خيارات متساوية:
فرص وعقبات تنفيذ تسوية الأزمة السياسية في السودان

خيارات متساوية:

فرص وعقبات تنفيذ تسوية الأزمة السياسية في السودان



في ظل محاولات القوى السياسية المدنية بالسودان صياغةَ مبادرة أو حل لتسوية الأزمة السياسية الممتدة في السودان منذ الانقلاب العسكري على السلطة الانتقالية في 25 أكتوبر 2021، أعلن المجلس المركزي لتحالف قوى الحرية والتغيير (16 نوفمبر الجاري) عن إجرائه مشاورات مع المؤسسة العسكرية بهدف إنهاء الأزمة السياسية المستمرة في البلاد، على أن يتم التوقيع على هذا الاتفاق قبل نهاية شهر نوفمبر الجاري.

تسوية متدرجة

وصف المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير التسوية المرتقبة مع المكون العسكري بأنها اتفاق إطاري يهدف إلى إقامة سلطة مدنية كاملة في البلاد، وذلك من خلال تشكيل حكومة وحدة وطنية ومجلس وزراء مدني، وأن يتبع جهازا المخابرات والشرطة السلطة التنفيذية ورئيس الوزراء الذي سيتم اختياره لتشكيل الحكومة الجديدة، ويحمل ذلك إشارة إلى أنهما لن يتبعا المؤسسة العسكرية. ويقترح الاتفاق الإطاري تنفيذ ذلك من خلال مرحلتين رئيسيتين، وذلك على النحو التالي:

المرحلة الأولى- تفاهمات مشتركة: حيث تتضمن التوصل لتفاهمات بين القوى السياسية والمدنية والمؤسسة العسكرية بشأن الدستور والسلطة المدنية، على أن تتضمن هذه المرحلة العمل على حل أربع قضايا أو ملفات رئيسية ترتبط بالعدالة الانتقالية، والإصلاح الأمني والعسكري، وتنفيذ اتفاق جوبا النهائي للسلام الموقّع في أكتوبر 2020، وتفكيك نظام الثلاثين من يونيو.

المرحلة الثانية- اتفاق تشاركي: حيث توصلت المشاورات بين المكونين المدني والعسكري خلال هذه المرحلة إلى تطوير الاتفاق الإطاري من خلال توسيع قاعدة المشاركة في العملية السياسية الخاصة بالتسوية، وذلك من خلال السماح بمشاركة جميع القوى السياسية المدنية التي لم توقع على الاتفاق المبدئي، والتوقيع على إعلان سياسي شامل.

فرص متاحة

يستند تحالف قوى الحرية والتغيير إلى بعض العوامل التي تمثل فرصاً متاحة أمام التوصل إلى اتفاق مع المكون العسكري يقضي بتسليم السلطة للمدنيين، وتشكيل حكومة مدنية لإدارة شؤون البلاد، ومن أبرزها ما يلي:

1- قبول المكون العسكري بدستور المحامين: حيث أعلنت قوى الحرية والتغيير أن هناك قبولاً من طرف المؤسسة العسكرية بالوثيقة الدستورية التي أعدتها نقابة المحامين، وأن هناك موافقة أيضاً على تشكيل مجلس وزراء يضم أعضاء مدنيين بالكامل، الأمر الذي من شأنه أن يمهد الطريق بشكل واسع للتوقيع على هذا الاتفاق، مع الاتفاق على تأجيل بعض القضايا الخلافية إلى وقت لاحق، حيث يتم الحديث عن إمكانية التوقيع على اتفاق أكثر تفصيلاً في شهر ديسمبر المقبل، ومن أبرز القيادات العسكرية المؤيدة لهذه التفاهمات الفريق أول ركن “محمد حمدان دقلو” نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي وقائد قوات الدعم السريع، والذي أصبح يتبنى موقفاً مؤيداً للتوصل إلى اتفاق مع القوى السياسية المدنية وصولاً إلى إجراء انتخابات. وينبع هذا الموقف من اعترافه سابقاً بفشل الثورة التصحيحية التي قام بها الجيش في أكتوبر 2021 في تحقيق الاستقرار السياسي المنشود.

2- اقتناع الجيش بضرورة التسوية السياسية: من الفرص المتاحة لتوقيع هذا الاتفاق، هو الموقف الحالي الذي يتبناه قائد الجيش الفريق أول ركن “عبد الفتاح البرهان” بشأن ضرورة تسوية الأزمة الراهنة، وهو ما عبر عنه في خطاباته الأخيرة إذ استخدم فيها خطاباً سياسياً اتسم بالحدة عندما حذر أنصار النظام السابق من حزب المؤتمر الوطني المنحل والتيارات الإسلامية من محاولات استغلال الجيش بغرض العودة للسلطة مرة أخرى، وذلك في إطار إدراكه ضرورة تحييد القوات المسلحة وعناصرها وضباطها وأفرادها لقبول العملية السياسية الجارية حالياً، وخاصة بعدما فشلت قوى الحرية والتغيير – مجموعة التوافق الوطني في إيجاد حاضنة أو ظهير سياسي للفريق “البرهان” يمكن الاستناد إليه في تنفيذ قراراته خلال العام الأخير، وعدم قدرته على إدارة شؤون الدولة السودانية دون إشراك القوى السياسية المدنية وعلى رأسها قوى الحرية والتغيير التي تتمتع بثقل سياسي كبير وقدرة على تحريك الشارع السوداني.

3- استمرار الفراغ المؤسسي والدستوري: فمنذ الإطاحة بالحكومة الانتقالية السابقة برئاسة رئيس الوزراء المستقيل “عبد الله حمدوك” لم يتم تشكيل حكومة وحدة وطنية قادرة على إدارة شؤون البلاد وخاصة على المستوى الاقتصادي، مع الأخذ في الاعتبار أن حكومة تصريف الأعمال التي قام بتشكيلها الفريق أول ركن “عبدالفتاح البرهان” قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة الانتقالي (في يناير 2022) أثبتت فشلها في حل المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية التي ازدادت سوءاً، هذا إلى جانب عدم القدرة على تشكيل مجلس تشريعي، الأمر الذي ساهم في زيادة المخاوف المرتبطة باستمرار حالة الفراغ الدستوري، الأمر الذي يمثل دافعاً قوياً لكافة الأطراف السودانية بضرورة تسوية الأزمة والتوقيع على الاتفاق المشار إليه.

4- دعم داخلي للتسوية المرتقبة: تحظى التسوية المرتقبة بين المكونين المدني والعسكري بدعم سوداني داخلي على المستويين الشعبي والحزبي، وأيضاً على مستوى بعض الجماعات الدينية مثل “أنصار السنة” التي شاركت في مقترح الدستور الانتقالي الذي صاغته نقابة المحامين وتستند إليه قوى الحرية والتغيير والمكون العسكري في التوصل إلى اتفاق لتسوية الأزمة الحالية، خاصة وأن استمرار عدم الاستقرار السياسي سوف يؤدي إلى مزيد من التدهور على المستويين الاقتصادي والاجتماعي.

5- توافر الدعم الإقليمي والدولي لتجاوز الأزمة: يحظى الدستور الانتقالي الذي طرحته نقابة المحامين ووافق عليه المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير وقبل به المكون العسكري، رغم تحفظه على عدد من البنود التي تمس المؤسسة العسكرية، بدعم إقليمي ودولي، حيث أعلنت الآلية الثلاثية (الأمم المتحدة، الإيجاد، الاتحاد الأفريقي) وأيضاً الآلية الرباعية (الولايات المتحدة الأمريكية، بريطانيا، الإمارات، السعودية) دعمهم له باعتباره خطوة إجرائية هامة في طريق تسوية الأزمة السياسية المتفاقمة في البلاد، وبالتالي فإن هذا الدعم الدولي يمثل ضمانة حقيقية لتوقيع المكونين المدني والعسكري على اتفاق إطاري يهدف لتسوية الأزمة السياسية الحالية. وهنا يظهر الدور الذي لعبته الأطراف الإقليمية والدولية خلال الأشهر القليلة الماضية في دفع المكونين المدني والعسكري للجلوس على مائدة المباحثات، والتوصل لتفاهمات على أرضية مشتركة بينهما.

عقبات قائمة

وفي ظل الحديث عن توافر بعض الفرص المتاحة لتوقيع اتفاق التسوية بين قوى الحرية والتغيير والمؤسسة العسكرية؛ فإن هناك بعض التحديات التي تمثل عقبة رئيسية أمام ذلك الأمر، ومن أهمها ما يلي:

1- رفض أنصار نظام الإنقاذ اتفاق التسوية: حيث يتخذ أنصار نظام الإنقاذ من قيادات حزب المؤتمر الوطني المنحل والحركة الإسلامية والتيار الإسلامي العريض، موقفاً رافضاً لأي اتفاق تسوية يتم توقيعه بين قوى الحرية والتغيير والمؤسسة العسكرية، وعبروا عن ذلك في التظاهرات الحاشدة التي دعا إليها القيادي في حزب المؤتمر الوطني “إبراهيم غندور”، ونظموها في العاصمة الخرطوم منذ مطلع شهر نوفمبر الجاري، وكان آخرها تظاهرات 19 نوفمبر الجاري التي عبروا فيها عن رفضهم للتسوية السياسية المرتقبة بين قادة الجيش وما أطلقوا عليها “القوى المؤيدة للديمقراطية”، مبررين ذلك بأن هذه التسوية سوف ينتج عنها اتفاقيات ثنائية، كما أنها سترهن سيادة البلاد لقوى أجنبية، ولذلك طالبوا أيضاً بطرد البعثة الأممية “يونيتامس” من البلاد تحت ذريعة تدخلها في الشؤون الداخلية للبلاد.

بعبارة أخرى، تمثل قوى الثورة المضادة أبرز التحديات التي تقف أمام حلحلة الأزمة السياسية الراهنة في السودان، ويقود هذه الثورة المضادة التيار الإسلامي العريض و”مبادرة نداء أهل السودان”، التي تنظم احتجاجات شعبية في العاصمة الخرطوم للأسبوع الثالث على التوالي في محاولة منهم لعرقلة التوصل لأية تسوية بين الجيش والمجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير، هذا بالإضافة إلى موقف “قوى الحرية والتغيير – مجموعة التوافق الوطني” والتي تحولت فيما بعد إلى “قوى الحرية والتغيير- الكتلة الديمقراطية” بمشاركة بعض الحركات المسلحة، والتنظيمات المدنية ومنها “الجبهة الشعبية المتحدة” برئاسة “الأمين داؤود”، الرافض لمثل هذه التسوية انطلاقاً من رفضهم أي تسوية تقتصر فقط على المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير، وإصرارهم على أن تكون التسوية بموافقتهم والمشاركة فيها، حيث تطالب هذه التنظيمات بإجراء انتخابات عاجلة.

2- التحالفات السياسية المعارضة للتسوية: من ضمن العقبات التي تعرقل عملية التسوية للأزمة السياسية الراهنة، التحالفات التي شهدتها الحياة السياسية السودانية خلال مرحلة ما بعد 25 أكتوبر 2021، وعلى رأسها مجموعة “قوى الحرية والتغيير – الكتلة الديمقراطية” التي تم الإعلان عنها في 3 نوفمبر الجاري، وتضم عدداً من التيارات السياسية المختلفة (جيش تحرير السودان، الحزب الاتحادي الأصل، حركة العدل والمساواة، الحرية والتغيير التوافق الوطني، حزب البعث، المجلس الأعلى لنظارات البجا، لجان المقاومة، المجتمع المدني، الإدارة الأهلية، ممثلين عن النازحين واللاجئين، الجبهة الشعبية، حركة جيش تحرير السودان المجلس القيادي، حركة تحرير كوش، مبادرة السودان يسع الجميع، مؤتمر البجا التصحيح، تحالف الشباب الفيدرالي، مؤتمر البجا المعارض)، وهذا التحالف يرفض التسوية المعلن عنها بين قوى الحرية والتغيير – المجلس المركزي والجيش، وتستند في موقفها الرافض لذلك إلى أن الاتفاق من شأنه تكريس ثقافة الإقصاء السياسي التي شهدتها البلاد في مرحلة ما قبل 25 أكتوبر 2021.

3- فقدان الثقة في المكون العسكري: يُضاف إلى العقبات السابقة إشكالية فقدان القوى السياسية المدنية الثقة في الجيش، حيث ترى بعض لجان المقاومة الثورية ضرورة استكمال النهج الثوري ضد الجيش وحتى إسقاط الانقلاب العسكري على السلطة الانتقالية، كما يرون أن التسوية المشار إليها سوف تمنح الجيش الفرصة للتعافي والعودة من جديد للمشهد السياسي في المرحلة الانتقالية، كما أنه لم يقدم أية إجراءات جدية لإعادة بناء الثقة مع القوى السياسية المدنية حتى الآن، وبالتالي رفض التسوية السياسية مع المؤسسة العسكرية.

4- محورية قضية العدالة الانتقالية: يواجه التوقيع على اتفاق بين المكونين المدني والعسكري إشكالية هامة تتعلق بمصير بعض قادة المؤسسة العسكرية المتهمين بقتل المتظاهرين السلميين الذين شاركوا في الاحتجاجات الشعبية الرافضة للانقلاب العسكري على السلطة الانتقالية خلال العام الأخير. وفي هذا الإطار، تتهم كيانات حقوقية وقوى سياسية داخل المجتمع السوداني السلطات الأمنية بالتورط في مقتل 119 متظاهراً منذ سيطرة الجيش على السلطة في أكتوبر 2021. في هذا السياق، تتحفظ بعض القيادات العسكرية على مشروع الدستور الانتقالي، وخاصة فيما يتعلق بمحاسبة بعض قادة الجيش في الاتهامات الموجهة إليهم بقتل المتظاهرين، ولذلك يطالبون بالحصول على حصانة قضائية تحول دون محاكمتهم بعد تسليم السلطة للقوى السياسية المدنية، وحتى انتهاء الفترة الانتقالية.

عودة مشروطة

الخلاصة، تشير المعطيات الراهنة إلى أنه أصبحت هناك قناعة لدى المكون العسكري بضرورة التوصل إلى تسوية حقيقية مع المكون المدني لتجاوز تداعيات الانقلاب العسكري على السلطة في أكتوبر 2021، وخاصة على المستوى الاقتصادي، فمن شأن التوصل إلى هذه التسوية أن يُسهم في عودة الدعم الدولي مرة أخرى للاقتصاد السوداني الهش، وعودته مرة أخرى للاندماج في المجتمع الدولي.