تناولت في مقالي الأسبوع الماضي بعض عناصر الوضع المقلق الذي تعيشه دول عربية عدة بعنوان “فوق صفيح ساخن”، فعلق أحد الأصدقاء بالقول إن العالم العربي لم يعد فوق صفيح ساخن، إنما بات داخل ذلك الصفيح الذي تنذر مجمل المؤشرات بأنه بصدد الانفجار المدوي ما لم يتم اعتماد تحرك عربي عاجل لمواجهة أسوأ السيناريوهات وللتخفيف من وطأة الأزمات المتراكمة وتأثيرات أزمة الغذاء العالمية التي أحدثها الهجوم الروسي على أوكرانيا.
وتواجه دول عربية عدة جملة من الأزمات المركبة، المؤسسية والسياسية والاقتصادية والبيئية، وتعيش مجتمعاتها حالة من القلق والإرهاق بات المواطن العربي معها، متخوفاً من انعدام الأمن الغذائي وكفاية المداخيل المتواضعة لمواجهة الحاجات الحياتية الملحة جراء التضخم وفشل القيادات في اتخاذ ما يلزم للتخفيف من معاناته، في انسجام مع فشل النخب السياسية في إلهام الناس وتطمينهم بغد أفضل، في ظل انتشار الفساد وغياب الرؤى الوطنية الاستراتيجية وشبكات الحماية الاجتماعية وخطط الاستجابة الطارئة وعدم النظر إلى الأمن الغذائي من زاوية الأمن القومي.
وصارت النخب السياسية تصارع للإبقاء على مصالحها واحتكار نادي السلطة وإبقائه مغلقاً عليها، مستبعدة الأجيال الشابة صاحبة الصالح الحقيقة في المستقبل، التي تمتلك ناصية التكنولوجيا والطموح، والتي كفرت بإمكانية التغيير وفضلت اللجوء إلى الهجرة كملاذ لتحقيق أحلامها بعيداً من أوضاع دولها المستحيلة.
ويرشح بعض المتابعين للشأن العربي أن أزيز طنجرة الضغط بدأ يسمع من بعيد، وأنه يؤذن بمجيء ربيع عربي مثل ذاك الذي شهدته المنطقة بداية العقد الماضي. ومع إقراري بجملة الصعوبات التي تواجهها دول عربية عدة، إلا أنني لا أعتقد بتوافر الأرضية المواتية لعودة ربيع الموت والدمار الذي عشناه في العقد الماضي، ولا أرجح عودة قوى المجتمع المدني في تلك الدول لتجريب المجرب، فهي جربت الربيع العربي، واليمن وليبيا وسوريا والسودان نماذج ساطعة لربيع القتل والموت الذي عاشته وتعيشه تلك الدول.
وفي دول أخرى كمصر انقض الإسلام السياسي على مشروع التغيير واختطف تطلعات الشباب لبناء نظم حكم رشيد قابلة للمحاسبة. وتجربة مصر أفضل التجارب لتبيان المدى الذي وصل إليه الإسلام السياسي في تدمير النسيج الاجتماعي وتهديد الهوية الوطنية الجامعة. ووقفة المصريين مسنودين بجيشهم لدحر المشروع الإسلامي، وفتح أبواب الحوار ورعاية الشباب وتحميلهم أمانة إدارة شؤون وطنهم لبناء مصر التي يريدونها، والانعتاق من شيخوخة النخب التي فقدت الاتصال بشباب مجتمعاتها، مصدر إلهام لبقية الدول العربية على الرغم من الصعوبات المهولة التي ما زالت تواجهها اليوم. فمصر هي الشرق إن نهضت نهض الشرق وارتقى. كما مر المغرب بتجربة قاسية تحت حكم الإسلام السياسي وإدارته الدولة، ولولا إمساك العرش المغربي بناصية الأمور لكانت الأوضاع أكثر تعقيداً، فقد أدرك المغربي البسيط خطر المشروع الإسلامي على نسيجه المجتمعي. واليوم، على الرغم من التحديات الكبيرة التي يواجهها المغرب، فإن هامش تعميق الحكم الرشيد في تزايد مع مناخات المطالبة بمكافحة الفساد وسيادة حكم القانون.
وفي تونس، كانت تجربة الدستور مثالاً لسأم التونسيين من الفساد المستشري والوعود الكاذبة للنخبة السياسية بقيادة الإسلاميين، ولكن التجربة التونسية ما زالت في مراحلها الدقيقة، وهي بحاجة إلى تحول مشروع الرئيس قيس سعيد إلى تيار سياسي يقوده الشباب يحمل راية التغيير ومحاربة الفساد وصناعة الأمل.
شكل الإسلاميون وتجربتهم في الربيع العربي ووصولهم إلى السلطة أكبر التحديات التي هزت كيان مجتمعاتنا، فقد تراكمت لدى الإسلاميين تجربة طويلة في المعارضة، ولكنهم فشلوا في إدارة الدول التي سيطروا عليها من حيث إقصائهم خصومهم، وسيطرتهم على موارد الدولة لصالح الجماعة. واليوم، لم يعد الخطاب الديني الذي اعتمدته الجماعة ينطلي على الأجيال الشابة، ولم يعد بمقدور الإسلاميين احتكار الدين في السياسة بعد ثورة إصلاح وتحديث الخطاب الديني الذي تشهده معظم الدول العربية.
وفي موازاة تجربة العالم العربي مع الإسلاميين جاءت كارثة التغير المناخي بآثارها المدمرة لتؤكد سنوات من غياب الاستدامة البيئية في دول مثل العراق واليمن والأردن، التي تواجه نقصاً حاداً في المياه، فيما دول مثل السودان تتعرض للفيضانات المدمرة. وفي الوقت الذي يصل فيه التلوث في مصر إلى مستويات خطرة، تتعرض دول مثل الجزائر وسوريا لحرائق الأحراج.
وبعد عقد من كارثة الربيع العربي يمكننا ملاحظة ما ترتب عنها من فشل عديد من الدول وسقوطها فريسة بيد الميليشيات. فالنظر إلى حال دول مثل اليمن ولبنان والعراق وسوريا يكشف عن استحالة مشروع إعادة بناء الدول بعد اختطافها وتحولها إلى ساحات للميليشيات المتنافسة التي لا يمكن إزاحتها عن المشهد السياسي كمدخل للعودة إلى ما قبل الفوضى التي خلفتها هذه الميليشيات، كما أن هذه الدول العربية شكلت نماذج للتدخل الإيراني الذي استغل فشلها وهشاشتها لنفث سمومه.
ومن جانب آخر، فقد كان الربيع العربي الذي افتتح العقد الماضي، مرتبطاً بتأثيرات مراكز الفكر الغربي، وتحديداً في ما يتعلق برؤية إسقاط النموذج الديمقراطي بقوالبه الغربية على واقعنا العربي. ومن خلال تجربة السنوات الماضية ونتائج فرض الوصفة الغربية على واقعنا، خصوصاً في ما آلت إليه الأمور في العراق وأفغانستان، إضافة إلى التفاعلات الداخلية في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية وبروز نزعات اليمين الشعبوي، يتضح جلياً أن القوالب الجاهزة التي تفترض أن الديمقراطية الغربية هي الأفضل للشعوب العربية لم تعد مجدية.
وإن كان من درس واقعي تعلمته دول المنطقة خلال العقدين الماضيين، فذلك هو حاجة دولنا إلى بناء نظم مستدامة، محكومة بمرجعيات الحكم الرشيد، وهو اصطلاح تم التوافق عليه وعلى عناصره داخل الأمم المتحدة، وينطلق من المؤسسية الديمقراطية والشفافية وسيادة القانون والمساءلة وتوسيع المشاركة السياسية والمسؤولية المشتركة واحترام حقوق الإنسان وحقوق المرأة والاستجابة لحاجات السكان ومكافحة الفساد. هذه مبادئ صارت مترسخة في المجتمعات العربية المستقرة مثل الدول الخليجية ومصر والأردن والمغرب وتونس، ولو بدرجات متفاوتة.
ويشكل الشباب اليوم ثلثي سكان الدول العربية، ويعاني 30 في المئة منهم البطالة، ولا يمكن للحكم الرشيد أن يحقق تجذر واستدامة في واقعنا من دون إشراكهم في عملية الإصلاح الجارية وإطلاق طاقاتهم وإبداعاتهم في بناء مجتمعاتهم ومشاركة المرأة ومنحها الأصوات اللازمة للتمثيل ورفع العوائق التي تحول دون مساهمتها الفاعلة في سوق العمل.
وتنسحب أدوات الحكم الرشيد على المستوى الإقليمي في سيادة فكر التعاون والتضامن والتكافل الإقليمي للإصلاح. وهي في تقديري أهم عناصر بناء قطب إقليمي بنفوذ دولي واسع، ومقدمة لتطور المنطقة وزيادة نفوذها العالمي. وقد سبق لي أن تناولت أهمية الرؤى الاستراتيجية الخليجية، ورؤية المملكة السعودية 2030 على وجه التحديد، وهي في الوقت الذي تسعى إلى انطلاقة تنموية كبيرة، تترافق مع الإدارة الجادة لتلبية حاجات الفئات الأضعف في المجتمع وترقيتها بما يحقق الرفاه والاستقرار المجتمعي وكبح عناصر التوتر. ولهذه الرؤية انعكاسها الإقليمي. وكمثال على ذلك المواقف الرائعة للسعودية والإمارات والكويت في إسناد مصر وبرنامجها التنموي ومواقفها المشهودة في دعم العراق والأردن والسودان.
هناك حاجة ماسة إلى وضع استراتيجية للاستقرار الإقليمي من خلال قمة عربية اقتصادية عاجلة تقف فيها الدول العربية بمسؤولية أمام أشكال الهشاشة المؤسسية والبيئية وغياب الرؤى الوطنية وتطوير برامج عاجلة للاستدامة التنموية والتموينية والغذائية، تعتمد على التركيز على الشباب والمرأة وترقيتهما المستمرة وإدماجهما في سوق العمل وحماية الفئات الضعيفة ومحاربة الفوارق الاجتماعية. وإلا، فإن كوكتيل الانفجار سيستمر في التجمع، وسيدفع ضغطة المتواصل إلى الانفجار.
نقلا عن اندبندنت عربية