سوف أستعير من الدورية العربية «إنترريجنال للتحليلات الاستراتيجية» المفهوم الذي قامت عليه، وهو التفاعل ما بين أقاليم العالم ليس فقط السياسية، وإنما الجغرافية أيضاً. الصين بحجمها السكاني والجغرافي تمثل أكثر من دولة، وإنما إقليم كامل من التجربة والتاريخ والواقع الدولي الراهن الذي يوحي بأن عالماً جديداً من القطبية الثنائية يولَد من جديد، الفارق بينه وبين القطبية الثنائية القديمة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، أنها صارت بين الولايات المتحدة والصين. ولكن قياس التجربتين بوصفهما تجربة واحدة يجوز عليها قياس «الحرب الباردة» التي صارت واحدة منها «قديمة» والأخرى «جديدة» ربما سوف يكون فيه الكثير من الخطأ التحليلي، لأن العالم نعم تغير، ولكنه لا يعيد نفسه كما تفعل الشمس كل صباح. التغيير ظاهرة مركَّبة، وفي تركيبها يكون هناك الكثير من الجِدَّة، وفي هذا الاتجاه صكّ عالم السياسة الدولية الأميركي جوزيف ناي، تعبيراً جديداً يضاف إلى ترسانته من التعبيرات أن الصين والولايات المتحدة كلتاهما باتت مرتبطة بالأخرى في إطار علاقة يسميها «التنافس التعاوني» أو «Cooperative Rivalry» تتطلب استراتيجيات تسعى إلى تحقيق ما هو متناقض: التنافس والتعاون. وفي كلاهما فإن «ناي» يقدم مجموعة من الأفكار منها المضيّ قدماً في تقوية المزايا التكنولوجية للدولة الأميركية من خلال البحوث والتطوير؛ وفي المجال العسكري إعادة هيكلة القوة العسكرية لكي تستوعب التكنولوجيات الجديدة وتقوية التحالفات التاريخية. وفيما يتعلق بالمجال الاقتصادي يبدو كأنه المجال التقليدي للاعتماد المتبادل سواء كان ذلك فيما يتعلق بالعملة أو التجارة أو حتى التداخل في أشكال كثيرة من التكنولوجيا. سلاسل الإمداد الصينية أصبحت ضرورية لفرص تحقيق انتعاش اقتصادي كبير في أعقاب احتواء أزمة «كورونا» يعوّض التراجع الكبير إبان الأزمة في الولايات.
ولكن ما حاوله البروفسور ناي كان محاولة منه للتعامل الأميركي مع الصين على أسس جديدة تختلف عن تلك التي قامت على أسس «جيوسياسية» و«جيواستراتيجية»، إلى قواعد تقوم على أسس «جيواقتصادية». ولذلك حذّر من الدعوة في واشنطن إلى فك الارتباط مع الصين أو Decoupling، ورآه نوعاً من المخاطرة ذات التكلفة العالية.
ولكن كل ذلك جرى قبل نشوب الحرب الأوكرانية، ورغم أن الولايات المتحدة استمرت في استراتيجيتها القومية إلى عدّها الصين منافساً أول للولايات المتحدة في العالم، بينما تقوم بتقليص العلاقات التجارية معها، فإن الواقع الجديد الذي أفرزته الحرب جعل الواقع الجديد في العالم مختلفاً عمّا كان.
فالحقيقة هي أن القضية الرئيسية مع الصين أن بكين والرئيس شي جينبينغ لهما رؤية مختلفة للعالم وإدارة العلاقات الدولية فيه. نعم الحقيقة الأولى في هذا المجال أن الصين قد أصبحت قوة اقتصادية عظمى في العالم تصل سلعها وبضائعها إلى كل أركان الأرض مثلما هو الحال مع الولايات المتحدة؛ ومع هذه القوة يوجد تقدم صناعي وتكنولوجي هائل يجعل الدولة من حيث الناتج المحلي الإجمالي للصين يقترب اسمياً من ذلك الأميركي ويتفوق عليه إذا ما احتُسب استناداً إلى القوة الشرائية للدولار. الحقيقة الثانية هي أن الصين لها رؤية مختلفة للعلاقات الدولية ولظاهرة العولمة فيها. الصين تصل إلى أرجاء العالم بسلع وبضائع وتكنولوجيات تقاوم الفقر وتتجه نحو النمو، وتقدم للعالم نموذجاً للكفاءة والإنجاز. الفارق بالنسبة للعالم العربي ودول العالم النامية أن الصين لا تحمل على أكتافها نظريات تبشيرية مثل تلك التي تحملها الولايات المتحدة عن «صراع الحضارات» أو «الديمقراطية في مواجهة السلطوية»، وإنما تقدم للعالم نموذجاً لمن يريد أن يأتي ليتعلم ويرى.
تاريخياً فإن الصين كانت معروفة بأنها «المملكة الوسطى» التي يأتي لها العالم ولا تذهب هي بالضرورة إليه، فلا يوجد في المعروف من التاريخ الصيني شخصيات تماثل ماركو بولو الإيطالي أو ابن بطوطة الرحالة العربي. الآن الصين تخرج إلى العالم بطريقة مختلفة تتمتع بدرجة هائلة من المرونة، فلها علاقات وثيقة وعميقة مع إسرائيل فيما يتعلق بالتكنولوجيات الحديثة، وفي الوقت نفسه فإن علاقاتها مع الفلسطينيين والدول العربية قوية. ورغم علاقاتها الوثيقة مع إيران، فإن لديها علاقات لا تقل عمقاً مع المملكة العربية السعودية ودول الخليج في عمومها. الصين لها وجهة نظر في ضرورة مراجعة النظام الدولي الذي ساد بعد نهاية الحرب الباردة وأدى إلى «العولمة» وهيمنة الولايات المتحدة وعملتها الدولارية، وعبَّرت عن ذلك في مشاركة دولية في بيان خاص مع روسيا في 4 فبراير (شباط) الماضي.
على الجانب الآخر على المائدة في قمة الرياض يوجد العالم العربي «الجديد» هو الآخر، لأن الوفد العربي كان قادماً من دول الإصلاح العربي. ومن دون الدخول في كثير من التفاصيل فإن عام 2015 شهد الكثير من التطورات التاريخية في المنطقة العربية لا يزال بعضها عاكساً لانهيارات ما بعد الثورات المسماة الربيع العربي؛ ولكن بعضها الآخر ولَّد موجات من الإصلاح القائم على مفهوم الدولة الوطنية ذات الحدود المقدسة، والهوية التاريخية لمواطنين متساوين في الحقوق، ومشروع وطني للتنمية والتقدم الاقتصادي والاجتماعي يقوم على اختراق إقليم الدولة من خلال مشروعات عملاقة تقوم، وتحديث البنية الإنتاجية للدولة العربية. في مثل هذه الحالة الإصلاحية، فإن السياسة الخارجية للدول العربية تتفهم الخصوصية القطبية الصينية التي لا يصدق عليها النظر من خلال لا البدائل التي يجري تبديلها بين القوى العظمى؛ ولا الطرق القديمة مثل «عدم الانحياز» التي تقوم على اللعب على حبال متناقضة ومتنافسة بين الشرق والغرب.
الصين تفهم جيداً أن العالم معقَّد بما فيه الكفاية بأكثر ما هو الحال في الألغاز الصينية، وأن هذا التعقيد لا يستقر دون أخذ كل حالة ومصلحة وفق مقوماتها الأساسية والعائد الذي تقدمه لأطراف تختلف في كل شيء اللهم إلا أنها جميعاً دول لها أوضاعها «الجيوسياسية» ومصالحها «الجيواستراتيجية» وطبائعها «الجيوثقافية». المهم لدى الصين والعرب كذلك، ألا يكون هناك استغراق في محاولات حل الألغاز والأحاجي، وإنما الاستعداد للتبادل في المصالح والسلع مع عدم افتراض أن العلاقات الوثيقة تعني بالضرورة تحالفاً ضد أطراف ثالثة.
هذه النوعية الجديدة من التفاعل الإقليمي يمثل إضافة جديدة للعلاقات الدولية بوجه عام في وقت ما بعد الجائحة، وزمن الحرب الأوكرانية التي يراها الجمعان العربي والصيني، أنها أولاً تأخذ النظام الدولي كله بعيداً عن أولوياته العليا في مواجهة الوباء والاحتباس الحراري؛ وثانياً تتسبب في أضرار بالغة لدول لا ناقة لها ولا جمل في أمور الطاقة والغذاء وغيرها من أمور. العالم العربي الذي يتصرف بمسؤولية كاملة في قضاياه الإقليمية والأخرى العالمية مثل الطاقة، يتجاوب مع الصين التي هي الأخرى تدرك أن الحرب في أوروبا تأخذ العالم بعيداً عن قضاياه الكبرى التي لا يمكنها انتظار حكمة غائبة وقيادات لا تعود.
نقلا عن الشرق الأوسط