لم يعد السؤال هو «متى تنتهى الحرب الروسية الأوكرانية؟»، وإنما «كيف تنتهى وهل يمكن أن تقتصر على الحرب التقليدية الراهنة، أم يمكن تصعيدها إلى حرب نووية تكتيكية، أم تنتهى إلى حرب نووية تعيد تشكيل النظام الدولى وأوروبا وروسيا ذاتها؟»، ويبدو أن الولايات المتحدة نجحت فى استخدام جميع فنون التصعيد ليس فقط لتوريط روسيا فى حرب استنزاف طويلة المدى، وإنما أيضا فى تشكيل ديناميات الحرب ومسارها ومآل أطرافها المباشرين والآخرين من المساندين. فى الظروف الدولية النمطية يسود السلام بين الدول سواء متجاورة أو متفاعلة؛ بيد أنه فى بعض الأحيان ولأسباب تاريخية أو ثقافية أو مصلحية تتحول العلاقات إلى توتر وصراع وأزمة وإلى حرب فعلية، البعض يطلق على ذلك سوء الإدراك أو خطأ تفسير نوايا الآخرين، بينما يرى آخرون أن ذلك يقع فى إطار التحقق الذاتى للنبوءة حينما تعتقد الدولة خطأ أن تحركات الدول الأخرى تتجه ضدها بالذات. والتصعيد فى تلك الحالات إما أن يكون رمزيا أو ــ وهذا هو الأخطر ــ ماديا يتضمن أموالا وأسلحة ومقاتلين وتدريب، وفى التصعيد إلى حرب تقليدية عادة لا تظهر الدول المساندة سياساتها علنا، حتى فى الحرب بالوكالة، وحتى إذا كان واضحا للكافة من يساند ويدعم من.
الحرب الروسية الأوكرانية هى حرب مفتوحة بين روسيا من جانب وأوكرانيا كعدو مباشر من ناحية أخرى، إلا أن الولايات المتحدة وأوروبا والناتو على وجه الخصوص أعلنت صراحة أنها ضد روسيا، واتخذت قرارات تصعيدية واضحة وصريحة وعلنية بدءا من فرض عقوبات اقتصادية على روسيا مرورا بالدعم المالى والعسكرى اللامحدود لأوكرانيا، بما فى ذلك تقديم أحدث الأسلحة كالدبابات الألمانية والدفاعات الجوية المتطورة وربما الطائرات الهجومية بعيدة المدى، بأطقم تشغيلها وإدارتها. هل يعنى ذلك أن هناك حربا مباشرة بين روسيا من جانب والناتو والولايات المتحدة من جانب آخر، أم أن هذه الحرب المفتوحة لم تصل إلى هذه المرحلة بعد؟ التحليل المحايد لما يجرى يشير إلى أن سعى روسيا والصين إلى تعديل بنيان وقيادة النظام الدولى شكّل تهديدا لاحتكار الولايات المتحدة للدور القيادى لهذا النظام، وهو الدور الذى آل إلى الولايات المتحدة بعد سقوط الاتحاد السوفيتى عام 1990، وكان لا بد لها من الدفاع عن تلك المكانة الفريدة، وهكذا بدأت بالتلميح بانضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبى والناتو، وهو ما يشكل تهديدا للأمن الروسى وكانت تدرك تماما أن بوتين لا يمكن أن يقبل بذلك، ولعل زيارة الرئيس بايدن لأوكرانيا تشكل نقطة تحول رئيسية فى التصعيد الأمريكى ضد روسيا، وفى تطور أساليب الحرب وأسلحتها. وعلى الجانب الآخر، فمن حق روسيا والصين، بناء على القدرات الاقتصادية والعسكرية وموضعهما الدولى، أن يسعيا إلى الانتقال بالنظام الدولى إلى نظام تعددى يعكس مكانتهما، ومكانة الدول الأخرى الطامحة إلى لعب دور أكبر فى نظام دولى متعدد الأقطاب، وربما يفسر ذلك الدعم الذى تقدمه الصين لروسيا والذى قد يتطور إلى دعم عسكرى مباشر فى وقت قريب.
وبصرف النظر عن فنون التصعيد التى توظفها الولايات المتحدة لتأجيج الحرب وإشعال نيرانها، فإن النظام الدولى الراهن لا يمكن أن يستمر كما هو الآن، حيث يفتقد إلى الهوية الواضحة، ويحتاج إلى إقرار دولى بهيكله الراهن، وهو غير متوافر، كما أن أهدافه لم تعد واضحة، وأولوياته غير مفهومة، ولاشك أن جميع الدول، خاصة الغالبية الكبرى من دول الجنوب، ترى فيه نظاما ظالما غير متوازن، وعبرت عن ذلك مثلا فى مؤتمر المناخ السابع والعشرين فى شرم الشيخ، وهو ما يعكس عدم الرضا عن انحياز النظام للولايات المتحدة وأوروبا، والرغبة فى الانتقال إلى نظام دولة أكثر عدلا فى حالة ما إذا كان أكثر تعددية، وبغض النظر عما ترغب فيه الأطراف الدولية المختلفة وما إذا كان يمكن تحقيقه أم لا، فإن التصعيد الراهن فى الحرب الروسية الأوكرانية والمبنى على اللعبة الصفرية ينبئ بالانتقال إلى حرب نووية تكتيكية يمكن أن تنزلق إلى حرب نووية، والذى يقرأ بتأنٍ خطاب بوتين الأخير يدرك ذلك تماما. فهل هذا ممكن رغم الخطر المحيق بالبشرية؟ طبعا ممكن فى حالة تعرض روسيا لتهديدات وجودية تنال بقاءها وسلامة شعبها، وهل يمكن احتواء جميع أشكال التصعيد الحالية حتى لا يمتد التوتر والصراع والأزمة إلى بحر الصين وتايوان، طبعا ممكن بل وضرورى ومهم لسلامة وأمن الجميع، وقد يكون تحول أوروبا والولايات المتحدة من اللعبة الصفرية إلى لعبة المساومة والتوفيق خطوة حتمية، وإن كان ذلك فى الظروف الراهنة صعبا لأنهم هم الذين بادروا باللعبة الصفرية، إما نحن وإما روسيا.
ومهما كان مآل الحرب الروسية الأوكرانية، فإن مستقبل الأمن والسلام فى الوطن العربى، وهو نظام إقليمى فرعى استراتيجى فى النظام الدولى أيا كان شكله، يتطلب التدارس الأمين والكاشف لمصالحنا القومية العليا، ويستلزم التوافق على بدائل التعامل مع النظام الدولى الذى سيولد بعد توقف الحرب، والذى نأمل أن يتم على أعتاب الانتخابات الرئاسية الأمريكية الروسية 2024، وإن كان من المعلوم أنه ليس كل ما يتمنى المرء يدركه.
نقلا عن الشروق