نظّم مركز “العالم العربي للأبحاث والدراسات المتقدمة”، بالقاهرة، بتاريخ 16 فبراير 2022، جلسة استماع بعنوان “كيفية التأثير داخل الولايات المتحدة لإحداث تحولات في السياسة الأمريكية تجاه المنطقة العربية“. واستضاف المركز الدكتور محمد كمال أستاذ العلاقات الدولية بجامعة القاهرة ومدير معهد البحوث والدراسات العربية (كمتحدث رئيسي في الجلسة)، كما شارك في الجلسة عدد من الخبراء والباحثين المتخصصين في مجالات مختلفة، وهم: الدكتور محمد عز العرب، والدكتور محمد عباس ناجي، والأستاذ أحمد عليبة، والدكتور أحمد أمل، والأستاذ عمرو عبدالعاطي، والأستاذ محمد الفقي، والأستاذ هيثم عمران، والأستاذة ميرفت زكريا.
محدِّدات مفتاحية
تطرق كمال إلى أن النظام السياسي الأمريكي لا يمكن وصفه بأنه نظام يقوم على الفصل بين السلطات، ولكنه نظامٌ قائم على مؤسسات منفصلة، ولكن تشارك في صنع القرار على مستوى السياسة الخارجية، وهذا يرتبط بفلسفة النظام الأمريكي الذي يقوم على “الرقابة والتوازن”.
ويؤكد على مشاركة الكونجرس للرئيس الأمريكي في صنع السياسة الخارجية، عبر دورين، الأول: من خلال عملية التمويل، إذ إن أي برنامج تنفيذي يحتاج إلى التمويل، وهنا فإن الكونجرس هو الذي يحدد الأموال والمشروطية المتعلقة بها. والثاني: يتعلق بالتشريع، فالكونجرس يمتلك سلطة تشريع في السياسة الخارجية، فمعظم القوانين التي تتعلق بالشرق الأوسط تخرج من الكونجرس، وأحياناً يعترض الرئيس الأمريكي عليها.
الفاعلون الرئيسيون
ويحدد كمال المؤسسات والجهات التي تؤثر على عملية صنع السياسة الخارجية في الولايات المتحدة، ومن أهمها:
1- جماعات المصالح أو لوبيات الضغط: وهي جماعات لها إطار قانوني حاكم، خاصة أن النظام السياسي الأمريكي يشجع جماعات المصالح، مع الرغبة في تحقيق التوازن بين المصالح. ويتضح تأثير جماعات المصالح في عملية صنع القرار، من خلال أمرين، الأول: الأصوات، من خلال القدرة على تجميع أكبر عدد من الأصوات للمرشح، والثاني: التمويل، المتمثل في جمع تبرعات للمرشح، وكلما كانت جماعات المصالح قادرة على أداء الأمرين كانت أقوى.
وبغض النظر عن الأشكال المتعددة لجماعات المصالح الإثنية والمرتبطة بطائفة معينة، فإن هناك جماعات لها دور كبير على الساحة الأمريكية، تلك المرتبطة بقضية حقوق الإنسان وقضايا البيئة وقضايا نزع السلاح، كما أن هناك جماعات مصالح ترتبط بالشركات الأمريكية، يمكن أن تمارس التأثير مثل شركات السلاح أو البترول.
وبالحديث عن جماعات المصالح العربية، فإن هناك جهوداً ولكنها غير منظمة، غير أنه يمكن الاهتمام بالجيل الثاني من العرب الأمريكيين، والاستثمار فيهم، خاصة أن عددهم كبير، وبعضهم اندمج في العملية السياسية.
2- شركات العلاقات العامة: هذه الشركات لها إطار قانوني يسمح للدول والشركات والأفراد الأجانب بالعمل معها، إذ إنها تعمل في إطار من الشفافية من خلال تسجيل العقود في وزارة العدل الأمريكية. ويختلف دورها عن جماعات المصالح أو الضغط، لكنها تساعد في التحركات على مستوى نواب الكونجرس عبر استغلال اتصالاتها، وتقديم بعض الاستشارات حول النقاط التي يمكن التحدث حولها، والمفردات التي يمكن استخدامها، ولكنها لا تملك التأثير.
وعند اختيار هذه الشركات فإنه يمكن الاهتمام باستمرار التواصل معها وإمدادها بالمعلومات والتشاور المستمر معها، إضافة إلى حسن اختيار تلك الشركات، فليس من الحكمة مثلاً اللجوء إلى شركة جمهورية والإدارة الأمريكية ديمقراطية، إضافة إلى الاهتمام باختيار الشركة وفقاً للهدف المحدد، فهناك شركات يمكن أن تعمل في دوائر الإدارة التنفيذية، وأخرى تتميز بالعمل في دوائر الكونجرس.
3- مراكز أو بنوك التفكير: وهي مراكز تمتلك التأثير على عملية صنع القرار، من خلال طرح بعض الأفكار مثل “دمج الإسلاميين”، حتى تأتي إدارة تتبنى هذا الطرح. وعلى المستوى العربي هناك قدر من النجاح النسبي في التعامل مع مراكز التفكير الأمريكية، من خلال إنشاء مراكز أبحاث في واشنطن، واستضافة دول عربية مراكز أبحاث أمريكية على أراضيها، أو من خلال تمويل بعض مراكز الأبحاث، وهذا مسموح طالما هناك شفافية، وهذا الاهتمام بمراكز التفكير يساعد على التواصل، ولكن يلاحظ أن هناك ضعفاً على مستوى وجود أصوات عربية في مراكز الأبحاث الأمريكية.
4- وسائل الإعلام: لها دور أساسي في تشكيل الرأي العام، وبالتالي تؤثر على صانع القرار، وعلى عكس الانطباع فإنها وسائل متحيزة لوجهات نظر أيديولوجية، ويظهر هذا في صفحات الرأي أو في رأس الجريدة، ولا تزال وجهة النظر العربية تشغل مساحات محدودة في التغطية، إذ تقتصر على شراء صفحة إعلانية، أو الكتابة تحت باب “رد للمحرر”، ولم يكن هناك نجاح على مستوى كتابة أسماء عربية كبيرة في الصحف الأمريكية، ولكن لا بد من النظر إلى أن التواصل والتعبير عن الرؤية العربية يبدأ من المراسلين الأجانب في الدول العربية، وهنا يمكن الاهتمام بهؤلاء المراسلين ودرجة من التواصل والنقاش معهم.
سمات إدارة بايدن
وحدد كمال عدداً من السمات العامة المميزة لإدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن على مستوى السياسة الخارجية، والتي تختلف عن سلفه دونالد ترامب، كالتالي:
1- عودة المؤسسية: أهم ما يميز إدارة بايدن، عودة المؤسسية في عملية صنع القرار، بخلاف عهد ترامب، فقد كانت المسألة تتعلق بشخصه وجاريد كوشنر وأشخاص محددين، خاصة فيما يتعلق بقضايا الشرق الأوسط، ولكن يبدو أن بايدن لا يعطي أولوية للشرق الأوسط، ضمن تراجع الاهتمام بالقضايا الخارجية، إذ يفوض المؤسسات في عملية صنع القرار مثل وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي ووزارة الدفاع، اعتماداً على اختيار أشخاص لهم ولاء له. وللتأثير على المؤسسة التنفيذية في الولايات المتحدة، يجب التعامل مع كل هذه المؤسسات، إذ لكل منها وجهة نظر في السياسة الخارجية.
2- الاهتمام بمراكز التفكير: إدارة ترامب لم تكن تهتم بمراكز التفكير في صنع السياسة الخارجية، وكان ثمة غضب تجاهه لعدم الاعتماد على مراكز التفكير المحافظة خلال فترة حكمه، ولكن بايدن استقدم أسماء كبيرة ضمن إدارته، وهذه الأسماء على تواصل مع قواعدها في مراكز الأبحاث، وبات لها دور في عملية صنع القرار الآن.
3- الانشغال بوسائل الإعلام: تهتم الإدارة الحالية بما تنشره وسائل الإعلام، وتحديداً صحيفتي “واشنطن بوست” و”نيويورك تايمز”، بالنظر إلى أن الصحيفتين تقرؤهما القاعدة الشعبية للرئيس الحالي، وبالتالي تعبران عن القاعدة الشعبية، وما يُنشر يؤخذ في الاعتبار في عملية صنع القرار.
4- التركيز على جماعات المصالح: يأتي هذا الاهتمام بجماعات المصالح المرتبطة بقضايا وليس بطائفة معينة أو إثنية، فإدارة بايدن تهتم كثيراً بجماعات المصالح المعبرة عن قضايا حقوق الإنسان وقضايا البيئة.
ويُشير كمال إلى أن الرغبة في التأثير على عملية صنع القرار في الولايات المتحدة، لا بد لها من التعامل مع كل هذه المستويات، بالإضافة للتحرك على مستوى المؤسسات الرسمية؛ إذ لا يمكن التركيز على مستوى أو مؤسسة واحدة، إذ إن الصورة الآن في الولايات المتحدة باتت أكثر تعقيداً، ليس بمعنى الصعوبة ولكن كل مؤسسة لها أدوات في التعامل واللغة الخاصة بشكل مختلف عن الأخرى.
عوامل مؤثرة
ويحدد د. كمال عدداً من العوامل المؤثرة على تراجع الاهتمام الأمريكي بمنطقة الشرق الأوسط، على النحو التالي:
1- التغيرات الجيلية في الأوساط الأمريكية: هناك أجيال جديدة في الكونجرس لا تهتم بالسياسة الخارجية بشكل عام، وبالشرق الأوسط بشكل خاص، فالرئيس الحالي يمكن اعتباره من القلائل الذين لديهم اهتمام حقيقي بالشرق الأوسط، أما باقي المسؤولين فلم يكونوا جزءاً من الأحداث في الشرق الأوسط، وإن هذا له مردود إيجابي، من ناحية عدم وجود تحيزات من هذا الجيل تجاه قضايا بعينها، ولكن على استعداد للتعاطي مع مختلف الملفات. جانب آخر يتعلق بتراجع عدد الدارسين في أقسام دراسات الشرق الأوسط في الجامعات الأمريكية، وهذا يعطي مؤشراً على تراجع الاهتمام بهذه المنطقة.
2- تحديات ضاغطة في الساحة الداخلية الأمريكية: هناك تحديات كثيرة على الساحة الأمريكية، تمثل عامل ضغط على صناع القرار، إذ إن مجال السياسة الخارجية يتضمن منح معونات واهتماماً بمنطقة الشرق الأوسط، وهذا كله يشكل ضغوطاً. فعلى سبيل المثال، فَقَدَ أحد أعضاء الكونجرس مقعده، لأنه دائم الاهتمام بقضايا السياسة الخارجية، في حين يُنظر إليه بقلة الاهتمام بالقضايا الداخلية.
3- أهمية الشرق الأوسط ذاته: النقطة الأهم في معرفة حدود التراجع الأمريكي تجاه الشرق الأوسط، هو الإجابة عن سؤال: لماذا أنت مهم للولايات المتحدة؟ فلا بد أن تكون العقلية العربية خلاقة وتطرح أسباباً قوية لأهمية الشرق الأوسط بالنسبة لأمريكا، ومن دون ذلك لن يكون هناك اهتمام. يجب طرح قضايا تكون لها انعكاسات على الولايات المتحدة، مثل الاهتمامات بالممرات المائية بعد غلق قناة السويس.
4- تحويل الاهتمام إلى الصين وروسيا: ثمة تراجع في أولويات الولايات المتحدة في مجال السياسة الخارجية، إذ تراجع الاهتمام بالشرق الأوسط من أجل زيادة التركيز على التهديدات المتعلقة بالصين وروسيا، هذا مع الإشارة إلى أن الصين لن تستطع ملء الفراغ الأمريكي نظراً لأن الدول المعنية تذهب للولايات المتحدة، وهناك رؤية أمريكية مسيطرة مفادها أن أمريكا الحليف الاستراتيجي المفضل لغالبية الدول العربية.
وهنا، يمكن الإشارة إلى أن الوضع في الشرق الأوسط بات “لعبة إقليمية”، ولكن الدور الأمريكي يقف عند حدود عدم حدوث انفجار كبير في المنطقة بحيث يجعل واشنطن تتورط في الاهتمام بالشرق الأوسط، في مقابل أولوية التحديات المتعلقة بالصين وروسيا، وهما يرغبان في اختيار أمريكا، من منطلق أن نقطة ضعفها الوفاء بمساندة الحلفاء، مثل الوضع في أوكرانيا، وسيتكرر الأمر.
5- تراجع أولوية ملف مكافحة الإرهاب: جزء من الاهتمام الأمريكي في سنوات سابقة بالشرق الأوسط، يتعلق بمكافحة الإرهاب، ولكن ثمة تراجع في هذا الملف لدى أمريكا، خاصة بعدما تمكنت من تحييد أي تهديدات خارجية عليها، والتركيز الآن على الإرهاب الذي قد يأتي من الداخل، مع الاهتمام بقضايا معينة تتعلق بملف مكافحة الإرهاب، مثل الوضع في سوريا أو في دول الساحل.
استمرار النهج
وفي النهاية، توقع كمال استمرار نفس النهج الأمريكي في الانسحاب من منطقة الشرق الأوسط، وهذا يستمر على المدى القصير والمتوسط على الأقل، إذ إن التهديدات والتحديات المتعلقة بالمنطقة لا تقارن بمثيلتها من روسيا والصين، كما أن ثمة بعداً آخر مهماً يحدد تراجع الاهتمام بمنطقة الشرق الأوسط، يتصل بأن قارة آسيا تمتلك أكبر طبقة متوسطة مستهلكة في العالم، وبالتالي فإن المستثمر الأمريكي سيفضل آسيا على منطقة الشرق الأوسط.