عودة فلاديمير بوتين إلى الخليج والشرق الأوسط: ماذا دار بينه وبين إبراهيم رئيسي؟ – الحائط العربي
عودة فلاديمير بوتين إلى الخليج والشرق الأوسط: ماذا دار بينه وبين إبراهيم رئيسي؟

عودة فلاديمير بوتين إلى الخليج والشرق الأوسط: ماذا دار بينه وبين إبراهيم رئيسي؟



دخلت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن المرحلة الأكثر حرجاً في تناولها حرب إسرائيل على غزة، لأنّ الإبحار بين التحالف العسكري الأميركي- الإسرائيلي وبين المصالح الأميركية الاستراتيجية والقيادة الأخلاقية بات يواجه عواصف وأمواجاً خطرة.

لن تتمكن إدارة بايدن من الإمساك بطرفيّ العصا والاستمرار بضبط ايقاع الأمور مع إيران وأذرعها في اليمن ولبنان والعراق وسوريا، إذا استمرت في إعفاء إسرائيل من المحاسبة الجديّة والجازمة أولاً، وإذا حجبت الجزرة الموعودة عن إيران إلى أجلٍ غير مسمّى. نجاحاتها في اللجم والردع والاحتواء لمنع تحوّل حرب غزة الى حرب اقليمية لا تُنكَر، لكنها الآن في هشاشة وتتطلّب الجرأة والإقدام على تغيير نوعي في علاقة إدارة بايدن مع الحكومة والمؤسسة العسكرية الإسرائيلية ومع المستوطنين ومشاريع التهجير القسري التي تُنفَّذ عملياً في قطاع غزة.

الدول العربية تمدّ إلى واشنطن شبكة إنقاذ براغماتية، من شأنها أن توفّر تلك الفرصة التاريخية لمنطقة الشرق الأوسط برمّتها، وبما يحفظ المصالح الأميركية والعربية والإسرائيلية بل والعالمية. العثرة الأكبر أمام هذه الفرصة هي الإملاءات الإسرائيلية المتهوّرة التي حان وقت رفضها.

لنتحدث أولاً عن اجتماع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين برئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية إبراهيم رئيسي في موسكو، والذي أتى مباشرة بعد زيارة بوتين الناجحة الى المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات، واجتماعاته مع كبار القادة هناك هذا الأسبوع.

في المعلومات، طلب الرئيس بوتين من نظيره الإيراني ألاّ تصدّ إيران الباب في وجه الجهود والمحاولات لإيجاد اتفاق حول غزة وحلول بين إسرائيل و”حماس”. وافق رئيسي على طلب بوتين- وهذا أمر مهمّ.

ولكن، عندما طلب الرئيس الروسي من الرئيس الإيراني أن تخفّض إيران حركة المجموعات التي تتصرّف بالنيابة عنها، وأن تلجم حجمها، أتى الجواب بأنّ هذا أمر يعتمد على إجراءات إسرائيل، بالذات نحو لبنان. بكلام آخر، ربط رئيسي كامل حركة القوات غير النظامية التابعة لطهران من الحوثي في اليمن، إلى الحشد الشعبي في العراق، بما تقوم به إسرائيل نحو “حزب الله” في لبنان.

مصادر مقرّبة من الإسرائيليين أكّدت أنّ ما تمّ تسريبه حول اعتماد إسرائيل خطّة شن عمليات عسكرية بدءاً بجنوب لبنان إلى أي عمق تحتاجه إنما هو مؤكّد، وأنّ الخطة مفصّلة وجاهزة للتنفيذ والتدمير بكل قوة، وقد اعتُمِدَت هذا الأسبوع رسمياً.

الرئيس الإيراني أكّد للرئيس الروسي أنّه في حال شَنّت إسرائيل هجوماً على “حزب الله” في لبنان، لن تقف إيران متفرِّجة وإنما ستدخل حلبة القتال مباشرة. هذا ما أكّدته مصادر وثيقة الإطلاع على المحادثات طلبت عدم ذكر اسمها.

إنما، تابعت المصادر، ما تعهّد به رئيسي إلى بوتين هو أنّ إيران لن تُحفِّز “حزب الله” على القيام بإجراءات تؤدّي الى عمليات إسرائيلية انتقامية في لبنان. وهذا أيضاً مهمّ.

أراد بوتين أيضاً من رئيسي أن يدعم جهوده الرامية الى المزيد من المصالحة والتوافق بين السعودية وإيران، وقال له إنّه بحث هذا الأمر مع القيادة السعودية التي رحّبت بدورٍ روسي في هذا الإطار.

روسيا لا تحاول أن تحلّ مكان الصين في رعاية الاتفاقية السعودية- الإيرانية، لكن الصين منشغلة هذه الأيام بأولوياتها الاقتصادية- كما باحتمال تفشّي وباء جديد- وهي لا تمانع دوراً لروسيا في موضوع التوافق كما في مسألة غزة.

ما في ذهن الرئيس بوتين هو إنشاء “محور نفوذ” سياسي يضمّ روسيا وإيران والسعودية، بحيث تتحوّل الرياض وطهران إلى شريكين وليس إلى متنازعين، ما يؤدّي إلى استقلال سعودي أكثر عن الولايات المتحدة، بحسب تفكيره. هذا ليس بالضرورة ما في ذهن الرياض. فالقيادة السعودية تشجّع دوراً لروسيا إنما ليس أبداً بديلاً عن الدور الأميركي.

بين الأولويات السعودية رغبتها بأن تنجح روسيا في إقناع إيران بلجم نشاطات الحوثيين المزعزعة للأمن البحري والملاحة والتي تتحدّى الصبر الأميركي وتستفزه. الرياض شجّعت وتشجّع واشنطن على الصبر والترفّع عن الاستفزاز، إنما لن تتمكن دوماً من النجاح في جهودها إزاء ازدياد استهداف أذرع إيران في اليمن والعراق للمواقع والمصالح الأميركية. من هنا تأتي أهمية طلب بوتين من رئيسي أن تخفّض إيران هذه النشاطات، وموافقة رئيسي على الطلب- حتى ولو كانت مشروطة.

المواضيع الأخرى التي بحثها الرئيسان الروسي والإيراني تطرّقت الى موضوع النفط، علماً أنّ بوتين حاول إقناع السعودية أن تخفّض نسبة الإنتاج كي يؤثر ذلك على أسعار النفط، وهو حاول إقناع رئيسي بعدم زيادة مبيعاتها النفطية كما تعتزم أن تفعل. فهذا الأمر يؤذي المصالح الروسية. تحدّث الرئيسان أيضاً عن بحر القوقاز ومساعي خلق ممر “كوريدور” من روسيا الى إيران الى الهند. وتحدّثا عن ضبط الأوضاع بين أرمينيا وأذربيجان.

أما بالنسبة لسوريا، فأكّدت القيادة الروسية إلى القيادة الإيرانية استمرار تواجد روسيا في سوريا، إنما أوضحت أنّ العبء الأول يقع على أكتاف إيران لضمان المصلحة المشتركة هناك، وهي بقاء بشار الأسد في الرئاسة، مع ضمان عدم وقوع نزاع بين سوريا وإسرائيل. هذا وتعهّدت روسيا لإيران بتسليمها كل المساعدات العسكرية.

ماذا عن دور روسيا في مسألة غزة و”حماس”؟ واقع الأمر أنّ موقع روسيا بين إسرائيل و”حماس” ليس مريحاً بل يسبّب لها معضلة- وهذا جديد على موسكو. جديد غير تقليدي لدورها في الشرق الأوسط. جديد يكبّلها.

فروسيا لا تستطيع المواجهة مع إسرائيل، وهي لا تستطيع التوقف عن دعم “حماس”. لذلك، ليس في استطاعة موسكو أن تقدّم أي شيء جوهري لنقل مسألة غزة إلى مرحلة جديدة، لكن في إمكانها أن تبدو وأنّها عادت إلى الشرق الأوسط، ليس عبر المسألة الفلسطينية بالضرورة وإنما من البوابة الإيرانية- العربية- الإسرائيلية.

روسيا ما زالت تعتقد أنّ مستقبل فلسطين يقع في أيادي “حماس”، وأنّ الأمر يعتمد على الجناح العسكري للحركة وقراراته ومصيره. رأي روسيا هو أنّه في حال خروج الرئيس الفلسطيني محمود عباس من السلطة بسبب تدهور صحته، فإنّ الضفة الغربية ستقع تحت سيطرة “حماس”. تقديرها هو أنّ حركة “فتح” ضعيفة الى درجة لا عودة عنها، وأنّ من الضروري التفكير الجدّي بمستقبل فلسطين من دون محمود عباس.

إذا كان التقدير الروسي صحيحاً ووقعت الضفة الغربية في أيادي “حماس”، فإنّ إسرائيل لن تحصر استراتيجيتها للتهجير القسري للفلسطينيين من غزة إلى سيناء في مصر، وإنما ستطبّقها لتهجير الفلسطينيين قسراً من الضفة الغربية إلى الأردن. بل لعلّ إسرائيل تستفيد من اضطرار السياسيين الأميركيين للرضوخ أمامها في سنة انتخابية، لتوسّع حلقة الإبعاد القسري للفلسطينيين من الداخل الإسرائيلي، لتتخلّص من القنبلة الديموغرافية الموقوتة هناك.

إدارة بايدن تدرك هذه الأمور، وتخشى من عواقبها. لذلك تزداد انتقاداتها اللفظية والعلنية- وقليل من إجراءاتها- نحو إسرائيل. وهي بدورها تتصرّف وأنّها مكبّلة الأيادي. حاول أركان الإدارة الأميركية الضغط السياسي، لكن الدعم العسكري المتدفق إلى إسرائيل جعلها أكثر تمرّداً على فريق بايدن الذي بدأ ينزلق من موقع القيادة الاستراتيجية، وكذلك الأخلاقية، برفضه السماح لمجلس الأمن الدولي أن يتناول مسألة غزة.

الولايات المتحدة ستفقد زمام المبادرة إذا لم تسرع الآن إلى العزم والحكمة والجرأة على إبلاغ إسرائيل أنّ الحدود الزمنية والأخلاقية لعملياتها في غزة سياسة أميركية جديّة. الاعتبارات العسكرية وتلك المتعلقة بالأمن القومي الإسرائيلي تجد تفهماً روسياً وليس فقط تفهماً أميركياً. فهذه نقطة تحوّل في العمليات العسكرية الإسرائيلية لإبداء القوة الحاسمة لتدمير الجناح العسكري لـ”حماس” ولإركاع غزة برمتها، إذا رفضت “حماس” الاستسلام ورفع الراية البيضاء. الرسالة الإسرائيلية الى “حماس” ومن يدعمها هي أنّ الفرصة اليوم أمام “حماس” للإفراج عن جميع الرهائن ولإنهاء حكمها لغزة والسماح لقيادة فلسطينية جديدة هناك. هكذا تُنقِذ “حماس” نفسها من الهلاك وتنقِذ غزة من الدمار القاطع.

التفهم الأميركي والأوروبي لهذا المنطق الإسرائيلي ضمن معادلات الحرب، لا ينفي التخاذل الغربي إزاء خروقات إسرائيل للقانون الدولي وقواعد الحرب وواجبات حماية المدنيين بروزنامة مفتوحة. هذا انزلاق خطير يهدّد الأمن والسلم الدوليين، ويسحب عن إدارة بايدن وزن القيادة ويسلبها زمام المبادرة.

فلاديمير بوتين يفهم الحسابات الانتخابية الأميركية وبرامجها الزمنية. مع منتصف كانون الثاني (يناير) 2024 ستدخل الولايات المتحدة المرحلة الانتخابية الجديّة، وستتحوّل أولوياتها الى المسائل الداخلية. فلا النفط من أولوياتها اليوم، ولا هي في وارد مواجهة مصيرية مع إسرائيل. انّها فرصة لفلاديمير بوتين لأن يستعيد مكانة دولية، وأن يعود لاعباً عالمياً. زيارته الى السعودية والإمارات أتت لتبلّغ من يعنيه الأمر أنّ فلاديمير بوتين قد فكّ العزل عنه، وأنّ هناك قنوات عديدة أمامه للقفز على العقوبات ضدّه والتهرّب منها، وأنّ روسيا عائدة إلى الشرق الأوسط.

أميركا تبقى أميركا، وهي قادرة على أن تستعيد زمام المبادرة حفاظاً على المصالح الأميركية الاستراتيجية. حرب غزة غيّرت كل المعايير وعلى رأسها ضرورة بناء علاقة ناضجة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وليس تلك المبنية على مغامرات وإملاءات “الإبن المدلّل” الطائش.

نقلا عن النهار العربي