الأزمة الحالية التى تشهدها غزة ستمثل علامة فاصلة فى تاريخ القضية الفلسطينية ومنطقة الشرق الأوسط. استمرار الأزمة يحمل العديد من المخاطر على القضية والمنطقة، ولكن الأزمة وما أحدثته من حراك، تمثل فرصة نادرة لإحياء الاهتمام بالقضية الفلسطينية، و طرح حل سياسى لها.
مخاطرالأزمة كثيرة، ومنها اتساع نطاق الصراع، وتورط أو توريط أطراف إقليمية فيه بهدف تسوية صراعات قد لا يكون لها علاقة مباشرة بالقضية الفلسطينية. اتساع مساحة الصراع قد تفجر المنطقة بأكملها، وتلقى بالقضية الفلسطينية فى غياهب النسيان.
الخطر الثانى يتعلق باتساع نطاق التدمير لقطاع غزة، وتصاعد ضغوط التهجير، والتعامل مع القضية الفلسطينية من البعد الانسانى وتجاهل البعد السياسى. اما الخطر الثالث فيرتبط باتساع دائرة وصف الفلسطينيين بالإرهابيين، خاصة فى الدول الغربية، وقبول سياسات العقاب الجماعى. فربط القضية الفلسطينية بالإرهاب سيعود بنا لعقود ماضية رفض فيها الغرب الاعتراف بالحقوق الفلسطينية والممثلين الشرعيين للشعب الفلسطينى.
هناك عدد آخر من المخاطر رتبط بالغزو البرى الإسرائيلى المحتمل لغزة وهدفها المعلن بتدمير حماس. وقد اشارت صحيفة وول ستريت جورنال الامريكية لبعضها، وهو غياب أى رؤية لما بعد الغزو، أو ما يسمى سيناريوهات اليوم التالى. حيث ذكرت الصحيفة إذا تم تدمير حماس، من الذى سيملأ الفراغ؟ أنت تدمرالقاعدة وتحصل على داعش. إذا دمرت حماس، فستحصل على حماس ثانية، خيار آخر أنه اذا تمت الإطاحة بحماس، فإن أحد الخيارات هو أن ترسل إسرائيل قواتها لإعادة احتلال قطاع غزة، كما فعلت حتى عام ٢٠٠٥، وهذا يعنى أن إسرائيل يجب أن تكون مسئولة عن ٢٫٢مليون شخص.. وبالطبع سيكون هناك الكثير من المقاومة للاحتلال الاسرائيلى. والاحتمال الآخر هو أن تقوم قوة دولية لحفظ السلام بالسيطرة على غزة، على الأقل مؤقتا. ولكن ليس من الواضح على الإطلاق ما هى الدول، إن وجدت، التى ستكون مستعدة لإرسال عدد كبير من القوات للمساعدة فى تحقيق الاستقرار فى غزة التى مزقتها الحرب. وهناك أيضًا السيناريو الذى يصبح فيه الوضع الإنسانى فى غزة سيئًا للغاية، مما يدفع المدنيين إلى الفرار بأعداد كبيرة إلى مصر المجاورة. وكل ما سبق سيناريوهات ستلحق ضررا كبيرا بالقضية الفلسطينية. فى مقابل هذه المخاطر، يوجد فرصة حقيقية لإحياء عملية السلام، ولكن هذه المرة يجب ان ترتبط هذه العملية بأفكار جديدة، تبتعد عن النهج القديم الذى تمثل فى الحلول الجزئية والتدريجية، والخطوة خطوة. بل لابد من التعامل من البداية مع قضايا الحل النهائى، المتعلقة بإنشاء دولة فلسطينية فى إطار حل الدولتين، و قضية الحدود والقدس واللاجئين والامن المتبادل، ووضع نهاية للصراع ونهاية لمطالب الطرفين.
هناك عدد من المؤشرات تتيح هذه الفرصة، منها الهزة العنيفة التى أحدثها هجوم حماس داخل إسرائيل، ورغم أن التركيز الآن هو على الانتقام، فإن هناك مراجعات بدأت داخل قطاع من الرأى العام الاسرائيلى و قادة هذا الرأى العام، حول الأسباب الحقيقية للأزمة، وارتباطها بسياسة الحكومة اليمينية المتطرفة التى يقودها رئيس الوزراء الاسرائيلى نيتانياهو، والتى تجاهلت اى إشارة للقضية الفلسطينية أو الشعب الفلسطينى.
وتراجع شعبية نيتانياهو فى استطلاعات الرأى العام الاسرائيلى و تحميله جانبا من المسئولية عما حدث، قد يؤدى الى نهاية تاريخه السياسى، والدعوة لتشكيل حكومة جديدة تمثل قوى سياسية أكثر تنوعا، أو الدعوة لانتخابات إسرائيلية جديدة، سوف تتأثر نتائجها بالتأكيد بأحداث غزة.
هناك أيضا التحولات التى بدأ يشهدها الرأى العام الغربى والذى كان مؤيدا بشدة للموقف الإسرائيلى فى بداية الازمة، ولكن اصبح الآن يدرك حجم المأساة الإنسانية التى خلفتها الهجمات الإسرائيلية على غزة.
موقف الإدارة الأمريكية سوف يشهد أيضا تحولا تدريجيا، كانت إحدى ارهاصاته تحذير الرئيس الامريكى بايدن لإسرائيل من غزو غزة، و وصفه للغزو المحتمل بأنه سيكون خطأ كبيرا. كما ان التآييد الامريكى غير المشروط لإسرائيل فى بداية الأزمة، قد يعقبه طلب أمريكى لإسرائيل برد الجميل والاستجابة لمبادرة سلام، كما فعلت الولايات المتحدة مع إسرائيل بالجسر الجوى فى أكتوبر ١٩٧٣، وما اعقبه من مبادرات سلام أمريكية.
والواقع ان الإدارة الأمريكية فى عهد الرئيس السابق كلينتون قد توصلت عام ٢٠٠٠، الى مجموعة من المقترحات الجادة بشأن قضايا الحل النهائى للقضية الفلسطينية، عرفت وقتها بمعايير كلينتون، ويمكن ان تمثل نقطة انطلاق لعملية سلام جادة.
ومما لاشك فيه، ان حديث الرئيس السيسى عن حالة غياب الأمل لدى اهل غزة نتيجة لعدم وجود حل سياسى للقضية الفلسطينية، ودعوته لمؤتمر دولى للسلام يعقد فى القاهرة للتعامل مع البعد السياسى للقضية الفلسطينية، وليس البعد الانسانى فقط، ينم عن بصيرة فى فهم تداعيات الازمة، ويمكن ان تطرح مصر مبادرتها الخاصة او يتم عودة التأكيد على مبادرة السلام العربية.
وبالتأكيد فإن الجهد المصرى يستهدف السعى الى الحد من المخاطر المرتبطة بالأزمة، وتحويلها الى فرصة لتحقيق سلام حقيقى ودائم، من خلال التعامل مع جوهر القضية الفلسطينية، وبدون ذلك، فإن دوائر العنف والصراع وعدم الاستقرار ستستمر معنا، وسيدفع ثمنها كل شعوب المنطقة.
نقلا عن الأهرام