تطرح عملية كرمان دلالات عديدة تتمثل في تراجع الجاهزية الأمنية الإيرانية، وتزايد احتمالات نجاح داعش في استقطاب مزيد من العناصر المناوئة لإيران لأسباب مجتمعية، ونجاحه في اختراق الحدود بين إيران وكلٍّ من أفغانستان وباكستان، وترويجه إلى أن تنفيذ العملية يمثل “ثأراً” من الدور الذي كان يقوم به قائد فيلق القدس السابق قاسم سليماني قبل اغتياله.
إذ تُشير العملية التي وقعت في مدينة كرمان الإيرانية، في 3 يناير الجاري، خلال الاحتفال بحلول الذكرى الرابعة لمقتل القائد السابق لفيلق القدس التابع للحرس الثوري قاسم سليماني، والتي أعلن تنظيم داعش في اليوم التالي مسؤوليته عنها؛ إلى أن التنظيم يسعى لاستغلال بعض الثغرات الأمنية، فضلاً عن عدد من الآليات من أجل النفاذ إلى داخل إيران وتنفيذ مزيد من هذه العمليات خلال المرحلة القادمة، وهو ما يعني أن إيران تواجه خطراً يتفاقم تدريجياً، يعود -في قسم منه- إلى المفاعيل العكسية التي بدأت السياسة التي تتنباها في المنطقة تنتجها ضدها.
دلالات عديدة
تطرح العملية التي وقعت في كرمان وأعلن تنظيم داعش مسؤوليته عنه دلالات عديدة ترتبط بملفات داخلية وخارجية مهمة، ويتمثل أبرزها في:
1- تراجع الجاهزية الأمنية الإيرانية: تكشف العملية بوضوح أن الجاهزية الأمنية الإيرانية تراجعت بشكل كامل للتعامل مع هذا المستوى من التهديدات النوعية. فقد قام داعش بتنفيذ العملية الجديدة في وقت تراجعت فيه قدراته العملياتية والتنظيمية بشكل كبير بفعل الضربات العسكرية والأمنية التي تعرض لها في الفترة الماضية من جانب قوى وأطراف عديدة إقليمية ودولية.
ورغم تعدد أجهزة الاستخبارات والأمن في إيران، فإنها لم تستطع كشف هذا المخطط من البداية وبالتالي تحييده ومنع العناصر المكلفة بتنفيذ العملية من الوصول إلى هدفها. ومن هنا، يمكن تفسير جانب من أسباب تعمد السلطات في إيران مواصلة توجيه اتهامات لإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية بالتورط في الحادث، وذلك من أجل توجيه الانتباه بعيداً عن الخلل الأمني الكبير الذي كشفه الحادث، وإضفاء وجاهة خاصة على الادعاءات التي تروج لها والتي تقوم على أن عملية نوعية بهذا المستوى لا يستطيع داعش في ظل تراجع قدراته حالياً القيام بها وحده.
فقد قال خطيب جمعة طهران أحمد خاتمي، خلال خطبة صلاة الجمعة، في 5 يناير الجاري، إنه “رغم أن داعش أصدر بياناً وأعلن مسؤوليته عن حادث كرمان، إلا أن ذلك لا ينفي أنه صنيعة أمريكا والكيان الصهيوني”.
وإذا كان خاتمي قد أدلى بهذا التصريح خلال صلاة الجمعة، فإن ذلك معناه أن هذه المقاربة تحظى بقبول ودعم من جانب المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي الذي يقوم بتعيين أئمة صلاة الجمعة كممثلين عنه، فضلاً عن أن خاتمي نفسه يحظى بموقع خاص داخل المؤسستين الدينية والسياسية في إيران، كونه إلى جانب أنه ممثل المرشد في صلاة الجمعة، فهو عضو هيئة رئاسة مجلس خبراء القيادة الذي يتولى مهمة تعيين وعزل المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي ومراقبة أعماله.
2- وقوع كرمان بالقرب من الحدود الباكستانية والأفغانية: كان لافتاً أن العملية التي نفذها داعش وقعت في كرمان، وهي ملاصقة لإقليم سيستان بلوشستان، الذي يقع على الحدود بين إيران وكل من أفغانستان وباكستان. وربما يعني ذلك أن العناصر التي نفذت العملية قامت بالتسلل من إحدى الدولتين والدخول إلى إقليم سيستان بلوشستان ثم النفاذ إلى داخل كرمان حتى موعد تنفيذ العملية.
وفي هذا السياق، أبدت وسائل الإعلام الإيرانية اهتماماً خاصاً بالتغريدة التي كتبها ما أطلقت عليه “القائد السابق لتنظيم داعش خراسان” عبد الرحيم مسلم دوست على موقع “إكس”، والتي أشار فيها إلى أن “العناصر التي قامت بتنفيذ العملية تسللت إلى إيران عبر باكستان في 13 ديسمبر الفائت، أي قبل ثلاثة أسابيع تقريباً من تنفيذ العملية”، وقد حاول نفي الاتهامات الموجهة إلى تنظيم داعش خراسان بالمسؤولية عن العملية، حيث قال إن “داعش له وجود دعائي وإعلامي فقط في أفغانستان، ولا يمتلك وجوداً مادياً”، موجهاً اتهاماً غير مباشر إلى الاستخبارات الباكستانية بأنها تقوم بتكوين خلايا وتطلق عليها اسم داعش لخدمة حسابات خاصة بها.
3- استنفار الطاجيك ضد إيران: يبدو أن تنظيم داعش استغل حالة التوتر التي تبدو جلية في العلاقات بين إيران وطاجيكستان، من أجل استقطاب عناصر طاجيكية لتنفيذ عملياته داخل إيران. وهنا، فإن هذا التوتر لا ينحصر في المستوى السياسي بين الحكومتين، وإنما يمتد إلى المجتمع الطاجيكي، في ظل حرص إيران على النفاذ إلى داخل هذا المجتمع ودعم مكونات مجتمعية بعينها.
فعلى المستوى السياسي، كانت طاجيكستان دائماً ما توجه اتهامات لإيران بإرسال “قتلة” خلال فترة الحرب الأهلية التي امتدت بين عامي 1992 و1997. كما اتهمتها بتقديم دعم لحزب “النهضة الإسلامي” الذي كانت السلطات الطاجيكية قد صنفته كتنظيم إرهابي، خاصةً بعد أن استضافت زعيمه محيي الدين كبيري في مؤتمر الوحدة الإسلامية الذي عقدته في عام 2015. فضلاً عن أن السلطات الطاجيكية وجهت تحذيرات متكررة من المخاطر والتهديدات التي يفرضها نشاط بعض المؤسسات “الخيرية” الإيرانية في الداخل، والتي تسمى بـ”البونياد”، معتبرة أنها تسعى إلى استقطاب مزيد من الشباب الطاجيكي لدعم وتبني الخطاب الأيديولوجي الإيراني. وقد دفع ذلك السلطات، في 13 يوليو 2017، إلى إغلاق مكاتب تابعة للممثليات التجارية والثقافية الإيرانية ومنع نشر كتب الخميني.
المهم في ذلك كله هو أن هذا التدخل الإيراني المباشر في الشؤون الداخلية الطاجيكية أنتج رد فعل مجتمعياً مناوئاً، وبالتالي ساعد ذلك تنظيم داعش في استقطاب بعض العناصر التي تتبنى هذا النهج المناوئ لإيران، رغم أن هناك تقارير تشير إلى وجود علاقة بين داعش وحزب النهضة الإسلامي الذي تُتهم إيران بدعمه.
4- استغلال أدوار القائد السابق لفيلق القدس التابع للحرس الثوري قاسم سليماني: يبدو أن داعش أيضاً استغل الأدوار التي كان يقوم بها قاسم سليماني القائد السابق لفيلق القدس التابع للحرس الثوري، على المستوى الخارجي، ولا سيما في العراق وسوريا، حيث كان له دورٌ بارز ورئيسي في تكوين المليشيات الشيعية التي حاربت إلى جانب الحكومة في العراق ونظام بشار الأسد في سوريا، وهو ما كان له دور، في رؤية داعش، في التطورات الميدانية التي طرأت على الساحتين، خلال الأعوام الماضية، والتي تسببت في تراجع نفوذه بشكل واضح وفقدانه المساحة الأكبر من المناطق التي سبق أن سيطر عليها منذ بداية ظهوره في العراق في منتصف عام 2014.
ويعني ذلك أن تنظيم ربما سعى إلى استقطاب بعض العناصر ودفعهم إلى التسلل إلى داخل حدود إيران، ثم تنفيذ العملية في كرمان، من أجل ما يطلق عليه “الثأر” من الأدوار التدخلية التي تقوم بها إيران، ويرمز لها قاسم سليماني الذي وقعت العملية بالقرب من قبره خلال الاحتفال بذكرى رحيله.
وقد كان لافتاً أن السلطات الإيرانية سبق أن أوقفت ووجهت اتهامات لعناصر طاجيكية أيضاً بعد العمليات التي تعرضت لها إيران سابقاً، على غرار الهجوم على ضريح “شاه جراغ” في 14 أغسطس الماضي.
تهديدات مستمرة
في ضوء ذلك، يمكن القول إن إيران تواجه تهديدات مستمرة من جانب بعض خصومها، وهو ما يمثل -في قسم منه- أحد التداعيات التي فرضتها التدخلات المستمرة من جانبها في بعض الأزمات الإقليمية، على غرار ما يحدث في العراق وسوريا ولبنان والأراضي الفلسطينية واليمن، وهي تهديدات قد تتفاقم في ظل الثغرات الأمنية التي ما زالت تعاني منها رغم تزايد نفوذ الأجهزة الأمنية والاستخباراتية داخلها.