وكشف عن ذلك تراجع مؤشرات الاقتصاد بصورة غير مسبوقة، فوفقاً لمعهد تونس الوطني للإحصاء، بلغ معدل التضخم 7.8 بالمائة في يناير 2024، بينما بلغت نسبة البطالة 16.4 بالمائة. كما يتوقع أن يصل النمو الاقتصادي التونسي إلى نحو 1.8 في المائة، وذلك وفقاً لتقرير الأمم المتحدة “الحالة والتوقّعات الاقتصادية لسنة 2024”.
4- الارتدادات العكسية لأزمات الداخل على الاقتصاد: شهد الداخل التونسي العديد من الأزمات التي انعكست بصورة لافتة على أداء الاقتصاد، في الصدارة منها دخول العلاقة مناخ الشحن بين الاتحاد التونسي للشغل والرئيس قيس سعيد، بعد انتقاد رئيس الاتحاد نور الدين الطبوبي خلال تجمع عمالي كبير بساحة القصبة في 3 مارس الجاري، على خلفية تأخر الحكومة في فتح باب المفاوضات الاجتماعية لتحسين أوضاع منتسبي الاتحاد في القطاع الحكومي. بالإضافة إلى التنديد بالتدهور الحاصل للقدرة الشرائية للعمال والمتقاعدين. وتجدر الإشارة إلى احتشاد أنصار الاتحاد العام التونسي للشغل أمام مقر رئاسة الحكومة في 1 مارس الجاري للتنديد بالوضع الاجتماعي والاقتصادي المتردي، ورفع المتظاهرون لافتات كتبوا عليها “الحقوق الاقتصادية والاجتماعية عماد الديمقراطية الحقيقية”، و”دفاعاً عن الحوار الاجتماعي والمقدرة الشرائية”.
بالتوازي، أثار مشروع قانون ينظم إنشاء الجمعيات وتمويلها مخاوف كبيرة في البلاد، والذي يتزامن مع تردي الأوضاع الاقتصادية، حيث تدعم الكثير من هذه المنظمات أنشطة مهمة على غرار الصناعات التقليدية، والتدريب المهني، ومساعدة النساء المعنّفات.
اتجاهات متعددة
تعيش تونس أزمة اقتصادية حادة وغير مسبوقة، فاقمتها التجاذبات السياسية بين الرئيس قيس سعيد وخصومه في المعارضة، وهو ما يحمل في طياته تأثيرات محتملة على مستقبل الرئيس قيس سعيد، وموقعه في السلطة السياسية خلال المرحلة المقبلة. وثمة اتجاهات متعددة في هذا السياق، يُمكن بيانها كالتالي:
الاتجاه الأول، استمرار الحضور اللافت للرئيس التونسي: ثمة تقديرات محلية تشير إلى قدرة الرئيس سعيد على الاحتفاظ بحضوره على الساحة التونسية، بفعل إمكانات محتملة لتجاوز الأزمة الاقتصادية الراهنة، خاصة بعد اتخاذ سلسلة من الإجراءت الميداينة، منها تعيين فتحي النوري محافظاً جديداً للبنك المركزي في منتصف فبراير الماضي، وربما يحمل ذلك تغييراً في السياسة النقدية بعد خلافات متعلقة بها وبالتمويل الحكومي المباشر. كما سبق هذه الخطوة تعيين ثلاثة وزراء جدد في الحكومة التي يقودها أحمد الحشاني، وشملت حقائب وزارية تتعلق بمجالات الاقتصاد، والصناعة، والطاقة والتشغيل.
على صعيد متصل، لا يزال الرئيس قيس سعيد يحظى برصيد تقليدي في أوساط قطاعات مجتمعية في الداخل التونسي، خاصة بعد رفضه اشتراطات صندوق النقد الدولي التي تتعلق برفع الدعم، وتعديل الأجور. وتجدر الإشارة إلى أن الرئيس قيس سعيد جدّد، في 21 يناير الماضي، رفضه أيّ شروط أو إملاءات من أيّ جهة من أجل حلّ مشاكل الاقتصاد المحلي والخروج من الأزمة الاقتصادية والمالية الراهنة.
في المقابل، فإن ثمة حرصاً أوروبياً على دعم الاقتصاد التونسي، وظهر ذلك في زيارة رئيسة البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية أوديل رينو باسو في 19 فبراير 2024 لتونس، وأكدت في تصريحات لها على حرص دول الاتحاد الأوروبي على دعم برنامج الإصلاح لخلق الفرص الاقتصادية وتمويل القطاع الخاص وتعميق البعد الإيكولوجي للاقتصاد. وتابعت أن البنك الأوروبي على استعداد لدعم السلطات التونسية في جهودها الرامية إلى تنفيذ الإصلاحات الهادفة إلى دعم النمو وفرص العمل ودعم الفئات الضعيفة.
الاتجاه الثاني، حدوث انتكاسة سياسية للرئيس سعيد: على الرغم من الإجراءات الرئاسية للتحايل على الأزمة الاقتصادية الراهنة، فإن الرئيس قيس سعيد قد يتعرض لانتكاسة سياسية خلال المرحلة المقبلة بفعل العجز عن تحقيق اختراق جذري للأزمة الاقتصادية، ومن ثم تتصاعد إمكانية حدوث انهيار مالي خطير، وهو ما قد ينعكس على شعبية الرئيس سعيد. وثمة مؤشرات لا تستبعد هذا السيناريو، على النحو التالي:
أولها: توجه الرئيس لتوظيف البرلمان لتمرير طلب حكومي في فبراير الماضي للحصول على تمويل مباشر من البنك المركزي بقيمة 2.25 مليار دولار، في خطوة تهدف إلى سداد الديون الخارجية العاجلة. والواقع أن استخدام احتياطيات الدولة من العملات الأجنبية تدريجياً قد يؤدي إلى حدوث تهافت على سحب الودائع، ومن ثم انهيار قيمة العملة الوطنية.
وثانيها: تفاقم الارتدادات السلبية لسياسة التقشف التي تبنتها حكومات قيس سعيد، فلا يزال نقص السلع الأساسية وعدم توافرها في السوق التونسية يمثل إشكالية كبيرة.
وثالثها: انعكاس حالة الاستقطاب السياسي في الساحة التونسية على الأداء الاقتصادي، وكشف عن ذلك الانتخابات البرلمانية التي أُجريت مطلع العام الماضي، فلم يشارك سوى 14 في المائة من التونسيين، فضلاً عن مقاطعة أحزاب المعارضة للاقتراع، واتهام السلطة بالتزوير لمصلحة الموالاة.
ورابعها: تخفيض التصنيف الائتماني لتونس، ففي ديسمبر 2023 أبقت وكالة “فيتش” للتصنيف الائتماني تصنيف تونس عند “-CCC”، متوقعة استمرار تراجع النمو الاقتصادي.
وخامسها: يرتبط بالتراجع الحادث في الأوضاع المعيشية والاقتصادية، وهو ما يُنذر بتفاقم الاحتقانات الاجتماعية، وتراجع الرصيد التقليدي للنظام الحاكم، خاصة مع تصاعد الشكوك في قدرة البلاد على تلبية وتأمين رواتب الموظفين خلال المرحلة المقبلة في ظل أزمة مالية خانقة، وهنا يمكن فهم عودة الاحتجاجات العمالية التي يقودها اتحاد الشغل.
الاتجاه الثالث، تراجع نسبي في شرعية الرئيس سعيد: برغم أن الرئيس قيس سعيد لم يتمكن من وضع حل للأزمة المالية التي تشهدها تونس، فإن ذلك ربما لا يعني انهياراً كاملاً لحضوره السياسي، إذ يتوقع أن تتراجع شعبيته بصورة نسبية من دون أن يفقد رصيده كاملاً. وربما يدعم ذلك إبداء الرئيس حرصاً على رفضه بيع الأصول العامة، فضلاً عن فتح الباب مع المصالحات في قضايا الفساد مقابل عودة حقوق الدولة. بيد أن استمرار حالة الاستقطاب السياسي، ورفض جانب من المعارضة التونسية لسياسات سعيد الداخلية، قد يسحب من حضوره الداخلي.
تعقد الأزمة
ختاماً، يمكن القول إنه بات من المؤكد أن الأزمة الاقتصادية في تونس قد تحمل في طياتها انعكاسات محتملة ومباشرة على حضور الرئيس قيس سعيد على الساحة السياسية التونسية، وبرغم اتخاذه سلسلة من الإجراءات لمعالجة الأزمة المالية إلا أن التعقيد الحاصل في المرحلة المقبلة، خاصة مع عدم الوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، وحدود الموارد الذاتية في تلبية احتياجات البلاد، قد يؤثر على رصيده التقليدي خلال المرحلة المقبلة.