على واشنطن أن تفهم السّياسات السّعودية… ما هي شروط إنجاح “الصفقة الكبرى” في الشّرق الأوسط؟ – الحائط العربي
على واشنطن أن تفهم السّياسات السّعودية… ما هي شروط إنجاح “الصفقة الكبرى” في الشّرق الأوسط؟

على واشنطن أن تفهم السّياسات السّعودية… ما هي شروط إنجاح “الصفقة الكبرى” في الشّرق الأوسط؟



تحتاج “أركان” إدارة الرئيس جو بايدن إلى التعمّق أكثر في قراءة القيادات الخليجية، وبالذات القيادة السعودية المتمثِلة بولي العهد ورئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان، عندما تسعى وراء اختراقٍ أو إنجازٍ أو “صفقة كبرى” لإسرائيل دور فيها، أو عندما تحاول استدراك أخطائها الجيو – سياسية باشتراط تقليص أو تحجيم العلاقة السعودية مع الصين مقابل تعزيز العلاقة الأميركية – السعودية. فليس هناك اليوم تلقائية الأمس ولا مرجعية الماضي التقليدية في الصفحة الجديدة من العلاقات الأميركية – السعودية. هناك براغماتية وتبادلية المصالح في لغة دبلوماسية وسياسية اعتمدتها القيادات الخليجية الشابة، وهي تتطلب من السياسيين الأميركيين، ديموقراطيين وجمهوريين، اليقظة والحكمة والجرأة على الإقدام لتغيير معادلات وافتراضات خاطئة.

ما كتبه الزميل المخضرم توماس فريدمان حول تلك “الصفقة الكبرى” التي تسعى وراءها إدارة بايدن يستحق التوقف عنده، وتستحق الأفكار الواردة فيه التفنيد والتدقيق.

أول التحديات في الطروحات المتعلقة بإسرائيل هو قدرة إدارة بايدن على دفع حكومة بنيامين نتنياهو إلى التخلي عن فكرها وعقيدتها وسياساتها الرافضة لحل الدولتين، ولإعطاء الفلسطينيين حقوقهم كمواطنين داخل إسرائيل، وكشعب تحت سلطة احتلال يترتب عليها واجبات بموجب القانون الدولي.

إسرائيل، بصراحة، لا تريد حل الدولتين، وهي رفضت تكراراً كل المساعي الأميركية والدولية لإيجاد حلول للنزاع مع الفلسطينيين. تريد إسرائيل التوصل إلى التطبيع مع العرب بإلغاءٍ للمسألة الفلسطينية التي تعتبرها مشكلة العرب لا مشكلتها. وهنا تكمن المعضلة لإدارة بايدن ولكل الإدارات الأميركية السابقة.

نجحت إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب في تسجيل اختراق تاريخي عبر الاتفاقات الإبراهيمية غير المسبوقة، حيث تم التطبيع بين دول عربية رئيسية وإسرائيل، شملت الإمارات والبحرين والمغرب والسودان. بين مصر والأردن معاهدات سلام مع إسرائيل، أتت بعد مفاوضات ثنائية كان للولايات المتحدة دور جذري فيها.

السعودية مستعدة لسلام مع إسرائيل يكون عادلاً للفلسطينيين بقدر المستطاع، طبقاً لحل الدولتين وعلى أساس المبادرة العربية التي طرحتها السعودية عام 2002 أثناء القمة العربية في بيروت. وهذا ما أبلغته إلى وزير الخارجية أنتوني بلينكن أثناء زيارته المفصلية للرياض وجدّة قبل بضعة أسابيع، كما أثناء الاجتماعات مع مستشار الأمن القومي جيك سوليفان والمسؤول الأول عن ملف الشرق الأوسط في البيت الأبيض بريت ماكغورك قبل أسبوعين. إنها لا تتبنى لغة الرفض القاطع للتطبيع، بل إنها لا تستبعده ضمن شروط منطقية تتسم بالليونة والحزم معاً.

رجال إدارة بايدن يريدون اختراقاً بين السعودية وإسرائيل، لأنهم يدركون تماماً حجم مثل هذا الإنجاز ووزنه، ليس فقط على صعيد العلاقات الثلاثية، الأميركية – السعودية – الإسرائيلية، بل على صعيد الانتخابات الرئاسية الأميركية. رجال إدارة ترامب يريدون الإحباط التام لجهود إدارة بايدن، لأنهم يعتقدون أن هذا الإنجاز ينتظرهم هم وحدهم وليس أبداً متاحاً لبايدن وحملته الانتخابية.

سيكون أمراً رائعاً أن تتمكن أيّ إدارة أميركية من إقناع إسرائيل بأن السلام مع السعودية لن يتم على جثة فلسطين. التنازلات طبيعية في المفاوضات، لكن المقايضات التي تفترض أن العرب نسوا ما كان يسمى القضية الفلسطينية، وأن السعودية بالتالي جاهزة للتطبيع مقابل تنازلات تجميلية طفيفة من إسرائيل، إنما هو ضرب من الخيال. ولن يحدث.

السعودية متماسكة في موقفها منذ البداية، وهي أولى الدول العربية التي طرحت مبادرة السلام مع إسرائيل وشروط الاعتراف بها. كانت سبّاقة وما زالت مستعدة. العبء اليوم يقع على أكتاف الولايات المتحدة الأميركية أكثر من أي وقت مضى. ذلك لأن السعودية اليوم أساسية وضرورية للإدارات الأميركية، ديموقراطية كانت أم جمهورية، بسبب أدوارها الجديدة على الصعيدين الإقليمي والدولي، كما نتيجة إعادة اختراع نفسها ببراعة.

بكلام آخر، حان الوقت للولايات المتحدة لتقرر ماذا ستفعل بتعنّت إسرائيل ضد كل المبادرات والقرارات والجهود والمحاولات الأميركية لإيجاد حل للنزاع الإسرائيلي – الفلسطيني وللنزاع العربي – الإسرائيلي. هذه فرصة فريدة لإبداء القيادة والعزم الأميركي على صياغة علاقة طبيعية متزنة وعقلانية مع إسرائيل، بدلاً من علاقة الابن المدلل التي لم تخدم الطرفين وكانت مبنيّة على أسسٍ فات اليوم زمنها.

إنها فرصة الـ ربح – ربح إذا أحسنت إدارة بايدن اقتناصها. والخوف، كل الخوف هو أنها لن تتمكن لأنها تفتقد القدرة وليس لأنها تفتقد الرغبة. فالاعتبارات الانتخابية الرئاسية تكبّل الأيادي. تقليدياً، ليس في وسع أي من المعسكرين الجمهوري أو الديموقراطي سوى الانحناء أمام إسرائيل أثناء الحملات الانتخابية. أما اليوم، فإن الفرصة مواتية لكل من الحزبين للتقدم بطروحات تجديدية ولاتخاذ مواقف حازمة من إسرائيل، لأن الاعتبارات الجيو – سياسية تفرض إعادة النظر إذا كان في الحساب المصالح الأميركية.

المصلحة الأميركية تتمثّل اليوم في توسيع حلف شمال الأطلسي “ناتو” وعولمته. عروض الاتفاقات الأمنية الضخمة على السعودية تشكل لبنة أساسية في هذا المسعى، بما يتماشى مع اتفاقات واشنطن مع حلفائها الكبار كاليابان وأستراليا. وهذا أمر خارق الأهمية في الأهداف الجيو – سياسية الأميركية.

السعودية ترحّب باعتبارها شريكاً وحليفاً أساسياً، لا ملحقاً عند الحاجة. إنها تفهم ما يحدث وماذا تعني عولمة حلف شمال الأطلسي وتوسيعه إلى المنطقة العربية من الخليج.

لكن الرياض لا تريد أن تكون طرفاً في محور العداء للصين. ما تريده هو إثبات صدقيتها في علاقاتها الدولية، واحترام كل الحلفاء والأصدقاء لحق السعودية ببناء علاقات مع الجميع ببراغماتية ومن دون عداءات. فلا ضرورة للانفصال عن الصين التي لها معها علاقات اقتصادية وسياسية مهمة. ولا ضرورة للتشكيك في صدق العلاقات الأمنية والنوعية وعمقها مع الولايات المتحدة، بغض النظر عما إذا كانت الإدارة ديموقراطية أو جمهورية.

واشنطن تفهم أن هذا هو الجديد في التفكير السعودي، لكن هناك في واشنطن من لا يتفهم، بل من يرفض أن يتفهم لأنه من معسكر التفكير التقليدي العقيم والفوقي في نظرته إلى السعودية والمنطقة العربية برمّتِها.

ما يجدر بالقائمين على صنع السياسة الأميركية أن يفكروا به من أجل المصالح المشتركة مع السعودية والدول الخليجية عامة، هو الكف عن إصدار الأوامر وعن التكبّر لأسباب استراتيجية كانت أو عنصرية.

عليهم أن يفهموا أن الرعاية الصينية للاتفاقات السعودية – الإيرانية أتت نتيجة قرار سيادي للدول الثلاث، وأن السعودية لن تتراجع عن هذا المسار لمجرد أن الولايات المتحدة جاهزة لتلعب دور الراعي لاتفاقات سعودية – أميركية – إسرائيلية.

السعودية اليوم لاعب على الساحة الدولية مثلها مثل الإمارات وقطر، وهي تنسّق مع الدول الخليجية الأخرى التي تلعب أدواراً مهمة في الملفات الإقليمية والدولية. إنها تستخدم علاقاتها مع أطراف النزاع في الحرب الأوكرانية لاستضافة محادثات قد تؤدّي إلى اختراق، بالرغم من ضعف حظوظ عقد قمة سلام يجري الحديث حولها. الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي عبّر عن أمله في عقد قمة سلام هذا الخريف، وأن تكون المحادثات في السعودية خطوة نحو تحقيق هذا الهدف: قمة تُشارك فيها 40 دولة.

هذا لا يعني أن السلام بات خلف الباب، وأن روسيا وأوكرانيا على عتبة إنهاء الحرب التي بدأت قبل 18 شهراً وما زالت مستعِرة وسط أجواء تصعيد لا أجواء سلميّة. أوكرانيا تسوّق لتبني القمة خطةً من عشر نقاط طرحتها كييف الخريف الماضي يروّج زيلينسكي لها.

روسيا ترفض قطعاً أن تشارك في القمة. ما تريده السعودية ليس أبداً عبارة عن قمة استبعادٍ لروسيا، بل محادثات لدولٍ فاعلة تستضيفها السعودية تشمل مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي والصين والهند والبرازيل وتركيا وجنوب أفريقيا، بهدف العمل المشترك لإيجاد نافذة لوقف الحرب في أوكرانيا التي تهدد الأمن العالمي بكل جوانبه.

الرياض واضحة في موقفها الدائم القائم على أنها حليف استراتيجي وأمني وعسكري وسياسي لواشنطن، بلا منازع، لكن الرياض تبني علاقة استراتيجية مع الصين في الاقتصاد والتجارة والسياسة لن تتخلى عنها.

بدلاً من أنماط الفوقية المعهودة في تعامل الإدارات الأميركية المختلفة للدول الخليجية، وبالذات السعودية، أدركت إدارة بايدن أن عليها تعديل نظرتها وأسلوبها وأدائها إذا كانت ستبني علاقات صحيّة مع السعودية والدول الخليجية العربية التي تزداد أهمية أدوارها داخلياً، وإقليمياً، وعلى الساحة الدولية.

هذه الدول لا ترضخ اليوم للإملاءات الجيو – سياسية بل هي رائدة في رسم التوجهات والشراكات الجيو – سياسية. لذلك تؤخَذ في الحساب جدّياً.

عودةً إلى الطموحات الإقليمية، إن ما تحتاج أي إدارة أميركية، ديموقراطية أم جمهورية، أن تعمل على تحقيقه إذا كانت تسعى وراء “صفقة كبرى”، هو أن تقرّ بأن عليها البدء بخطوات جريئة في علاقاتها مع إسرائيل، وأن تفرض عليها الالتزام بتنفيذ فعلي وجدّي لحل الدولتين لقيام دولة فلسطين بجانب إسرائيل، وألّا تكتفي بالطروحات الأميركية التجميلية التي عهدناها.

نقلا عن النهار العربي