عن الفراغ الإستراتيجى العربى – الحائط العربي
عن الفراغ الإستراتيجى العربى

عن الفراغ الإستراتيجى العربى



واكبت زيارة الرئيس الأمريكى الأخيرة للشقيقة السعودية، الذكرى السبعين لثورة يوليو، وانبعاث القومية العربية كفكرة ولدت من رحم سوريا لكنها لم تجد حاملا تاريخيا سوى مصر، ولا صوتا جهيرا يصدح بها سوى جمال عبد الناصر، الذى لم يتوان عن النفخ فى روح الأمة واستنهاض عافيتها، وعن استخدام جسد مصر الفتى آنذاك فى سد الفراغ الإستراتيجى الموحش الذى كان يتمدد فى قلبها ويحاول تقويض أجنحتها. رفض ناصر سياسة الأحلاف العسكرية التى اعتبرت المنطقة مجرد ساحة يتصارع عليها الآخرون. أسقط حلف الدفاع عن الشرق الأوسط بقيادة الولايات المتحدة الصاعدة إلى مقعد الهيمنة العالمية، قبل أن يسقط حلف بغداد بقيادة بريطانيا، الإمبراطورية النازلة عن هيمنتها العالمية، ومعه النظام الملكى العراقى، وصولا إلى تأميم القناة فحرب السويس وملابساتها التى أفضت إلى نهاية الاستعمار القديم، وإطلاق ديناميكية عصر التحرر القومى.

كشفت ملابسات زيارة بايدن عن مدى خواء المنطقة من الأفكار والمشروعات الذاتية، كحالها قبل ثورة يوليو وصعود ناصر، وعودتها من جديد منطقة رخوة، تجذب ليس فقط أقطاب العالم الكبار، بل أيضا الجيران الأقوياء فى الإقليم. أتى بايدن ولا يشغله سوى السيطرة على سعر النفط وتمكين إسرائيل فى المنطقة سياسيا وعسكريا بعد أن جرى تمكينها اقتصاديا وتجاريا عبر اتفاقات التطبيع الإبراهيمية. هنا طرحت فكرة الناتو العربى، المفترض أنه تحالف يضم إسرائيل مع دول المشرق العربى خصوصا مصر والأردن ودول الخليج فى مواجهة إيران، وإن لم تناقش الفكرة جديا خاصة بعد ما نأت الإمارات بنفسها عنها. وفى المقابل سعت إيران إلى تدعيم تحالفها مع القطب الروسى والجار التركى لتوازن ما تصورته تحالفا عربيا إسرائيليا بقيادة الولايات المتحدة، لتدخل المنطقة إلى هاوية تحالفات متضادة يمكن إذا استمر زخمها أن تودى بها إلى الحريق. فأى حرب ستقع، وأيا كانت أطرافها، ستدور على الأرض العربية فى ذلك القوس الممتد من بيروت وصولا إلى اليمن عبر العراق وسوريا، وجميعها دول جريحة عانت ويلات اقتتال أهلى نال من استقرارها، فيما سوف تفقدها الحرب الإقليمية جل ما بقى لديها من طاقات اقتصادية وبشرية، وتنزع عنها أى قدرة على التماسك الوطنى. أما الأطرف الرابحة من حرب كهذه فلا تعدو الولايات المتحدة وإسرائيل. الأولى يبدو رئيسها محاصرا على كل صعيد، فهو مأزوم فى الداخل بشعبية متدنية جدا واحتمالات عالية لإخفاق حزبه الديمقراطى فى انتخابات الكونجرس القادمة ومن ثم تحوله إلى بطة عرجاء لعامين قادمين، يليهما خروج مؤكد من الساحة السياسية، فضلا عن تضخم اقتصادى لا يزال يتفاقم. وهو مأزوم فى الخارج أمام تقدم روسى واثق، لم تستطع العقوبات الاقتصادية أن تثنيه عن أهدافه. لكن بايدن رغم ذلك وجد فى المسرح العربى ما يبدو معه فعالا، دون أن يتكلف عناء تجميل موقفه كحليف مثالى لإسرائيل، وعدو صريح للفلسطينيين، لا يعنيه حل الصراع بين الطرفين، بل لا يتورع عن خلق صراعات جديدة وتفجير الصراعات القائمة، تحت ضغط مجمع صناعى عسكرى لا هدف له سوى تجارة السلاح، مثل أى قرصان ماهر، يزين إطلاق الرصاصة الأولى غير مكترث باللهيب الذى يليها طالما استمر بعيدا عن قلعته الحصينة. والثانية هى إسرائيل، التى يتوهم البعض أنها قد تحارب إيران دفاعا عنه، رغم استحالة إطلاقها رصاصة واحدة لصالح أى طرف عربى، ما يعنى أن تحالفنا معها ضد إيران سيستخدم فقط لصالح استراتيجياتها، وعندها نصبح كمن يطلق الرصاص على نفسه؛ فالأرض المحترقة فى أى حرب متصورة ليست إلا عربية، وفيروس التفكيك لن يضرب سوى دولا عربية، وكلما ضعف العرب تعاظمت أدوار جيرانهم، وتزايدت أعداد الجماعات العرقية والثقافية المستعدة للعب أدوار وظيفية لصالحهم، كما أن الحروب جميعها ستدار بمال عربى سيجرى نهبه على نحو منهجى.

المفارقة أن ذلك يحدث فى وقت تحتاج فيه الولايات المتحدة إلى الدول الخليجية وبالذات السعودية فى صراعها مع روسيا والصين على النفوذ العالمى، أكثر مما يحتاج إليها العالم العربى، الذى يظل للأسف عاجزا عن المناورة بين المتصارعين رغم ما يملكه من أوراق رابحة يحتاج إليها الجميع، كالنفط والغاز والفوائض المالية لدى بعض بلدانه، الأمر الذى يؤكد من جديد أن مشكلة العرب ليست فى ضعف قدراتهم بل فى فقر خيالهم. ولكن يبقى الأمل معقودا على تحالف موضوعى بين مصر والسعودية والأمارات يستطيع شغل المقعد الشاغر وملء الفراغ الإقليمى الشاسع. الامارات بما لديها من قدرات مالية ونفوذ سياسي, والسعودية بما لها من ثروة نفطية ومكانة دينية وعلاقات دولية, ومصر باعتبارها القائد التاريخى الذى اعتاد لعقود طويلة أن يرسم إستراتيجيات الإقليم ويطارد الأعداء إلى خارجه. وهنا يتعين على مصر بالذات أن تلعب دور الجسر بين ضفتى الخليج, كونها الدولة الأقدر على نزع فتيل الانفجار، وكونها الدولة الأكثر قبولا من الطيف الإقليمى الواسع، وخلو سياساتها من الأبعاد الطائفية، لكن ذلك يقتضى وجود حوار فعال ومباشر مع إيران، يتم الاتفاق على أسسه وبنوده بين مصر والأشقاء فى الخليج، خصوصا السعودية، لصياغة صفقة شاملة حول قضايا الإقليم تنطوى على أمرين أساسين: أولهما تجفيف الحضور الإيرانى الميليشياوى فى العالم العربى. وثانيهما نأى العرب بأنفسهم عن كل السياسات العدوانية، الأمريكية والإسرائيلية، حيال إيران، خصوصا فى القضية النووية. ومن ثم يبدأ مشرقنا العربى التعيس رحلة الخلاص من حالة الفراغ التى تجذب أقطاب العالم ووكلاءهم الإقليميين.

نقلا عن الأهرام