قراءة في المشهد الفكري العربي – الحائط العربي
قراءة في المشهد الفكري العربي

قراءة في المشهد الفكري العربي



د. يوسف الحسن
شاركت في حوارات ومناقشات جادة، جرت في مؤتمر نظمته في القاهرة «مؤسسة الفكر العربي»، قبل أيام، وهي تُطلق تقريرها الثاني عشر للتنمية الثقافية العربية والمخصص لموضوع «الفكر العربي في عقدين.. 2000-2020». وهما عقدان من الزمان، أحسب أنهما أطول عقدين شهدهما العرب المعاصرون، وكانا مشحونين بالاضطراب والتشظي والقلق والتغيرات، سقطت خلالهما دول، وتفسخت مجتمعات، وتفشت ظواهر عنف وإرهاب، وحروب أهلية، ونمت هُويات وولاءات فرعية أضعفت روح الانتماء الوطني والقومي، وأصابت الهُوية العربية بشيء من التفكك، وشلَّت العمل العربي المشترك ومؤسساته الرسمية والمدنية، إضافة إلى تحوُّل مناطق عربية غير قليلة إلى ساحة لصراعات إقليمية ودولية وتدخلات خارجية.

مفكرون وخبراء وممارسون، في مختلف مجالات المعرفة، شاركوا في تقديم أجوبة فكرية عن أسئلة تلك التحولات والتغيرات، وتحدياتها وآثارها وآفاقها المستقبلية، باعتبار أن الصراعات والتحولات هي مجرد أحداث في مسيرة التاريخ، وأن الأهم هو معرفة التبدلات العميقة، والمنعطفات التي تتم على المدى الطويل، لأنها تستغرق جيلاً أو أكثر.

نداء القلق على أحوال الأمة العربية وتفاقم أزماتها كان يخيم على كلمات وتأملات المشاركين من أهل الفكر، ويضغط بشدة على التفكير والتفكر والتبصر في الطبيعة السريعة للأحداث التي جرت في مطلع هذا القرن، ومقدماتها وإرهاصاتها وتداعياتها وتأثيراتها. ولا يتوقف الأمر عند الرصد والتحليل، بل يتفاعل مع الحاضر وتحدياته، وينفتح على المستقبل لاستشراف آفاقه.

عُني الفكر العربي بمجموعة إشكاليات ومتغيرات، بعضها كان مطروحاً في عقود سابقة، وإن اختلفت درجة الاهتمام بها، وبعضها ما زال مستمراً، وبرز بشكل ملح، وحضر إلى موقع الأولويات في البحث والمعالجة، كقضايا الدولة الوطنية العربية، ومبدأ المواطنة العادلة والمتكافئة، والهُوية الوطنية الجامعة، وحسن إدارة التنوع والتعددية في المجتمعات العربية، ومسائل السيادة ووحدة التراب الوطني، وقيم احترام الاختلاف، تحت سقف الهوية الجامعة والحرية المسؤولة.

قدَّمت هذه النخبة المشاركة جهوداً طيبة، بعيداً عن ضجيج الإعلام. قراءات تحليلية وافية ونقدية وثلاثية الأبعاد، ومقاربات فكرية في السياسة والاقتصاد والاجتماع والفلسفة والثورة الرقمية كبعد أساسي للعولمة.

واستدعت المناقشات مقاربات أخرى أيديولوجية وأمنية، ورؤى تتعلق بالدولة الوطنية العربية، باعتبارها البناء الأساسي للاستقرار والعدالة والتنمية، وأن غيابها هو مشروع ناجح للتشظي والفوضى والعنف، وفقدان الأمن والعدالة، وإعاقة التنمية.

كما أولى باحثون أهمية لقضايا التنوع الثقافي. وبيّنوا مخاطر تجاهل وضع التنوع في إطار الوحدة الوطنية، ونبَّهوا إلى مخاطر وتهديدات توظيف مسائل (المِلل والنِّحل) والأقليات والهُويات الطوائفية، في لعبة الأمم، ومصالح الدول الإقليمية والدولية.

تحديات كبيرة كانت وما زالت أمام الفكر العربي بكل تجلياته تستدعي جهوداً دؤوبة وإبداعية، لتحويل هذه التحديات إلى فرص للنهوض والتجدد، وتجاوز أزمات الدولة الوطنية، وإشكاليات العلاقات العربية البينية.

كم تسعد الروح حينما تنهض مراكز أبحاث، ومؤسسات فكرية، وتنشغل برؤى نقدية وموضوعية في قضايا مفصلية عربية، ودولية أخرى مؤثرة، بعيداً عن البهرجة والمجاملات الجوفاء التي تضر ولا تنفع، وفي مناخات «الاحتباس» الأخلاقي للكلمة الطيبة والنافعة للبلاد والعباد والمستقبل.

هل رصد المفكرون المشاركون في مؤتمر القاهرة قصوراً في مسارات معرفية فكرية معينة؟

أجتهد قائلاً: نعم هناك تقصير في الفكر العربي الاستراتيجي، وتخلف في بعض المسارات، وبخاصة على صعيدين الفكر والممارسة في الاقتصاد والفلسفة والتربية والثورة الرقمية، وبناء المجتمع المعرفي لضمان استدامة عملية التنمية، ولم تنل هذه القطاعات كل ما تستحقه من الاهتمام.

كما كان هناك قصور في دعم نظم حوكمة، تلبي طموحات الناس الاقتصادية والإنسانية. وكانت هناك أيضاً رخاوة مع ظواهر الفساد والتعصب، وتفكيك الهُوية الوطنية الجامعة، وغياب الحوار الوطني المسؤول، وضبابية في مقاربة مخاطر سياسات «المحاصصة» الطوائفية والاثنية والمذهبية واللغوية، وميوعة في إدراك مخاطر التدخلات الأجنبية، وانكفاء مشاريع التكامل العربي، واضطراب مؤسساته، وغياب الحلول السياسية للأزمات والحروب الأهلية الراهنة.

وظل سؤال يؤرق الذهن، ويبحث عن إجابات: ما هو الزاد الثقافي والفكري والحضاري الذي سيحمله العرب معهم في رحلة التحولات الكبرى الجارية الآن وغداً في عالمنا؟

آن الآوان لتعزيز التفكير في إمكانية وجود (بجع أسود) في بيئاتنا وإقليمنا وكوكبنا.

نقلا عن الخليج