لطالما عوّل الإسلاميون على امتدادهم الطبيعي والسهل في شمال أفريقيا؛ كانوا يرون نزعة الناس نحو التدين والتصوف وتوقهم للتجارب الروحانية مداخل أساسية لتحقيق جولات آيديولوجية بل انتصاراتٍ سياسية، وقد استثمروا في اللعب على الإرث التاريخي، والتطلع الصوفي المتميز، بالإضافة إلى رغبات تقليدية شعبية بوقف نزيف الفساد أو القمع في بعض التجارب الحكومية. وقد كانت جولتهم ممتدة في تونس والمغرب، لكنّ الحدث الأكبر أن تتساقط هذه التجارب في وقت متقارب. تبيّنت الغضبة الشعبية بعد فشلهم في الإدارة والحكم من خلال صناديق الاقتراع في المغرب، والمظاهرات الحاشدة والكاسحة في تونس. نحن أمام تجربتين فاشلتين حديثتين لحكم أحزاب الإخوان المسلمين؛ «حزب النهضة في تونس» و«حزب العدالة والتنمية في المغرب».
يعبّر الرفض الشعبي لتجربة الإخوان في الحكم عن بُعدٍ له علاقة بالهوية، وبخاصة حين نتحدث عن المغرب ذي التكوّن المتعدد في تكوينه اللغوي والقبلي والاجتماعي، لذلك انشغل المفكرون المغاربة بمسألة الهوية بوصفها من الإشكاليات الشاغلة للباحثين بعد التصدع الذي أصاب البشرية مع تصاعد أنماط العولمة والتكنولوجيا والاقتصاد، فأثمر كل ذلك هويّة غير ساكنة وإنما تتوحّد بقدر ما تتعدد، فـ«الهويّة بأربعين وجهاً» كما يكتب الفيلسوف داريوش شايغان، فالهوية بقدر أصالتها إنما لها «أوهامها» وهذا عنوان كتيب للفيلسوف نفسه، فأوهام الهوية حين نأخذها مجرد ردة فعلٍ على التاريخ ضده أو معه، ربما يقرّب البعض إشكالها بوصف «الكوجيتو المجروح» كما هو عنوان كتاب فتحي المسكيني في بحثه عن أسئلة الهوية في الفلسفة المعاصرة. إن «الهوية واحدة بقدر ما هي متعددة» على حد تعبير الفيلسوف الفرنسي إدغار موران، وعليه فإننا حين نتحدث عن بُعد الهوية في مجال مقاومة الأفكار أو صراعاتها إنما نتحدث عنها بشكلها البسيط، أي الهويّة غير المنحازة لأوهام التميز أو العدوان على الآخر، ولا تلك الحاملة تكاليف تاريخها على ظهرها ماضغة ذاكرتها السيئة باستمرار.
من المناسب الوقوف عند تحليلٍ حول «الهوية المغربية، ومغزى سيطرة خطابات الهويّة على الساحة الفكرية بالمغرب» ضمن كتاب: «إشكالية الهوية والتعدد اللغوي في المغرب العربي – المغرب أنموذجاً» من تأليف: إلياس بلكا، ومحمد حراز، وفيه يقول: «إن موضوع الهوية وإشكالاته من أهم القضايا التي سيطرت على ساحة الحوار الثقافي بالمغرب في العقود الأخيرة إلى غاية اليوم، حتى قضايا الحداثة والتراث، كانت نوعاً من التمهيد لجدل الهوية، وقد لاحظ كمال عبد اللطيف أن الموضوعات التي تشكل مجال التأمل الفلسفي المغربي لا تدخل في نطاق الفلسفة التقليدية، بل هي أقرب إلى التاريخ الحي والصراع الاجتماعي». ثم ينقل الباحثان عن الفيلسوف الراحل محمد سبيلا قوله: «إن تزايد حساسيات الهوية، وتبلور نخبها وخطاباتها بشكلٍ تدريجي، يدلّان على أن مجتمعنا لم يستطع أن يقارب فكرياً تمايزاته الداخلية ولم يجد بعد طريقه إلى تدبيرها التدبير العقلاني الأمثل، سياسياً وثقافياً؛ حيث كانت الاستراتيجيات التلقائية تقوم على الاستيعاب التدريجي والتمثل والصهر ولو ببطء».
المؤلفان رأيا أن من أهم أسباب رواج خطابات الهوية أن المغرب يقع في ملتقى حضارات مختلفة، فلا بد أن يتعرض لمؤثراتها، ويضربان مثلاً بسؤال مهم لمحمد سبيلا وهو سؤال مفتوح: «هل توجد علاقة بين تبلور الخطاب الأمازيغي والحساسية الأمازيغية، وبين تبلور الخطاب ذي النزعة والحساسية الإسلامية؟ الملاحِظ لا يمكن إلا أن يسجل نوعاً من التوازي بين تبلور هاتين الحساسيتين وهذين الشكلين من أشكال الوعي، وهما الأهم والأكثر فاعلية في المجتمع الغربي، على الصعيدين الاجتماعي والسياسي كما يرى الطوزي»، (للتفصيل الصفحات من 24 وما بعدها).
بمعنى آخر؛ فإن سقوط الإخوان في المغرب إنما يعبّر عن تخلٍّ كبير عنهم من حواضن شعبية وقبلية، وقوى نفوذٍ غير عادية، فالأفكار والآيديولوجيات تحرسها جموع القبائل وتتغذى على ذكرى المظالم، ويعني سقوط الإخوان بداية الاضطراب في أفكار الهوية الأحادية الواهمة، وربما إن نجحت التجربة البديلة ستكون بداية للذهاب نحو صيغ أكثر مدنية في الحكم والمجال العام على النحو الذي كانت عليه تونس من قبل أن تنعرج قليلاً بعد 2011 وتصوّب مسارها في قرارات الرئيس قيس سعيد التي جاءت تلبيةً لمصالح ومطالب الناس وحراسةً للمؤسسات والمال العام.
على المستوى الصحافي فإن الأسباب التي أدت لسقوط الإخوان بالمغرب يمكن إيجازها بانتشار الفساد بشكلٍ شنيع، وتحوّله إلى مسار إداري طبيعي، تضاعفت معه غضبة شعبية على السوشيال ميديا والتطبيقات الهاتفية مما سرّع من تنامي كتلة قوية غاضبة بين ناخبي الإخوان أنفسهم بشكلٍ أساسي، ومن الأسباب تلويحهم بالعبث بورقة الاستقرار في أكثر من منعطف، وهي ورقة يسقط معها الإخوان من الحكم كلما استخدموها، حدث ذلك في مصر وتونس. ومن بين الأسباب القاتلة أن الكثير من الناخبين يرون في الإخوان «مجموعة من الشعارات» بالإضافة إلى «براغماتية» عالية بغية الانتفاع من الحكم بأسرع وقتٍ ممكن، وهذا اتضح في مستوى الفساد الهائل، والفشل في محاربة البطالة، وعدم وجود استراتيجية تجاه الفقر.
ثمة وجهة نظر نقدية تُطرح داخل زعامات وكوادر الإخوان مفادها أن الإخوان ينجحون في المعارضة ويفشلون في الحكم، فهم يهدمون بنجاح، ولكنهم يفشلون في البناء، وممن طرحوا هذه الفكرة حسن الترابي، تلقّفها عنه بتوسع وبتكرار عبد الله النفيسي، واليوم يطرحها بشكلٍ واضحٍ ومباشر المذيع الإخواني أحمد منصور على «تويتر» وقال: «أثبت الإسلاميون أن محن السجون والمعتقلات أهون عليهم بكثير من محنة المشاركة في الحكم وتولي المناصب، فمحن السجون أُجبروا عليها فصبروا وتعاطف الناس معهم، أما محنة السلطة فتكالبوا عليها من دون قدرة وخبرة ورؤية ففُتنوا بها وفشلوا فيها ونالوا غضب الناس وشماتة الأعداء ودخلوا التاريخ فشلةً خائبين».
فشل الإسلاميون في أول تجربة لهم في الأردن عام 1991 بما عُرف بـ«حكومة بدران»، وفشلوا في فلسطين، والسودان، ومصر، وتونس، والمغرب، وحتى في تجربتهم البرلمانية بالكويت، وفشلوا في المناصب التي تقلدوها حين أتاحت لهم حكومات خليجية قيادة بعض الوزارات والمؤسسات التعليمية والدعوية والتربوية، وعليه فإن المجتمعات الإسلامية إن لم تتعظ من هذه التجارب القاتلة لـ«الإخوان» المسلمين فإنها ستكرر تجربة الفشل كل بضعة عقود.
عقد مضى من حكم الإخوان في المغرب وتونس، ما الذي أضافوه؟! لا شيء… سوى انتشار الفساد، والاستهتار بالدولة ومفهومها ومؤسساتها، وسرقة أعمار الناس وأموالهم. إن التنمية الاقتصادية أساس أي تقدم وهي الصانعة للتغيير الثقافي والاجتماعي.
نقلا عن الشرق