لا تنبع أهمية الكلمة التى ألقاها الرئيس عبدالفتاح السيسى فى قمة الجزائر أساسًا مما تضمنته من مواقف سليمة بشأن أهم القضايا العربية والدولية، وإنما من انطلاقها من رؤية عربية واضحة ومتماسكة أوجدت تناغمًا وتماسكًا بين عناصرها المختلفة، فقد بدأ الرئيس كلمته بالإشارة إلى أن انعقاد القمة بحد ذاته دعوة لاستلهام روح القومية العربية وتجديد عزيمة الصمود من أجل الحفاظ على هويتنا وتحرير إرادتنا الوطنية، وختمها بأن تكتلات أخرى قد سبقتنا نحو التكامل رغم أن من أطرافها عانوا تناحرا حقيقيا بل وحروبا فيما بينهم، فما بالكم بِنا ولدينا من المشتركات فى الثقافة والأديان والتاريخ ما يحتم علينا توحيد رؤانا، وناشد الشعوب العربية بأن تثق فى أمتها صاحبة التاريخ العريق والإسهام الحضارى الثرى والممتد مؤكدًا أنها تمتلك المقومات اللازمة لمستقبل أكثر استقرارًا وازدهارًا، وتتمثل أهمية هذه الرؤية فى أنها تأتى فى وقت يشكك فيه الكثيرون فى حقيقة العروبة والرابطة المؤسسة عليها، ويروجون لروابط واهية مفتعلة ثبت بالخبرة لفظ الواقع العربى لها حتى فى الأوقات التى شهدت تدهورًا حقيقيًّا فى الأوضاع العربية، ومن هذه الرؤية العروبية الصافية استدعى الرئيس دروس الخبرة التاريخية، فما أحوجنا اليوم وفقًا لكلماته فى ظل تتابع الأزمات العالمية والإقليمية إلى استذكار محطات التعاون المضيئة فى تاريخنا التى تجسدت فيها أسمى معانى العروبة والإخاء والتكاتف، وتبدو دعوة الرئيس مُعَززة فعلًا بدروس الخبرة الماضية، فهل ننسى الوقفة العربية الشعبية والرسمية تأييدًا لمصر فى مواجهة العدوان الثلاثى عليها فى ١٩٥٦والتى تجاوزت الأقوال إلى الأفعال؟ والدعم العربى المؤثر لدول المواجهة مع إسرائيل بعد هزيمة ١٩٦٧؟ والمشاركة العسكرية من ٩ دول عربية فى القتال فى حرب أكتوبر ١٩٧٣ ناهيك باستخدام سلاح البترول من الدول العربية المصدرة له لدعم الأهداف العربية من الحرب؟
وانطلاقًا من هذه الرؤية تحدث السيسى بوضوح عن نظام عربى يقوم على حالة من التوافق (الاعتماد المتبادل) القوى بين مكوناته، فما يؤلم المغرب العربى سيمتد إلى مصر والمشرق والخليج، وعدم الاستقرار فى المشرق العربى تمتد آثاره إلى المغرب العربي، وتهديد أمن الخليج تهديد للجميع، فالأمن العربى كل لا يتجزأ، وقد استخدم الرئيس تحديدًا مفهوم الجسد الواحد نتيجة الترابط الفعلى بين الدول العربية، ولذلك فإن المخاطر التى تتهدد كيانات بعض الدول العربية تنعكس عليها جميعًا، وكذلك تدخلات القوى الإقليمية والأجنبية التى تغذى النزاعات وتعتدى عسكريًّا على نحو مباشر على بعض الدول العربية، وكلها عوامل أفضت إلى استدامة الأزمات فى زمن اشتداد للتحديات عالميًا وإقليميًا وتفاقم للاستقطاب الدولى الذى بات ضاغطًا على الجميع، وتساءل الرئيس فى كلمته عن غياب التصور والإجراءات المطلوبة لمواجهة هذه التحديات، ورسم نهجًا لهذه المواجهة يقوم على دعامتين إحداهما عربية جماعية والأخرى وطنية فطرية، فأما الدعامة العربية فلأن حجم التحديات الراهنة يفوق قدرة أى دولة منفردة على التصدى لها، ومن هنا يتعين علينا بناء مقاربة مشتركة وشاملة تهدف إلى تعزيز قدرتنا الجماعية على مواجهة مختلف الأزمات استنادًا إلى أسس واضحة تقوم على تكريس مفهوم الوطن العربى الجامع، وأما الدعامة القُطْرية فتتمثل فى دعم الدولة الوطنية العربية ومؤسساتها الدستورية بما يسهم فى حفظ السلم الاجتماعي، وترسيخ ركائز الحكم الرشيد والمواطنة وحقوق الإنسان، ونبذ الطائفية والتعصب، والقضاء على التنظيمات الإرهابية والميليشيات المسلحة وقطع الطريق على دعمها أو منحها غطاءً سياسيًّا أو توظيفها من قبل بعض القوى الإقليمية والدولية، ولو تحقق هذا فسوف يمثل خطوة أساسية على صعيد تأسيس علاقات جوار إقليمى مستقيمة تحترم استقلال وسيادة وعروبة دولنا، وتحقق المنفعة المتبادلة، وتضمن الامتناع الكامل عن التدخل فى الشئون العربية، ولا تخفى الإشارة المهمة من الرئيس لاحترام عروبة دولنا بالنظر إلى المحاولات الضارية لطمس الهوية العربية من قِبَل القوى الإقليمية المتدخلة فى دول عربية بعينها، كذلك فإن نجاح هذا النهج من شأنه إيجاد منظومة صلبة قادرة على مواجهة الأزمات الدولية المستجدة توفر لنا الحماية من الاستقطاب الدولى الآخذ فى التصاعد وتبعاته الدولية علينا. وفى هذا الإطار أكد الرئيس المواقف المصرية الثابتة من أهم القضايا العربية، فاعتبر أن قدرتنا على العمل الجماعى لتسوية القضية الفلسطينية واستعادة الحقوق الفلسطينية هى المعيار الحقيقى لمدى تماسكنا، وأكد التمسك بالمبادرة العربية كأساس للحل العادل والشامل بما تستند إليه من مبدأ الأرض مقابل السلام وحل الدولتين بتأسيس دولة فلسطينية على حدود ٤يونيو١٩٦٧ عاصمتها القدس الشرقية، وعودة اللاجئين وفقًا لمبادئ القانون الدولى وقرارات الشرعية الدولية، ودعا لتسوية ليبية خالصة للأزمة الراهنة تُبنى على إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية متزامنة، وخروج جميع القوات الأجنبية والمرتزقة، وإعادة توحيد مؤسسات الدولة وحل الميليشيات بما يحول دون تجدد المواجهات العسكرية ويعيد للبلاد وحدتها وسيادتها واستقرارها، وتناول معضلة الأمن المائى العربى التى لا تؤثر على مصر والسودان وحدهما وإنما على عدد من الدول العربية وتنذر بعواقب وخيمة إذا تم تجاهلها، وجدد تأكيد أهمية الاستمرار فى حث إثيوبيا على التحلى بالإرادة السياسية وحسن النوايا اللازمين للتوصل لاتفاق قانونى ملزم بشأن سد النهضة يؤمن مصالح الشعب الإثيوبى ويصون فى الوقت نفسه حياة الشعبين المصرى والسوداني، ومن اللافت أن إعلان القمة وقراراتها قد تضمنت هذه المواقف تجاه القضايا السابقة على نحو شبه حرفي، ومن اللافت كذلك أن الرئيس قد ختم كلمته بتأكيد أن مصر ستضع دومًا نصب أعينها تماسك الكيان العربى وصونه وحمايته، وستظل دائمًا حاضرة دعمًا للقضايا العربية، وستبقى على أبوابها مفتوحة أمام كل أبناء العرب فى سبيل الدفاع عن حاضرهم ومستقبل أجيالهم القادمة.
نقلا عن الأهرام