2022 كان عام تحوّلات عربية لا تزال في بدايتها لكنها الأكثر وضوحاً منذ عام 2011. فالنظام العربي الرسمي كما هو معروف لا يزال قائماً شكلياً وكانت قمة الجزائر من أبرز تجلياته، أما ما يتأسس ويتطور فهو نظام المصلحة العربي، وركيزته دول مجلس التعاون الخليجي بدور حيوي للسعودية والإمارات مع مصر والأردن وتناغم كبير مع المغرب، وبداية تناغم مع العراق عندما كان مصطفى الكاظمي رئيساً للوزراء، لكنها انقطعت الآن لأن خلفه محمد شياع السوداني يعمل وفقاً لأولويات حلفائه في ائتلاف الميليشيات الإيرانية أو ما يسمّى “الإطار التنسيقي”. ومع أن نظام المصلحة هذا لم يعلن عن نفسه كبديل أو وصيف لأي نظام آخر، إلا أن شكله بدأ يتضح في قمّة جدّة مع الرئيس الأميركي (منتصف تموز/ يوليو) ثم عاد إلى الصيغة التقليدية في قمّة الرياض مع الرئيس الصيني (كانون الأول/ ديسمبر)، ربما رغبة في التعبير عن اتساع آفاق الصداقة الصينية – العربية.
ولعل أهم التحوّلات تأكد في سياق الأزمة الناجمة عن الغزو الروسي لأوكرانيا، فمنذ البداية تجنبت الدول العربية الأساسية الجهر بمواقف انحيازية أو الانخراط في أي استقطاب بين شرق وغرب، وكان هذا هو الموقف الذي أبلغه الوفد الوزاري العربي إلى كل من موسكو وكييف بعد مشاورات في مقر الجامعة في القاهرة. وكانت هذه المشاورات قد أقرّت مبدأ عدم القبول بالاعتداء على أرض الغير أو الاستيلاء عليها بالقوة، وما لبث هذا الموقف أن استُكمل وتبلور أكثر في مناسبات عدة، منها في التصويت أو عدم التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة أو في مجلس الأمن لمصلحة روسيا أو ضدّها. لكن الاختبار الحقيقي الذي تعرّض له كان في قرار “أوبك +” (تشرين الأول/ أكتوبر) خفض إنتاج النفط نزولاً عند مصلحة خليجية عربية حتى لو كانت مخالفة للرغبة الأميركية. ليس سهلاً الوقوف على الحياد بين الدول الكبرى، ما لم يكن ذلك بإرادتها، لذا ينبغي الحذر، فالولايات المتحدة تُظهر اعتراضاتها وتهديداتها، أما الأطراف الأخرى فقد تؤذي بتطوير تحالفاتها الإقليمية من دون أي تحذير سابق.
هناك أبعاد إقليمية واضحة في التحوّلات العربية، وقد تأكد منها نهج الانفتاح على دول الإقليم، ولا سيما تركيا التي أجرت مراجعة عميقة لأدائها مع تيار الإسلام السياسي خلال العقد الماضي. وكان هذا المسار قد تأخّر بسبب اعتقاد أنقرة أن صعود الإسلاميين والإخوانيين في أكثر من بلد منحها ميزة ونفوذاً على المستوى العربي، غير أن الإخفاقات التي تعرض لها هؤلاء الإسلاميون أدّت إلى تراجعهم، من مصر والمغرب إلى تونس والجزائر والسودان، أما بقاؤهم في المشهد السياسي الليبي فيبدو الورقة الأخيرة في يد تركيا، لكنه يوضح عملياً لماذا يستحيل التوصل إلى حلول للأزمة المستمرّة منذ 2014، فالإسلاميون لم يعودوا عنصر توافق في أي بلد.
بالإضافة إلى تركيا، هناك إثيوبيا وأزمة “سد النهضة” بينها وبين مصر والسودان، وقد ساهمت أطراف عربية عدة، بينها الجزائر، في التوسّط لحلّها، غير أن الدور الأبرز والمستمرّ من دون انقطاع هو للإمارات وللسعودية، وهو ما توصّل إلى تهدئة الأزمة وتغيير طريقة معالجتها ولو بعيداً من الأضواء الإعلامية، وذلك على قاعدة عدم الإضرار بمصر ولا بالسودان، وانطلاقاً من الحفاظ على علاقة مع إثيوبيا كدولة متقدمة وواعدة، وأصبحت لدول الخليج مصالح واستثمارات على أرضها.
كان يمكن أن تكون إيران الدولة الإقليمية الأخرى التي يجري الانفتاح العربي عليها، نظراً إلى تداخل المصالح والخلافات وإلى ضخامة الصراع بينها وبين العرب عموماً، لكن إيران لم تعطِ يوماً أي إشارة الى كونها راجعت سياساتها، بل لا تزال تفاخر بسيطرتها على أربع عواصم عربية، لذلك لم تكن يوماً جاهزة لحوار متكافئ وهادف ولا لعلاقات طبيعية مع جوارها أو مع العالم، وبعدما انحازت إلى روسيا في قضية أوكرانيا، وتشددت في المفاوضات النووية فأضاعت أهم أهدافها، وهو التخلّص من العقوبات الأميركية، علّها تستعيد حيويتها الاقتصادية، ها هي الآن مربكة عميقاً بأحوالها الداخلية في “قضية مهسا أميني”، أو قضية المرأة والحريات، ولا تبدو سياساتها أو خياراتها فيها بأفضل من تلك التي اتخذتها في ملفات أخرى.
ثم إن هناك الانفتاح على إسرائيل، سواء باتفاقات سلام مع الامارات والبحرين أم بتطبيع العلاقات مع المغرب وبداية تطبيع مع السودان. لكن من الواضح أن إسرائيل لم تراجع نهجها ليتناسب أكثر مع هذا الانفتاح العربي عليها، فهي تركز خصوصاً على الأمن والتجارة والمبيعات العسكرية مع الشركاء العرب الجدد، ولا تبالي بانعكاسات سياساتها وممارساتها كسلطة احتلال ضد الفلسطينيين. وإذ تقف فلسطين الآن على عتبة مرحلة خطيرة مع وصول اليمين الديني المتطرف إلى السلطة، فإن لدى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مخاوفهما وتوجّساتهما وخطوطهما الحمر حيال خطط الاستيطان وفرض التهويد على القدس، بما يشمل المسجد الأقصى والأماكن الدينية المسيحية. وليس واضحاً متى وكيف يمكن أن يتحرك الأميركيون والأوروبيون، لكن المحذور وقع في إسرائيل وجاء الدينيون المتطرفون لإضفاء ثوب “القداسة” على إنجازات العسكر، أو بالأصحّ لتكريس حال الاستعمار ومنع مرور أي مشروع سلام، لا “حل الدولتين” ولا الدولة الواحدة ولا حتى حكم ذاتي بأدنى شروط الحرية والسيادة.
هذه التحوّلات لا تزال إذاً في بدايتها ولم تصنع بعد ملامح “استراتيجية عربية”، إذا جاز القول إن هناك بحثاً فعلياً عن استراتيجية. فالحياد على المستوى الدولي مكلف، خصوصاً لأن الأطماع في الثروات لا تزال هي محرّك السياسات تجاه المنطقة، والانفتاح إقليمياً كان مطروحاً ومطلوباً منذ ما قبل 2011، لكن كان هناك دائماً إشكالان: إسرائيل وإيران، وكلتاهما تطالب العرب بتنازلات تاريخية، فإذا قبلوا بالتنازل للأولى عن حقوق شعب عربي، فإنهم سيضطرّون للتنازل للأخرى عن حقوق أكثر من خمسة شعوب عربية على الأقل.
في أي حال ينبغي التفاؤل بالتوجّهات العربية الجديدة نحو التمايز وتحقيق المصالح الوطنية، ويُفترض تطويرها والبناء عليها. ومن ذلك عدم نسيان أن الدول مرّ بها قطار “الربيع العربي” ولم تتمكّن من تخطّي المعضلات التي تركها، خصوصاً في الاقتصاد والعملة الوطنية. ولا بدّ من الإشارة خصوصاً إلى ثلاث حالات تتطلب عناية فائقة: ليبيا حيث تلتقي الأطراف المحلية مع الخارجية على إبقاء الوضع “السرطاني” على حاله، وتونس التي لم تكن محظوظة بإسلامييها ولا بليبرالييها، ولبنان الذي يجب ألا يُعامل على أنه “جيبٌ” إيراني وإلا فإن ذلك يعني زواله.
نقلا عن النهار العربي