أبعاد متباينة:
كيف انعكست الأحداث الرياضية على العلاقات الإقليمية؟

أبعاد متباينة:

كيف انعكست الأحداث الرياضية على العلاقات الإقليمية؟



ألقت الأحداث الرياضية في دول الإقليم، وبخاصة تلك المتعلقة بكرة القدم، بانعكاسات متباينة على العلاقات البينية بين دول الشرق الأوسط، وكان آخرها التوتر التركي الإسرائيلي على خلفية إيقاف الاتحاد التركي لكرة القدم لاعباً إسرائيلياً بالدوري التركي على خلفية دعمه للحرب الإسرائيلية في قطاع غزة. وبرغم أن هذا الحادث ليس هو الأول من نوعه في الإقليم، إلا أنه كشف عن تسييس الرياضة بصورة لافتة بين دول الإقليم وخاصة بعد الحرب على غزة، وتجاوز التوترات البينية للقوى الإقليمية كالتي بين السعودية وإيران، وتأجيج التوتر الجزائري المغربي، وتجاوز العزلة الدولية لبعض النظم السياسية “المنبوذة” مثل النظام السوري، وإبراز القوة الناعمة لدول الإقليم كالسعودية، وتوظيف كرة القدم في الاستقطابات السياسية المحلية.

شهد الدور التركي لكرة القدم سجالاً سياسياً على خلفية تطورات الحرب في غزة، بعد توقيف أنقرة في 14 يناير الجاري لاعب كرة القدم الإسرائيلي ساغيف ييهيزكيل، مهاجم نادي أنطاليا سبور التركي، بتهمة “التحريض على الكراهية”، بعد حركة ذات طابع سياسي قام بها عقب تسجيله هدفاً في مباراة فريقه ضد طرابزون سبور، أظهرت دعمه للمذابح الإسرائيلية ضد سكان غزة. وكانت هذه الأزمة قد سبقها ما يمكن اعتباره خطوة أخرى مماثلة لتوظيف كرة القدم اللعبة الأكثر شعبية في التفاعلات السياسية الإقليمية، فقد سبق ذلك تعليق الرباط في يناير 2023 مشاركتها في كأس أمم أفريقيا للمحليين، بعد إغلاق الجزائر مجالها الجوي أمام الطائرات المغربية. وهكذا بدا واضحاً مدى تأثير السياقات السياسية على توسيع رقعة الخلافات بين القوى الإقليمية والدولية، وهو ما انعكس على “تسييس الرياضة” من خلال تحويل المنافسات الرياضية إلى حلبة لإظهار المواقف السياسية.

حالات كاشفة

ثمة العديد من الأحداث التي جاءت كاشفة عن تسييس الرياضة، وارتباطها بالعلاقات السياسية الخارجية لدول الإقليم، وهو ما يمكن بيانه على النحو التالي:

1- تسييس الرياضة بعد الحرب على غزة: دخلت العلاقات التركية الإسرائيلية مناخ الشحن مجدداً بعد اعتقال تركيا في 14 يناير الجاري اللاعب الإسرائيلي ساغيف ييهيزكيل إثر إبدائه تضامناً مع رهائن حرب غزة خلال مباراة في الدوري الممتاز في تركيا، واتهم وزير العدل التركي “يلماز تونج” اللاعب ييهيزكيل بالتحريض العلني على الكراهية بسبب إيماءته البغيضة الداعمة للمجزرة التي ترتكبها إسرائيل في غزة.

أثارت هذه الإجراءات التركية غضب الجانب الإسرائيلي، ففي 15 يناير الجاري اعتبر وزير الدفاع الإسرائيلي “يوآف جالانت” أنه من غير المقبول على الإطلاق توقيف اللاعب الإسرائيلي، كما اتهم أنقرة بأنها “في الواقع الذراع التنفيذية لحركة حماس”. ومن جهته قال وزير الأمن القومي الإسرائيلي إتمار بن غفير، إن “تركيا تعمل ضد جهات إسرائيلية”. وأضاف: “أردوغان نازي بكل الطرق”. ودعا مواطني بلاده إلى عدم السفر إلى تركيا، كما دعاهم إلى مقاطعة المنتجات التركية. ولم تكن حادثة اللاعب “ييهيزكيل” هي الأولى من نوعها في تركيا، ففي يناير الجاري، نشر اللاعب الإسرائيلي “إين كارزيف”، المحترف بنادي “باشاك شهير التركي”، رسالة عبر إنستجرام كتب فيها: “100 أعيدوهم إلى الديار الآن” في إشارة إلى المحتجزين في غزة.

بالتوازي، كانت الحرب على غزة العنوان الأبرز في الملاعب الأوروبية، وظهر ذلك مثلاً في معاقبة الاتحاد الفرنسي الجزائري يوسف عطال لاعب نيس الفرنسي، بعد نشره في ديسمبر الماضي فيديو على إنستجرام، يدعم فيه فلسطين، وهو ما دفع الجاليات اليهودية للمطالبة بطرده من نيس، كما تم اتهامه من القضاء الفرنسي بمعاداة السامية. كما أعلن نادي “ينز الألماني” في أكتوبر 2023 إيقاف اللاعب الهولندي من أصول مغربية أنور الغازي لمدة 8 أشهر عن ممارسة كرة القدم بسبب دعمه للقضية الفلسطينية، حيث قال في منشور له: “قف مع الحق حتى لو كان ذلك يعني الوقوف وحدك، وخسارة مصدر رزقي ليست شيئاً مقارنة بالجحيم الذي تم إطلاقه على الأبرياء والضعفاء. أوقفوا القتل”.

وفي سياق تأثير تطورات الأحداث في غزة على الرياضة، انتقد الإسرائيلي نير بيتون لاعب سلتيك الأسكتلندي السابق، جماهير النادي بعد أن رفعوا لافتات دعماً لفلسطين والمقاومة الفلسطينية بعد عملية “طوفان الأقصى”. ومن جهته روج اللاعب الإسرائيلي “مانور سولمون” في نادي توتنهام للرواية الإسرائيلية بشأن قصف المستشفى المعمداني، وقال: “يقتلون شعبهم ويلومون إسرائيل”.

2- تأجيج التوتر الجزائري المغربي: كانت الرياضة حاضرة بصورة لافتة في الخلاف المغربي الجزائري، حيث أشعلت كرة القدم التوتر بين البلدين في يناير 2023، بعد رفض السلطات الجزائرية الموافقة على السماح بعبور الطائرة المغربية التي تقل لاعبي المنتخب المغربي، بالنظر إلى قرار الجزائر في سبتمبر 2021 بإغلاق مجالها الجوي في وجه الطائرات المغربية في ظل توتر دبلوماسي بين البلدين. وترتب على هذا القرار إعلان الاتحاد المغربي لكرة القدم عدم مشاركة منتخبه الوطني في بطولة أمم أفريقيا للمحليين بالجزائر التي استضافتها الجزائر، قبل أن يتدخل الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) والاتحاد الأفريقي لكرة القدم لإقناع المغرب بالمشاركة في البطولة، وسفر الفريق المغربي عبر طيران طرف ثالث.

3- تجاوز التوترات البينية للقوى الإقليمية: لم يقتصر تأثير الرياضة على السياقات السياسية المحلية أو الصراعات التي يشهدها الإقليم، بل امتد إلى العلاقات بين دول الإقليم، حيث ساهمت الرياضة بصورة لافتة خلال العامين الماضيين في دفع العلاقات الإقليمية قدماً إلى الأمام، وبرز ذلك في التحسن الحادث بين القاهرة وأنقرة عشية لقاء الرئيس المصري السيسي ونظيره التركي أردوغان على هامش مونديال قطر في العام 2202.

بالتوازي، ساهمت كرة القدم في تحقيق نقلة نوعية إضافية للتقارب السعودي الإيراني، وذلك بعد لقاء فريق النصر السعودي مع نظيره الإيراني برسبوليس في سبتمبر 2023 على ملعب أزادي في طهران. ويُعد هذا اللقاء الرياضي هو الأول من نوعه منذ نحو 7 سنوات بين البلدين بنظام الذهاب والعودة، وذلك بعد إقامتها على أرض محايدة منذ 2016 بسبب القطيعة الدبلوماسية بين البلدين. وتجدر الإشارة إلى أن اللقاءات الرياضية بين البلدين منذ عودة العلاقات في مارس الماضي، جاءت بعيدة عن المشاحنات السياسية، وهو ما ساهم في تسريع وتيرة التقارب بين البلدين.

4- تجاوز العزلة الدولية لبعض النظم السياسية: يسعى أي نظام حاكم إلى دعم صورته خارجياً، خاصة خلال المناسبات والأحداث الرياضية التي تحظى بمتابعة واهتمام الشعوب، وفي الصدارة منها كرة القدم. فعلى سبيل المثال، أبدى الرئيس السوري بشار الأسد خلال الأونة الأخيرة اهتماماً بالرياضة لتعزيز حضوره خارجياً، وفك العزلة التي تعانيها دمشق منذ العام 2011 بسبب الصراع الداخلي، وفرض القوى الغربية وبعض دول الإقليم عقوبات على دمشق حتى يحدث تغير سياسي ملموس.

ويبدو أن الأسد بات يعي في ظل الاهتمام العالمي بالأحداث الرياضية، أن أي انتصار رياضي يمكن أن يوفر بيئة خصبة لفك عزلته، وتطوير صورته الذهنية خارجياً. وهنا يمكن فهم إبداء النظام السوري أولوية للانخراط في المسابقات الرياضية الدولية، ولعل ما يؤكد هذه النزعة لتسييس الرياضة في سوريا، ما عبر عنه الرئيس السوري خلال لقائه في مايو 2023 مع رئيس الاتحاد الآسيوى لكرة القدم، حيث كشف عن جهود حكومته لضبط الأمن، ودعم الخدمات اللوجستية للأندية السورية، تمهيداً لإعادة استضافة المباريات الدولية.

5- إبراز القوة الناعمة لدول الإقليم: مثّلت الرياضة وفي الصدارة منها كرة القدم في التوقيت الحالي أداة جوهرية لإبراز القوة الناعمة لبعض دول الإقليم، وهو ما حاولت الإمارات والسعودية وقطر التركيز عليه بسعيها لاستضافة البطولات الدولية والقمم الكروية في دول الإقليم. فبينما من المقرر أن يستضيف موسم الرياض السوبر التركي بين ناديي غلطة سراي وفنربخشة، وذلك بعد تأجيله في 30 ديسمبر الماضي، احتضنت الإمارات في أكتوبر 2023 معسكر المنتخب الوطني المصري، كما استضافت في مايو الماضي كأس السوبر المصري. أما قطر فقد نجحت في تنظيم بطولة كأس العام 2022، وهو ما وفر لها بيئة استثنائية لتحسين صورتها واستعادة مصداقيتها في العالم، ولا سيما بعد تصاعد الانتقادات الدولية عبر الوسائل الإعلامية والمنظمات الحقوقية بدعوى انتهاك حقوق العمالة الأجنبية خاصة الآسيوية منها.

6- توظيف كرة القدم في الاستقطابات السياسية المحلية: لم تكن الاستقطابات السياسية المحلية داخل بعض الدول بين القوى والأحزاب السياسية بعيدة عن توظيف الرياضة، وبخاصة كرة القدم في التأثير على التوجهات السياسية الداخلية أو الحد من قدرة المنافسين السياسيين المحليين. فعلى سبيل المثال، كانت الشعارات السياسية والخلافات الأيديولوجية حاضرة في مباراة نهائي كأس السوبر التركي بين ناديي غلطة سراي وفنربخشة، والذي كان من المقرر إقامته في 29 ديسمبر الماضي بالعاصمة السعودية الرياض، قبل أن يتم تأجيله بعد رفض السلطات السعودية رفع عبارات سياسية وارتداء قمصان تحمل صوراً لمؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك. وأثار هذا الحادث غضب الحزب الحاكم في تركيا، حيث انتقد الرئيس التركي سلوك الناديين، وسعى إلى توظيف المشهد سياسياً للخصم من رصيد المعارضة قبل الانتخابات المحلية المقرر لها نهاية مارس 2024.

انعكاسات متفاوتة

انعكست الأحداث الرياضية في الإقليم، وبخاصة كرة القدم، على الأوضاع السياسية سواء داخل دول الإقليم أو في علاقاتها البينية، فبينما نجحت الانتصارات الرياضية في تعزيز شرعية النظم السياسية وتجاوز عزلة بعضها، وعكست تجاوز التوتر في العلاقات البينية بين دول الإقليم، مثلما حدث في علاقات القاهرة مع أنقرة والدوحة، وكذلك العلاقات السعودية الإيرانية. في المقابل، كان لاختلاط الرياضة بالسياسة تأثير عميق في دفع بعض التوترات بين دول الإقليم نحو مزيد من التسخين، وظهر ذلك عشية توقيف أنقرة في يناير الجاري لاعب كرة قدم إسرائيلي في الدوري التركي، على خلفية دعمه للمجازر الإسرائيلية في غزة، فما إن تم الإعلان عن توقيف اللاعب الإسرائيلي المحترف في تركيا، حتى انبرت وسائل إعلام إسرائيلية، بصورة مكثفة ومنسقة، مع أخرى غربية، لانتقاد تلك الخطوة التركية. كما سعت تل أبيب إلى استغلال توقيف اللاعب الإسرائيلي، لإنعاش مظلومية اليهود من جهة، وتبرير هجومها على المقاومة الفلسطينية، وبخاصة حماس المدعومة من تركيا بحسب نخب الحكم الإسرائيلية من جهة أخرى.

توظيف سياسي

ختاماً، يمكن القول إن ثمة توظيفاً سياسياً لافتاً من جانب دول الإقليم للأحداث الرياضية، واستثمارها ليس فقط في دعم شرعية النظم السياسية في الداخل، وإنما تحقيق انتصارات على المستوى الخارجي. لذلك بات من الواضح في التوقيت الحالي أن العلاقات السياسية الإقليمية تنعكس في جانب معتبر منها على تسييس الرياضة.