تقترن كلمة الربيع في المدلول السياسي المعاصر بما سمي “ربيع براغ” عام 1968 عندما دخلت الدبابات السوفياتية الأراضي التشيكية، لتذكير تلك الدولة الحليفة بأن الاتحاد السوفياتي ما زال قوياً ويواصل متابعة حلفائه وشركائه التاريخيين.
كلمة الربيع هنا لا تعني فصل الربيع بجماله وحلاوة طقسه ولكنها تتجاوز ذلك إلى التأكيد على أن الحدث الذي يحمل هذا الاسم يمثل أهمية كبرى تكاد تكون بمكانة القلب من الجسد. ولذلك عندما زحف تعبير الربيع العربي على أحداث عام 2011 وما تلاها، أدركنا على التو أن فصلاً جديداً في تاريخ المنطقة بدأ يملي سطوره على الساحة العربية وامتداداتها المحلية بصورة غير مسبوقة.
كانت حادثة بو عزيزي في تونس الشرارة الأولى التي انطلقت منها أحداث ذلك البلد العربي في الشمال الأفريقي، ثم انتشرت العدوى كالنار في الهشيم، فتبعتها مصر بحجمها الكبير وظروفها الصعبة، ثم تلتها ليبيا واليمن في وقت اتخذت سوريا مساراً معقداً للغاية، حيث بدأ الأمر بأحداث درعا وما تلاها من مواجهات بدأت سلمية ثم تحولت إلى دموية، إذ شارك فيها كثيرون من الاتجاهات السياسية المختلفة والتوجهات الفكرية المتعددة، وسيطرت جماعات إرهابية على جزء من الساحة، وأصبحنا أمام وضع معقد للغاية، فإذا بالربيع العربي يتطور ليصبح خريفاً في بعض الأقطار العربية.
الغريب في الأمر أن دولتين وراثيتين هما المغرب والكويت، حصد فيهما التيار الإسلامي الأصوات الأعلى في ذلك الوقت، وكأنما التاريخ المعاصر يقول إن التغيير آتٍ لا محالة مهما كانت الأوضاع القائمة والظروف المحيطة، سواء جاء بالأسلوب الديمقراطي أو بطريقة التغيير الثوري. ولقد دفع العرب ثمناً فادحاً في معظم الأقطار العربية لذلك الربيع الذي جرى إجهاضه مبكراً، ولعلي أرصد هنا بعض الآثار، سلبية وإيجابية، لتلك الأحداث الضخمة التي عاصرناها منذ البدايات الأولى لما سمي ثورات الربيع العربي في المنطقة، ونذكرها في ما يلي:
أولاً: دعنا نسمي ثورات الربيع العربي أنها ثورات إلكترونية جرت خلالها عمليات الحشد والتجميع من خلال وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، وهي قادرة على حشد أعداد هائلة من دون أن تكون لها قيادة واضحة وهذا ما حدث بالفعل، إذ زحف الملايين إلى الشوارع والميادين يباركون الخلاص من أنظمة طال عليها الزمن وانتهت أعمارها الافتراضية وآن لها أن ترحل. جاء ذلك في بعضها سلمياً ولكنه لم يخلُ من العنف في الأغلب الأعم من نماذج أخرى، فسقط القتلى وتكاثر الجرحى وأصبحنا أمام مشهد درامي متوتر، بحيث قفزت القوى المنظمة نسبياً إلى مقاعد السلطة، كما حدث بالنسبة إلى جماعة الإخوان المسلمين في مصر، على سبيل المثال، ولكن لم يدم حكمهم أكثر من عام عندما خرجت الجماهير لتعلي إرادتها ولتقول كلمتها. ولا يخفى علينا أن ثورات الربيع العربي لم تمتلك في بدايتها برامج إصلاحية، ولم تمتلك أيضاً نظرية واضحة في التغيير والحكم، ومضت بشكل تلقائي وفقاً لنظرية الفعل ورد الفعل، فكانت النتيجة هي امتداد لأعمال الفوضى التي سمحت للعناصر الإرهابية بالتسلل إلى صفوف المواطنين الذين خرجوا بنوايا حسنة يطلبون التغيير ويرددون عبارة “عيش… حرية… عدالة اجتماعية”.
ثانياً: الأحداث كانت غير مخططة مسبقاً وجاءت في معظمها كردود أفعال، ولم تفرز مجريات الأمور فيها قيادات جديدة. فكنا نتوقع أن تنتهي أحداث ميدان التحرير في القاهرة واعتصام الملايين في الشوارع إلى نتيجة بديهية تمهد لميلاد قيادات جديدة، تسمح للدول التي عانت كثيراً بأن تنطلق في مسيرة جديدة وفقاً لخطط إصلاحية واضحة، مع ميلاد أحزاب سياسية تأتي من رحم الثورة وتنطلق من الشارع. ولكن ذلك لم يحدث، بل كان البديل أحياناً الفوضى والتخبط وانعدام القدرة على امتلاك الرؤية، الأمر الذي سمح بتسلل عناصر أجنبية، خصوصاً في مجالي الإعلام والتواصل، بحيث أصبحت الصورة كما يريدها أعداء المنطقة وليس حماة شعوبها كما يدعون.
ثالثاً: لا نستطيع أن نرصد تحديداً حجم الخسائر الهائلة التي تعرضت لها الدول من جراء النزاعات المسلحة والحرائق المتعمدة والمواجهات الدامية في كل مكان، حتى أصبحت ضريبة الربيع العربي فادحة بجميع المعايير، وهل ننسى الحوائط الأسمنتية والطرق المغلقة وأقسام الشرطة المحروقة؟ إن الانفلات وصل إلى حد حرق مبنى محافظة الإسكندرية ومساواته بالأرض خلال ساعات قليلة، ونسي الفاعلون أن ما دمروه هو ملك لشعوب جاهد أفرادها من أجل البناء لا الهدم، من أجل الازدهار لا الحرب، فكانت الصورة سلبية في كثير من الأحيان ولا توحي أبداً بالرضا الذي ينتظره الجميع. وفي تلك الظروف المعقدة، غابت الحكمة ومثلما ظهرت أفضل العناصر في البدايات برزت أسوأها بعد ذلك في قطاعات مختلفة، لكي ندرك أن الثورة من دون برنامج إصلاحي لا جدوى منها ولا مبرر لها. وجرى إجهاض بعض المبادرات البناءة والتوجهات الوطنية بفعل العناصر المرتبطة بمخططات أجنبية منذ أن طرحت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس مشروعها الخاص بالفوضى الخلاقة في الشرق الأوسط التي تعني إعادة ترتيب الأوضاع في المنطقة وفقاً لقواعد جديدة لا تنبع بالضرورة من واقع دولها وآمال شعوبها ولكنها تنطلق من حيثيات أخرى مرتبطة بالمشاريع طويلة المدى للقوى الأجنبية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية، ولا بأس من ذلك فلكل دولة أهدافها وسياساتها ولكن ذلك لا يعني أبداً تصدير الثورة المضطربة لتمزيق المناطق المختلفة في عالمنا المعاصر.
رابعاً: واجهت معظم دول الربيع العربي ظروفاً اقتصادية معقدة وصعبة للغاية، خصوصاً مع اقتران الأعوام الأخيرة بجائحة كورونا، ثم الحرب الروسية – الأوكرانية في أوروبا وما تعنيه من أخطار تصل إلى حد التهديد باستخدام السلاح النووي في مرحلة معينة، وهو أمر لم يكن مألوفاً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. بل إنني أكاد أرى أن الأوضاع في شرق أوروبا تشبه إلى حد كبير تلك التي كانت عليها في سنوات ما قبل الحرب العالمية الأولى مباشرة، والخلافات القومية والصدامات العرقية التي كنا نتصور أنها زالت وجرت تصفيتها تماماً حتى في القارتين الأفريقية والآسيوية، ولكنها بدأت تطل برأسها من جديد على الساحة بصورة تعطي الإحساس بأن المستقبل يحمل في طياته احتمالات سلبية، تدفع ثمنها الدول العربية، خصوصاً تلك التي عاشت تجربة الربيع العربي بما له وما عليه.
خامساً: لعلنا نرصد من النتائج الإيجابية نجاح الحرب على الفساد الذي خلفته بعض الأنظمة السابقة. فلقد كان من ميزات أحداث الربيع العربي أنها أحدثت صحوة وخلقت وعياً يدور حول مواجهة القضايا والمشكلات والأزمات، والحديث عن أن الثالوث الذي يهدد بلادنا هو الإرهاب والإهمال والفساد. ولقيت هذه النظرية رواجاً كبيراً، خصوصاً أن الأغلب الأعم من الأجيال الحالية هم شهود على ما جرى وما يجري في المنطقة. فوصل الفساد إلى حد يزكم الأنوف ويطيح التنمية الاقتصادية المستدامة في الدول المختلفة، لذلك فإن الربيع العربي يحسب له أنه دق الناقوس لإيقاظ المنطقة وتسييس الأفكار العامة للناس، بحيث يستطيع الجميع مواكبة توقعات المستقبل بكل ما فيه من قضايا مطروحة أو إشكاليات غامضة، تدور في معظمها حول عدد سكان الكوكب وتحجيم ذلك العدد بما يتلاءم مع إمكانات الأرض والمياه والطاقة والتغيرات المحتملة في المناخ والتي بدأت بوادرها تطل على الإنسان في كل مكان.
هذه رؤيتنا بعد أكثر من عقد كامل على اندلاع أحداث الربيع العربي بما لها وما عليها، وربما تكون غير قابلة للتكرار لأن الشعوب أدركت أنها دفعت ثمناً باهظاً في انتفاضات غير محسوبة لا تحمل نظرية إصلاحية ولا يقودها فصيل وطني يدرك ملامح الغد ويستشرف رؤية المستقبل.
نقلا عن اندبندنت عربية