توفي مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر في الـ29 من نوفمبر (تشرين الثاني) 2023 بعد رحلة حياتية وأكاديمية ودبلوماسية مليئة بالأحداث والنشاطات. وترك بصمة واضحة على السياسات الخارجية الأميركية في السبعينيات من القرن الماضي، وأسهم بالرأي والمشورة طوال سنين طويلة بعد ذلك، وأثار كثيراً من التعليقات والملاحظات من المؤيدين المتحمسين له بقوة، خصوصاً ممن عملوا معه خلال توليه المناصب الرسمية.
قابلهم أيضاً عدد موازٍ وكبير من المعارضين بل الكارهين لكل ما كان يمثله ولكثير من ممارساته، بخاصة بين النشطاء السياسيين وعدد لا بأس به من الأكاديميين.
واشترك المؤيدون والمعارضون في أن كيسنجر تبنى “البراغماتية” في تحقيق المصلحة الأميركية، مما اعتبره بعضهم فلسفة ومنهجية واقعية وناجزة، ورفضه آخرون من منطلق أن منهجية تطبيق كيسنجر كانت مادية ومجردة إلى أقصى الحدود، أغفلت تماماً المبادئ الأخلاقية والقانون الدولي الإنساني، ولا تحكمها غير المصالح الأميركية عامة.
ذهب آخرون إلى اتهام كيسنجر بأن رغبته في تحقيق النجاحات وضمان التقدير لشخصه غلبت أحياناً على تقديره للمصلحة الوطنية على المدى الطويل، ودفعته إلى تبني مواقف متناقضة وحالات عدة من الازدواجية الشديدة في المعايير، بصرف النظر عن الكلفة أو “الخسائر الضرورية”، بما في ذلك الأرواح أو في الترويج للاستخدام المفرط للسلاح، خصوصاً في كمبوديا وتشيلي.
وكان من أشهر ما يحسب إلى كيسنجر مبعوثاً عن الرئيس نيكسون الانفتاح على الصين التي زارها حتى خلال الأسابيع الأخيرة السابقة مباشرة على وفاته، وكذلك جهوده في الشرق الأوسط بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، وقد تحدث وكتب كيسنجر كثيراً عن تقديره للسياسيين في الصين والرئيس المصري أنور السادات. وكان واضحاً وجلياً أن الصين والشرق الأوسط في مستهل القضايا التي سعى إلى أن تكون جوهرية في تشكيل إرثه وذكراه السياسيين.
وكان كيسنجر من الشخصيات الذين يهتمون بشخصنة الأمور، والمهتمين بشدة بالإرث التاريخي الذي يتركونه، لذا اهتم كثيراً بأسلوب تعامل الدول الأجنبية معه موضوعيًا ومراسمياً، والسجلات الشرق أوسطية مليئة بوقائع تنافس بين كيسنجر ونظيره المصري إسماعيل فهمي حول جوانب موضوعية خلال المفاوضات بعد الحرب، فضلاً عما يفيد بأن كيسنجر كسر القواعد البروتوكولية الأميركية باستقبال وزير خارجية مصر بالمطارات الأميركية إزاء تمسك نظيره المصري بذلك شرطاً لحصول كيسنجر على استقبال مماثل عند وصوله إلى المطارات المصرية.
مصادفة كانت لي فرصة المشاركة في ندوة قبل وفاة كيسنجر بأسابيع قليلة، نظمها مجلس العلاقات الخارجية الأميركي بنيويورك في الخامس من أكتوبر (تشرين الأول) لمناسبة مرور 50 عاماً على حرب 1973 المجيدة، وشارك في الندوة كيسنجر كمتحدث رئيس، وتحدث وتحاور بوضوح وسلاسة وبذاكرة دقيقة وقوية، بصورة لافتة للنظر والتقدير على رغم تجاوزه الـ100 سنة.
ومن أهم النقاط التي أبرزتها الندوة كانت أن الرئيس المصري أطلق شرارة الحرب إزاء رفض المجتمع الدولي الآخذ بجدية رغبته في الوصول إلى السلام العربي- الاسرائيلي من خلال التفاوض، وأن القوات المصرية عبرت قناة السويس بغية تغيير النموذج السياسي العسكري بين العرب وإسرائيل لدفع الجميع نحو التفاوض.
وما أوضحته وصححته الندوة أيضاً كانت النوايا الحقيقية لكيسنجر خلال جهوده في ما يسمى مفاوضات “الخطوة خطوة” التي اعتبرها بعضهم خطأً ترجمة عملية “للواقعية السياسية” باعتبارها المنهجية التي يتبناها كيسنجر.
وقد اختلفت مع هذا الطرح بشدة في الندوة، ودفعت من جانبي أن مصر كانت تتفاوض من أجل تحرير الأرض المصرية وسعياً إلى سلام عربي- إسرائيلي، وأن هذا تطلب منطقياً فك الاشتباك بين القوات كخطوة نحو الانسحاب الكامل من سيناء وبدء مفاوضات أوسع ارتباطاً في مؤتمر جنيف الذي عُقد في ديسمبر (كانون الأول) 2023.
ودفعت بأن كيسنجر لم يكن يسعى إلى تحقيق سلام عربي- إسرائيلي، أو حتى سلام مصري- إسرائيلي، وأن غرضه الرئيس كان تثبيت الأوضاع والاستقرار في الشرق الاوسط حتى يستطيع التركيز على المفاوضات مع الاتحاد السوفياتي وتحقيق انفراجة فيها، باعتبار ذلك هدفاً أميركياً آنياً له الأولوية حتى إذا كان ذلك على حساب تحقيق هدف شرق أوسطي أوسع مثل سلام عربي- اسرائيلي.
وأضفت أن الجانب المصري كان مقدراً لنفوذ الولايات المتحدة على إسرائيل، من ثم راغباً في تأمين تواصل ومشاركة أميركية نشطة في المفاوضات، وأن المعضلة كانت في التفاوض مع إسرائيل والاستفادة من النفوذ الأميركي من جانب، من دون السماح لكيسنجر بكبح جماح انتصار أكتوبر وتحجيمه وتوجيهه لهدف أقل طموحاً ألا وهو “الاستقرار والقبول بالأمر الواقع عملياتياً”.
وبعد نقاش في جلسات مختلفة خلال الندوة جاء دور كيسنجر للحديث، وسئل مباشرة عن هدفه أثناء دبلوماسيته بعد حرب أكتوبر الذي تمخض عنها فك اشتباك مرتين مع مصر، ومرة أخرى مع سوريا، فكان رده مباشراً وصريحاً ومن دون مناورة على الإطلاق على غير العادة، مؤكداً أنه لم يستهدف تحقيق السلام العربي أو المصري- الإسرائيلي، وأن أولويته كانت تأمين الاستقرار في الشرق الأوسط ليتمكن من التركيز على التفاوض مع الاتحاد السوفياتي حول الحرب الباردة والعلاقات بين الدولتين العظميين.
وفي هذا السياق سعى شرق أوسطياً إلى تجنب توسع جديد في النفوذ السوفياتي في المنطقة، بخاصة بعد صفعة قرار السادات بطرد الخبراء السوفيات من مصر عام 1972، أي إن أولوياته كانت تحقيق المصلحة الأميركية الآنية في المقام الأول حتى على حساب سلام عربي ومصري- إسرائيلي يحقق للمنطقة العدالة والأمن والاستقرار.
ولعل من أهم الدروس المستفادة من مراجعة تلك المرحلة، وما كتبه وصرح به كيسنجر عنها، أنه من الطبيعي والمنطقي أن تسعى الدول إلى جذب الأطراف الفاعلة للاستفادة من قدراتها ونفوذها، وإنما على الدول عامة، خصوصاً المتوسطة أو الصغيرة، تحديد أهدافها الاستراتيجية بدقة مسبقاً والتمسك بها باختيار أفضل سبل التحرك والمناورة والمواءمة لتحقيقها، مع دراسة وتقييم مصالح الغير بدقة مسبقاً لاستثمار ما يخدم الأهداف الوطنية، وتجنب ما يضل الطريق، وهو ما أمل في أن يراعيه الفلسطينيون والعرب أمام التحديات الجسام المرتبطة بأحداث غزة التي من شأنها أن تغير جوهرياً النموذج السياسي للنزاع العربي- الإسرائيلي، بخاصة الشق الفلسطيني منه.
نقلا عن اندبندنت عربية