القمة العربية ــ الصينية التى عقدت أمس الأول فى الرياض هى أول قمة عربية ــ صينية رغم أن العلاقات الدبلوماسية العربية ــ الصينية قديمة وعميقة وتمتد إلى ما يقرب من 66 عاما، حيث كانت القاهرة هى أول عاصمة تقيم علاقات دبلوماسية مع جمهورية الصين الشعبية عام 1956.
كانت مصر هى أول دولة عربية تعترف بجمهورية الصين الشعبية بعد أن التقى الرئيس الراحل جمال عبدالناصر نظيره الصينى شوان لاى فى القمة الأفروآسيوية التى عقدت فى مدينة باندونج الأندونيسية عام 1955.
بعد ذلك توالت إقامة العلاقات الدبلوماسية العربية مع الصين، وتأكدت العلاقات الثنائية والإستراتيجية بين الكثير من الدول العربية والصين، حتى كانت القمة العربية ـ الصينية الأولى أمس الأول فى الرياض.
القمة تم الاتفاق عليها فى إطار منتدى التعاون العربى ـــ الصينى فى العام قبل الماضى، حيث وافق الجانبان على عقد أول قمة عربية ـ صينية للدفع بمستوى العلاقات العربية ــ الصينية إلى مستوى العلاقات الإستراتيجية بما يخدم المصالح المشتركة للجانبين.
توقيت القمة «مهم جدا» لأنه جاء فى توقيت حساس ودقيق يمر به العالم الآن، ينتقل من خلاله من عالم القطب الواحد إلى عالم متعدد الأقطاب.
الصين الآن هى ثانى أكبر قوة اقتصادية فى العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية، بعد أن نجحت فى تحقيق معجزة اقتصادية بكل ما تعنيه الكلمة من معان، ونجحت فى أن تتحول إلى عملاق اقتصادى ضخم يحقق أعلى معدلات النمو العالمية بعد أن كانت تعانى الجهل والتخلف والفقر الشديد طوال عقود طويلة وممتدة.
نجح الزعيم الصينى الأسبق «دينج شياوبينج» فى اجتياز مسيرة اقتصادية صعبة ومعقدة، وإنقاذ العملاق الصينى من الفقر وتحويله إلى أكبر مصدر فى العالم.
تجربة الصين تجربة ملهمة تستحق التأمل والاستفادة منها لكل شعوب الدول النامية، بعد أن نجحت فى قهر الواقع المستحيل، وتحويله إلى أمر ممكن، وأصبح العملاق الصينى الآن «ينازع» أمريكا بقوة ويهدد مكانتها مستقبلا.
أعتقد أن القمة العربية ــ الصينية وعقدها فى هذا التوقيت يؤكد تحرر بوصلة العالم العربى من التبعية، ورفضه فكرة القطب الأوحد فى السياسة الدولية، ورغبته فى إيجاد عالم متعدد الأقطاب من أجل عالم أكثر عدالة، ومستقبل أكثر إشراقا، وعلاقات متوازنة تراعى التنوع، واحترام الآخر، ورفض مبدأ التدخل فى الشئون الداخلية للدول، والتأكيد على عدالة القضية الفلسطينية التى هى قضية العرب الأولى وحق الشعب الفلسطينى فى إقامة دولته المستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
كلمات كل الوفود المشاركة كلها كانت تصب فى هذا الإطار، ورفض التمييز ضد الحقوق العربية، وعدم القبول بالتدخل فى الشئون الداخلية، ورفض أى محاولة للوصاية على الشعوب العربية.
رسالة مصر كانت واضحة وقوية من خلال كلمة الرئيس عبدالفتاح السيسى أمام القمة، وضرورة العمل على إقرار نظام عالمى جديد يكون أكثر عدالة ويتأسس على القيم الإنسانية وقواعد القانون الدولي.
طالب الرئيس بضرورة احترام خصوصية الشعوب وحقها فى الاختيار دون وصاية أو تدخلات خارجية ورفض تسييس قضايا حقوق الإنسان، وتعزيز حوار الحضارات وتقارب الثقافات، وزيادة التعاون فى مواجهة تحديات التغيرات المناخية، وتفشى الأوبئة، وانتشار أسلحة الدمار الشامل، ومكافحة خطر الإرهاب والأفكار المتطرفة كلما وجدت وأينما كانت.
لفت الرئيس أنظار الحضور إلى النجاح الذى حققته مصر فى القمة العالمية للمناخ «Cop27» التى عقدت فى شرم الشيخ، واقناع الرئاسة المصرية المجتمع الدولى بالتوافق على العديد من القضايا الحيوية، وعلى رأسها صندوق الخسائر والأضرار، والاتفاق على خطوات جادة لتفعيل وتنفيذ التعهدات الدولية الخاصة بالتمويل، وكذلك إجراءات التكيف والتخفيف.
أيضا كان الرئيس واضحا وحاسما حينما فجر قضية الأمن المائى العربى، وما تحمله من مخاطر ترقى إلى حد التهديدات الوجودية، مطالبا إثيوبيا بضرورة التوصل إلى اتفاق قانونى ملزم مع مصر والسودان لضمان حق الأجيال الحالية، والمستقبلية فى التنمية، ومنع مخاطر تهديد استقرار المنطقة.
على الجانب الآخر فقد كانت كلمة الرئيس الصينى «شى جين بينج» صريحة وكاشفة معتبرا أن القمة حدث مفصلى فى تاريخ العلاقات الصينية ـ العربية من أجل شراكة إستراتيجية مستقبلية.
الرئيس الصينى تطرق إلى كل القضايا التى تؤرق الجانبين وتشغل اهتمامهما ورغبة الصين فى إقامة شراكة تقوم على أسس العدالة، والسعى إلى السلام، والدفاع عن الأصالة، ورفض مفهوم صراع الحضارات، ورفض الإسلامو فوبيا، وكذلك رفض ربط الإرهاب بدين أو عرق معين.
أما الموقف الأكثر وضوحا والذى لامس عقل وقلب كل عربى كان يتابع تلك القمة فكانت كلمات الرئيس الصينى بخصوص القضية الفلسطينية، ورفض الصين للظلم التاريخى الذى يتعرض له الشعب الفلسطينى، وتمسك الصين بالحل العادل والدائم للقضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين، وإقامة الدولة الفلسطينية على حدود67 وعاصمتها القدس الشرقية، ودعم الصين العضوية الكاملة للدولة الفلسطينية فى الأمم المتحدة.
هذا الموقف كان محل توافق عربى كامل، وأشاد به الرئيس عبدالفتاح السيسى فى كلمته حينما أشاد بدعم الصين للحق الفلسطينى فى إقامة دولته على خطوط الرابع من يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
أيضا أشاد الأمير محمد بن سلمان ولى العهد السعودى ورئيس مجلس الوزراء بموقف الصين الداعم لحل الدولتين ومبادرة السلام العربية، ومبدأ الأرض مقابل السلام، وكذلك كان محل إشادة من كل المتحدثين أمام القمة.
بعيدا عن القضايا السياسية والدولية والإقليمية فقد شهدت العلاقات الاقتصادية الصينية ـ العربية تطورا كبيرا منذ إطلاق منتدى التعاون الصينى العربى والذى تم إنشاؤه عام 2004 من قبل الرئيس الصينى السابق هو جينتاو عندما زار مقر جامعة الدول العربية فى القاهرة، وتم عقد الاجتماع الأول فى القاهرة عام 2004 ثم توالت الاجتماعات بعد ذلك فى عدد من العواصم العربية وبكين.
ارتفع حجم التبادل التجارى بين الدول العربية والصين إلى ما يقرب من 330 مليار دولار خلال العام الماضى، وأصبحت الصين شريكا تجاريا مميزا وأساسيا للعديد من دول العالم العربى مثل مصر والسودان وسلطنة عمان، وموريتانيا، والسعودية وغيرها.
فى عام 2013 أطلقت الصين مبادرة الحزام والطريق وهى مبادرة تقوم على فكرة إحياء طريق الحرير القديم الذى كان يربط الصين بالعالم ليكون أكبر مشروع للبنية التحتية فى تاريخ البشرية، وتقع العديد من الدول العربية ضمن نطاق المبادرة من بينها مصر والسعودية وعمان ولبنان والمغرب والعديد من الدول الأخري.
هذه المبادرة تستهدف محاولة تعزيز الاتصال الإقليمى وتمتد إلى العديد من المناطق فى آسيا وإفريقيا وأوروبا والأمريكتين، وتم تخصيص مئات المليارات من الدولارات لتنفيذ تلك المبادرة، ومن المقرر أن تنتهى بحلول عام 2049 فى الذكرى المئوية لتأسيس جمهورية الصين الشعبية.
أعتقد أن القمة العربية ــ الصينية التى اختتمت أعمالها أمس الأول فى الرياض سوف تكون نقلة ضخمة فى تاريخ العلاقات الصينية ــ العربية بما يعيد التوازن للعلاقات العربية فى النظامين الإقليمى والعالمى مستقبلا، وبما يحقق مصالح شعوب دول المنطقة وينهى عصر الأحادية والقطب الواحد فى المنطقة العربية، لتتجه البوصلة العربية إلى حيث تكون مصلحة العالم العربى اقتصاديا وسياسيا خلال المرحلة المقبلة.
نقلا عن الأهرام